لقد أثار مقالي حول (دراسات استشراقية في المذهب الإباضي 1-3)؛ الكثيرَ من الضجة وردات الفعل، والتهم الصريحة بالطائفية، وغير ذلك؛ لأن هناك من الناس من يعتقد أن الآراء المذهبية هي ممتلكات ومقدسات، وهذا فهم مغلوط إن جاز أن أسميه فهما، لقد كان هدفي في المقال الأول وضع المقالات الاستشراقية في إطار تصور القارئ، والكشف عن قضية الانتحال؛ ولاستيعاب ذلك؛ كان ينبغي أن تقرأ المقالات لاسيما المتعلق بالفقرة موضوع الرد. إنني سأقف في هذا المقال على بعض التوضيحات اللازمة وبكل إيجاز؛ محاولا الوقوف على مقال الدكتور سيف الهادي، والأستاذ محمد الحجري؛ لأن مقاليهما قد اتسما بدرجة مقبولة من العلمية وحاولا علاج الموضوع بشيء من المنهجية، وبشيء من العاطفة أيضا؛ وإنني في هذا السياق أشكر لهما؛ فقد أسهما من حيث لم يشعرا في إنتاج دراسة شبه مكتملة؛ رغم أنهما قد خرجا عن الموضوع، وسوف أتجاهل المقالات الشعبية الغريبة كالذي كتبه إسماعيل الأغبري؛ حيث أثار استغرابي؛ بتلكم الألفاظ التي تمجها الأسماع، وترفضها الطباع، ويندى لها الجبين بأسلوب هستيري عجيب، وأعتقد جازما أن المذهب الإباضي في غنى عن دفاعات الأغبري؛ فليحتفظ بها لنفسه، ولولا خشيتي أن تكون سابقة بين المثقفين لكان للقانون رده؛ وقبل الخوض في بعض التفاصيل؛ عليّ أن أضع بين يدي القارئ بعض المرتكزات وأن أنبه إلى أن النقول (النصوص) في نهاية المقال إنما هي لتقويض الزعم من أن الفقرة من (بنات أفكاري) وهو هدف المقال الأساسي؛ كما لزم التنبيه إلى أن هذه الممارسات الطقوسية تمثل الأمازيغ، ولا تمثل أصول المذهب الإباضي في مدوناته؛ وهذه المرتكزاتُ:
أولا: لماذا نشرت وزارة الأوقاف هذه الكتب الاستشراقية التي تتعلق بدراسات شمال أفريقية؟ هل النزعة المذهبية وراء ذلك؟ فهذه الوزارة التي يفترض أن تكون مؤسسة حكومية عامة تعنى بمصالح الشعب بكل أطيافه؛ ليس لها من هم إلا نشر الكتب الأحادية الاتجاه؛ ولو أنها فعلت ذلك من تراثنا العماني بالتحقيق والدرس لكان ذلك خيرا؛ ولكنها عمدت إلى كتب استشراقية عن شمال أفريقيا؛ فنشرتها دون تريث، أو معرفة بمضامينها التي قد تعلمها الأجيال مستقبلا؛ زد على ذلك، قضية الانتحال وادعاء التحرير؛ وهنا؛ إذ يتحدث الدكتور الهادي، والحجري عن الوحدة الإسلامية، يتبادر منطقيا سؤال في غاية الأهمية: ما علاقة المنهج العلمي بالوحدة الإسلامية؟ فإذا كان مقالي يمزّق الوحدة الإسلامية التي هي من مشروعاتكم العظيمة؛ فإذن بالمنطق نفسه أتساءل: لماذا يتم نشر كتب مذهبية عبر وزارة الأوقاف وهي مؤسسة خدمية عامة معنية بكل أطياف المجتمع؛ ألا يمزق هذا النشرُ الوحدة الوطنية؟ فأين تجد المادة القانونية التي تؤيد هذا الاستغراق في نشر المطبوعات المذهبية خلال أربعة عقود؟ فإن قلت: إنها علم وثقافة؛ فذلك يعني أنها خاضعة لمنطق النقد والعلم والقراءة؛ وفي الحالتين لا يوجد منطق وراء هذا الضجيج المتعمد لإخفاء بعض السوءات؛
ثانيا: ما المذهبُ؟ وللإجابة عن هذا التساؤل؛ نستطيع القول: إن مجموعة الآراء والاجتهادات والتأويلات ومنطلقاتها التاريخية والظرفية الجغرافية، وغيرها من العوامل؛ هي التي شكلت المذهب؛ إن موطن المذهب بطونُ الكتب المرجعية لمذهب محدد؛ وهنا؛ كما نفرق بين الدين والتدين؛ نفرق بين المذهب والتمذهب؛ فلا ينبغي أن تمثل طائفة محددة من البشر مذهبا لمجرد انتمائها إليه بشتى ممارساتها الموغلة في المتغيرات التاريخية؛
ثالثا: وباعتبار ما سبق؛ فلا يجوز لي، ولا ينبغي أن أدافع عن الحنفية في أقاصي آسيا بممارساتهم الغريبة والتي قد تتناقض مع الدين أحيانا لمجرد كونهم حنفية؛ وعليه فليس من الحصافة أن أدافع عن الأمازيغ بشتى ممارساتهم لمجرد انتمائهم التاريخي للمذهب الإباضي؛ ونقد هذه الممارسات تاليا؛ لا يعني نقد المذهب بحال من الأحوال؛ وإن كان نقد المذاهب أمرا لازما علميا؛
رابعا: لا يعد المذهب الإباضي من ممتلكات الإباضية؛ كما لا يعد المذهب الحنفي من ممتلكات الحنفية؛ وإنما المذاهب هي عطاء إنساني، وتراث معرفي؛ يخضع للدرس والتمحيص؛ وإنه لمن الهشاشة أن أستفز عند كل درس علمي، أو رأي منهجي؛ ولا أعتقد أن المذهب الإباضي في رحلته الطويلة خلال (14) قرنا من الزمان، وبكل عطائه ومدوناته لا يستطيع أن يقف في وجه التاريخ؛ وإنما تتجدد المذاهب بالنقد، وبالجسور المعرفية المقارنة؛ لذا فإذا تسامحنا عند هذا الاعتقاد الخاطئ مع العامة؛ فإننا لا نستطيع أن نتصوره من المثقفين؛ فضلا عن العلماء والباحثين.
وأخيرا: لقد كنت أمينا في النقل، والبرهنة على ضرورة الانتباه لهذه الآراء؛ التي قد لا يقبلها البعض، ولكنها حقيقة ماثلة في الدراسات الاستشراقية، وبعيدا عن واقعها؛ فإن منهج المقال كان واضحا من الوهلة الأولى في عرضه لهذه الآراء والتنبيه عليها؛ وإن في ثنايا الصفحات من الكتب المنشورة آراء ربما تكون أكثر فداحة؛ وأعتقد أن مجتمعنا الذي قمنا ببنائه على التمذهب، والانغلاق، ورفض النقد، لا يستطيع تحمل تلك الدراسات؛ لذلك فأنا على يقين أن الوزارة لم تقرأ جيدا تلكم الكتب بقدر حرص مسؤوليها على الظهور في صفحاتها الأولى؛ لذا فأنا أرفض فرية الطائفية التي وجهها إلي البعض دونما دليل أو برهان؛ وأدعو إلى قراءة السلسلة ولا سيما الجزء الثالث (98-132) وتأملها؛ وأن يكون موضوعيا في تأملاته؛ إن مقالي الذي أخذت منه الفقرة (قميص عثمان) إنما ينطلق من ملاحظات المستشرق موتيلينسكي؛ ولا علاقة لي إن كانت تلكم الملاحظات صادقة أم كاذبة؛ فأنا أطرح مضامين هذه المقالات الماثلة أمامكم بأدلتها؛ وما يُرمى إليّ من تهم أن الفقرة من محض آرائي ليس بصحيح؛ ولا زلت مصرا على أن قراءاتكم التي من خلالها تسطرون مصادراتكم قراءات مغلوطة غير صحيحة؛ فأخذ البعض يدافع عن الأمازيغ؛ فيخرج خارج موضوع الدرس الذي هو السلسلة المنشورة في دار الغشام؛ فهي مدونة المقال؛ وما كنت أتوقع أن يقع الدكتور سيف الهادي في مثل هذا التخليط المنهجي وهو يحمل شهادة علمية؛ إن الدكتور الهادي؛ يريد ترسيخ مبدأ الدفاع عن عقائد الأمازيغ بكل السبل؛ وبين الدكتور أننا أمة تمحص الأخبار والبلاغات باصطلاحات المحدثين؛ حيث إننا أصحاب منهج رباني؛ وبما أن الأمر كذلك؛ وقد استندتَ إلى طائفة من الآيات العامة التي تتعلق بالمعاملات والأخلاق؛ ولا علاقة لها بمناهج العلم؛ فإنني أتساءل حيران أسفا؛ فلماذا قامت الوزارة الموقرة بنشر هذه الطائفة من المقالات دون تمحيص مع وجود بعض المخالفات العقائدية فيها؟ وهل تمثلنا هذه العقائد أم تمثل الأمازيغ؟ وأما قولك (لن يكون ردي على هذه الفقرة من منطلق أنها كتبت عن الإباضية الأمازيغ؛ وإنما لأنها لا تتحلى بالمنهجية العلمية أبدا، وبالتالي شكلت جناية كبيرة على أمة بريئة بدعوى أنها استنتاج علمي أكاديمي) فأقول لك أنها عبارة غير صحيحة من عدة وجوه: أولا: نحن لا نعلم شيئا عن منطلقاتك الخفية، ولكننا سنقف على ظاهر العبارة، وهي قد لا تخلو من عاطفة؛ ومع ذلك فإن الصراحة العلمية ضرورة منهجية في هذا المقام؛ ثانيا: أن هذه الكتابات منشورة بين الأمازيغ أنفسهم؛ ففي حين أنك تدافع عن القوم؛ فإن مدوناتهم، ومقالاتهم تقر بالنقيض[iii]؛ ثالثا: (وهو مكرر)؛ بما أن هذه الكتابات انتهاك لأمة بريئة حسب زعمك؛ فإذن وجّه هذا الاتهام إلى عبدالرحمن السالمي ووزارة الأوقاف؛ وأما ما يتعلق بنقدك لقصة الغرانيق كونها وردت في كتب السنة؛ معتقدا أنني سأدافع عنها؛ فإنني أتساءل ألم تقرر بذاتك أننا أمة تمحص الأخبار؛ فإذن كيف تخالف منهجك وأصلك هنا؛ فتستخدم الحجة ونقيضها في آن معا؟ ثم انظر بأي سياق وردت هذه القصة في مدونات الحديث؛ في سياق النقد، أم في سياق القبول؟ ولا أدري أوقعت في وهم أم تعمد تدليس حين نسبت القصة إلى الصحاح، وربما لأنك لست من أرباب هذا الفن؛ فإنني أحيلك وأحيل القراء إلى رسالة الألباني (نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق)؛ لتعلم أن الصحاح بريئة من هذا الوهم، وتقول: (بيد أنها هنا وفي هذه النتيجة بالذات ليس ثمة مقدمات أو معطيات صحيحة) ونسيت أنك أمام عينة أو مدونة تاريخية؛ من خلالها تم الانطلاق إلى النتيجة، وما يثير الغرابة والدهشة ادعاؤك أنها مبنية على الفكر الأسطوري وخيال الكاتب؛ ولم تبرهن فيما يتعلق بدولة بني مسالة شيئا، ولم تقرأ ما خطه المستشرق؛ بل تشعبت في أودية لا علاقة لها بالموضوع أبدا؛ ولم تلاحظ حذر الكاتب العلمي إذ يقول:(بيد أنني أعتقد… قد بالغ.. ولعلي أكون مخطئا..) ولو دققت النظر لوجدت أنني أنتقد المستشرق ولا أقبل رأيه؛ فهل أنت متفق معي؟ أم مع المستشرق؟ أرأيت تناقضك الشديد؟
وأما مقال الحجري فقد جاء في (1500) كلمة تقريبا؛ لم يناقش فيها إلا فقرة أخيرة مركبة من كلام المستشرق؛ ظنا منه أنها من بنات أفكاري، وخلّط فيها تخليطا واضحا بين الظاهرة الوثنية، والخرافة، وبين الإباضية في عمان، والإباضية الأمازيغ، وترك الظواهر المنقولة في مقال المستشرق إلى سرد شعوره الانتمائي للمذهب متوسلا بكلمات يحاول بها لفت الانتباه من مثل: (عطب المنهج؛ وانتهازية القراءة؛ واستنتاجاته؛ مشبعة بخلل المنهج؛ ولما احتوته من أحكام ومزاعم قُصد منها أن تنشئ معنىً وتصوراً محدداً؛ الترّهات؛ لأنه لا قيمة لها أصلاً؛ فذاك مقام علمي لم تصل إليه ولم تقترب منه؛ عُوارها المنهجي؛ يقيم الحجة على مزاعمه؛ يدل على تقصد وإصرار؛ خلطه الفادح بين العقائد والممارسات الوثنية؛ الخلط وتقصد التشويه؛ حالة الترصد والانتهازية؛ حالة الترصد والخلط؛ المشكلة المنهجية؛ قراءته غير النقدية وشبه الاحتفائية؛ عُقد الانحيازات المذهبية؛ دون تبصّر وتمحيص؛ تلك العبارة وما حوته مزاعمها وادعاءاتها وتلبيسها؛ تعبئة هذه المقولات المنتهية الصلاحية في عبوات جديدة؛ تحاول أن تتزيّا بلغة البحث العلمي الحديثة؛ الصور المنتحلة التي مزقت الأمة وصنعت بينها الشقاق والتصدعات) وهنا أتساءل ما علاقة هذه العبارات الشاطحة بالمنهج العلمي وقد سطرت عنوانا تدعي فيه مناقشة المنهج؟ ولماذا تحمل في مضامينها اتهاما مبطنا للكاتب بالطائفية، وأيدت ذلك بزعمك في ختام مقالك؟ ما المشكلة حينما نطرح رأيا علميا منشورا في سلطنة عمان وضمن المؤسسة الدينية؟ ولو طلبنا إليك تصنيف تلك العبارات المنثورة في مقالك؛ فأين تضعها: في المنهج العلمي أم في الشتائم والمهاترات؟ أترك الإجابة للقارئ المنصف
وقبل الدخول في تفاصيل أخرى؛ يلزمنا التوضيح أن الفقرة التي تغنى بها القوم، واستقطعوها من المقال؛ إنما هي مستقاة، وبشكل أكثر تلطيفا من مقال موتيلينسكي، وسوف أبرهن على ذلك؛ لذا فإن قراءة علمية متأنية وعقلانية خارج الانتماء المذهبي سيجعلك بعيدا من مغبة الوقوع في رمي الكاتب في أخلاقه، أو إيمانه، وغير ذلك مما وجدته بعد المقال من البعض؛ إذ تتشكل الفقرة من مقدمة منطقية؛ واستنتاج محتمل يفتح آفاق البحث في المستقبل:
1. أما المقدمة فهي تتمثل في ملاحظات موتيلينسكي من الوثنيات الأمازيغية؛ ولو أنه كلف نفسه ورجع إلى غلاف السلسلة؛ لوجد أن المقالات كلها تندرج تحت القضايا التاريخية والدينية للإباضية الأمازيغ في شمال أفريقيا؛ وأن مقال المستشرق يتكون من (تقديم عام) حول الوثنيات القديمة و(عرض تاريخي من مصنفات الإباضية في الغرب الإسلامي؛ ليبرهن على استمرار الظواهر الوثنية) و(خاتمة) سيجدها في نهاية المقال؛ يؤكد فيها طرحه؛ وإذا كان السالمي وغيره من القراء يعتقدون بأنها مشينة؛ فلماذا ينشرها في سلطنة عمان؟ ما علاقة المواطن العماني بالأمازيغ؟
2. وأما النتيجة أو الاستنتاج الاحتمالي؛ فهو نوع من الفرض؛ الذي يفتح الآفاق؛ ويتأمل العلاقة بين (الظاهرة الأمازيغية) وبعض الخرافات الدينية عندنا في سلطنة عمان؛ لذلك لاحظ؛ أنني قد وظّفت في الاستنتاج الاحتمالي المصطلحات: (بعض الأساطير والقصص، حديث الأوثان؛ وكرامات الأولياء، والشخصيات التي تولت الإمامة في عمان؛ (وقلت) إنها قد حيكت في فترة لاحقة تأثرا بكتابات الشماخي وغيره من إباضية الأمازيغ ) عليه؛ فقد أكدت هذه القضية بالدعوة إلى الدراسة والتمحيص؛ فإذا خفي هذا البناء المنطقي على عامة الناس؛ فكيف يخفى على رجل يتهم الكاتب بالعطب المنهجي والانتهازية؛ ألا يفترض أنك بارع في الإشكالات الدراسية والمشكلات البحثية؟ وحتى نكون قد سلكنا منهجا واضحا؛ فلنقف (الآن) على أهم محاولاته التي أعذره فيها؛ وألومه في الوقت ذاته؛ حيث الدفاع عن مذاهبنا الإسلامية دفاع يكتنفه الغموض، واللاجدوى وسط تراكمات تاريخية نحتاج إزاءها إلى مراجعة الذات؛ فإن هذه الظواهر غير مقبولة من أحد من المسلمين؛ بسبب دخول الخرافة على صفاء النص، والأدلجة السياسية من أبواب الإسلام الحركي، وأعتقد أن الدين روح سامية وأخلاق ومعاملات، وليس مذهبا أو مدرسة نرهق أنفسنا بالدفاع عنها أو عنه، وأعتقد أن أبرز محطات الكاتب (=الحجري) وبعباراته:
- هذه العبارة تملك استقلالية خاصة بها وتنشئ معنى جديداً، وتعبر عن رأي قائلها وتصوره تجاه الإباضية، بغض النظر عن مستنده في هذا الرأي، فالتلقي غير النقدي لآراء المستشرقين وقبول مقولاتهم دونما تمحيص هو خطأً مضاعف وليس عذراً لقائله، بل إنه هنا توظيفٌ لتلك الآراء وليس تحليلاً لها، هذا مع تأكيدنا أن العبارة الواردة تنشئ معنى مستقلاً ولا يقتبسها عن غيره.
- ولست هنا في معرض الرد والنقاش لهذه الترّهات، لأنه لا قيمة لها أصلاً، ولا تستند لأي مستند علمي يُحَلل ويُنَاقش ويُفَند بأدوات التمحيص العلمي، فذاك مقام علمي لم تصل إليه ولم تقترب منه، ولكننا نعلق عليها من جهة ونشير إلى عُوارها المنهجي من جهة أخرى.
- من الأدلة على هذا التقصد والترصد خلطه الفادح بين العقائد والممارسات الوثنية التي حكى ممارسة بعض الإباضية لها حسب زعمه، وبين مسألة كرامات الأولياء التي رأى أن وجودها في التراث الإباضي المشرقي العماني دليل على تأثير تلك العقائد الوثنية القادمة من المغرب!! والسؤال هنا هل ثمة مذهب أو مدرسة أو شعب من المسلمين يخلو تراثه المعرفي والاجتماعي من فكرة الكرامات؟! إن كل مذاهب الأمة وشعوبها بلا استثناء لديها إيمان بكرامات الأولياء، وهو موجود لديها تنظيراً وواقعاً، حتى مع المدرسة الأثرية صاحبة التأويل الحرفي لنصوص القرآن والسنة سواءً الأقدمون منهم والمحدثون
- ومن الأدلة على تعمد الخلط وتقصد التشويه جعله من قصة أوثان الصحابي مازن بن غضوبةiv] دليلاً على أثر الوثنية في التراث الإباضي المشرقي!! بينما هي في الحقيقة تجسيد لرفض الوثنية ولسقوط عقائدها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام أهل عمان الطوعي.ومن الأدلة على حالة الترصد والانتهازية أن كاتب المقال احتفى بدراسة للمستشرق “موتيلينسكي”
ولك أن تلاحظ أن هذه البنود تتمثل في الادعاء أنني متقصد؛ انتهازي؛ خالط بين العقائد والممارسات؛ مشوه؛ أعاني من حالة الترصد؛ ولا أكتب إلا الترهات؛ غير موضوعي حيث لم أنقل نقلا أمينا لآراء المستشرق؛ وفي ذات الوقت يدعي وبشكل متناقض أنني لم أعلق! ونستطيع تقسيم الرد منهجيا إلى طائفتين: الطائفة الأولى تتعلق بالبند الثالث؛ والرابع بشأن الخلط بين الممارسات والعقائد؛ ولا أدري كيف عرف الخلط وأنا قارئ، وعارض لمقال استشراقي بكل طرحه؛ وكيف له أن يتعرف على العقائد إلا بالممارسات؟ وفي هذا السياق يدعي الكاتب أن قضية الخرافات التي نسجت حول الشخصيات الدينية والسياسية غير موجود، وأنه محض ادعاء مني، وأن قبور الأئمة غير معلومة، وقد أوقع نفسه في إشكال غريب؛ ويمكن الرد عليه من خلال الآتي:
أولا: يذكر الإمام السالمي (رحمه الله تعالى) في (التحفة ط2000) شهر بين الخاص والعام أنه يشاهد نور ساطع صاعد لنحو السماء على المقبرة التي فيها قبر الإمام ناصر بن مرشد وغيره من الأئمة، وذلك أمر مشاهد؛ أما أهل نزوى فلا يستغربونه؛ لأنهم قد ألفوا رؤيته وإنما يستغربه الوافد إليهم لشدة ما يرى من الأنوار (ص47) ولن أتساءل عن النور بل أدعه للقارئ الذي يعلم تماما تشدد العقيدة في سد الذرائع؛ لا سيما القبور؛ ولكنني أستغرب ادعاء الكاتب أن قبور الأئمة غير معلومة؛ بل هي معلومة، وحولها حيكت الأساطير والخرافات، ويذكر الإمام السالمي (رحمه الله) موضع قبر سلطان بن سيف (ص121) لذلك أنصحك أن تتبع هذه المواضع في تحفة الأعيان لتدرك أنه لا مستقر لادعائك؛ هذا في جانب عمان؛ وأما في جانب إباضية الغرب الإسلامي؛ فلا أدل على وجود المشاهد مما سأذكره من نصوص لموتيلينسكي، وما يتعلق بكتاب: (تسمية مشاهد جبل نفوسة: دراسة في وثيقة مجهولة المؤلف) للمستشرق روني باسيه، ضمن منشورات مؤسسة تاوالت سنة 2004؛ فكيف يستقيم ادعاؤك أن قبور الأئمة غير معلومة؟ وأنا أعتقد أن كل المجتمعات البشرية تمارس الخرافة بنسب متفاوتة؛
ثانيا: مسألة كرامات الأولياء؛ التي تدافع عنها دفاع المستميت، وفي الآن ذاته تعتقد بوجودها في كل المذاهب، ولا أدري كيف اعتقدت أنني أقبلها وفق مذهب محدد وأرفضها من مذهب آخر ؛ إن الكرامات تعني فتح أبواب الخرافة ونسجها في هذه الأمة التي تقتات على الخرافة، ويعني ذلك تكوين تكتلات سياسية حركية بدعاية خرافية؛ كما أن الكرامات تحتاج إلى اليقين والنقل الصحيح؛ وسوف أسوق لك مثالا من كتاب الإمام السالمي (رحمه الله تعالى)؛ إذ يقول: وحدثني (الثقة) أن أربعين رجلا من خيار أهل الباطنة من أهل البطحاء ذكروا الشراء فرغبوا فيه، وتعاقدوا عليه، فقام عليهم أقاربهم ليمنعوهم؛ لظنهم أنهم لا يقوون عليه؛ فأبوا إلا الشراء، وتعاقدوا عليه، وأخذوا لأنفسهم أكفانا، وخرجوا ليأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، وقصدوا إلى إخوانهم من أهل القرط؛ فحين اجتمعوا على ذلك وأخذوا في الخروج إذا هم بطير أبيض يسير أعلا رؤوسهم يتبعهم حيث ساروا… (القصة) في تحفة الأعيان (ص238-239) ولك أن تتساءل: من الثقةُ الذي ينقل عنه الإمام السالمي في التحفة؟ إنه مجهول الحال والعين، وينقل أمرا عاما كان على الناس أن يشاهدوه ويشتهر بينهم؛ فلماذا لا ينقله إلا الثقة؟ وإلى أي مدى يمكننا أن نثق بهذه الكرامات الغريبة التي تسعى للأدلجة الحركية، وفي ذات الوقت نرفض الحديث الآحاد عن النبي؛ ألا يعد هذا عمق التناقض العلمي؟ ولك أن تستحضر سائر القصص في كل الكتب المذهبية لتجد هذا السيل الجارف من الكرامات التي تؤسس للخرافة، وتناقض الدين، كما أنني لست الأول والأخير في مناقشة هذه الروايات، والأئمة بشر كما أنهم يصيبون في الاجتهاد؛ فإنهم يخطئون أيضا! والأغرب من ذلك أن الدكتور الهادي يجعل استجابة الدعاء كرامة، وكان ينبغي أن يعلم أنها قاعدة (ادعوني أستجب لكم)؛ فماذا تنتظر إذن بعد الدعاء، وكأن الله يستجيب للخاصة ويتجاهل العامة!
ثالثا: ما يتعلق بحديث أصنام مازن بن الغضوبة، ودفاعك عن ذلك؛ وظنك أنها قصة تؤيد مسار التوحيد؛ فإنني أقول لك ليس الأمر كما حسبت؛ والدليل على ذلك:
- ظاهر كلام الإمام السالمي (رحمه الله تعالى)؛ يدل دلالة واضحة على عدم ثقته بالقصة والنقل؛ حيث صدّر نقله بقوله نصا: (ذكر، والله أعلم..) ص50، ولك أن تقرأ في سائر النقول التي يوردها الإمام السالمي في التحفة؛
- القصة تخالف ظاهر القرآن؛ إذ لا يعقل أن يكسر سادن الأصنام تلك الأوثان بعد عشرات السنين حين نطقت؛ فالنطق منها دليل الألوهية؛ ولذلك فقد جاء في القرآن وفي سياقات عدة ومن أبرزها: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)؛
- لماذا يخاطب الصنم مازنا شعرا أو سجعا؛ وهل تتوافق هذه النقول مع السمات الفنية للكلام مع ذلك العصر؟ ثم انظر؛ لكي تعلم مدى التأثر والتناص مع القرآن في قول مازن: (كسرت باجر أجذاذا وكان لنا…)[v] واتل قوله تعالى (فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم) وحينها تدرك بأنها حكايات كتبت في فترة لاحقة متأخرة، ولك أن تلاحظ ما جاء من كلام مرفوع إلى النبي؛ لتدرك أنها لا تتلاءم مع جلال النبوة، وفصاحة العرب؛ (القصة في التحفة ص50-53)؛ لذلك فإن العوتبي كما يشير الباحث أحمد النوفلي؛ هو أول من دون قصة مازن بن الغضوبة في التراث العماني؛ ومع ذلك فإن شخصية مازن بن الغضوبة غير واضحة المعالم، وأن الطريقة التي عولج بها تاريخه تحتاج إلى نظر؛ انظر (أقانيم اللامعقول ص285-286) كما أن آخرين من الباحثين قد وقفوا على هذه القصة وقفة نقدية؛ مثل الباحث خميس العدوي في بحثه غير المنشور حسب النوفلي؛ بعنوان: (هل تكلم الصنم؟)؛
- وفي هذا السياق تجب الإشارة إلى مقال الدكتور الهادي؛ وعبارته غريبة بعض الشيء؛ حين زعم أن القصة مأخوذة من علماء الحديث في المشرق؛ وقد دلل على ذلك بوجودها في (الكبير ) عند الطبراني؛ وهي مروية في عدة مظان؛ منها مجمع الزوائد؛ فإن سلمنا بذلك؛ فإنه علينا أن نتساءل ما سياق ورود الخبر؟ وتأتي عبارة الدكتور موحية بأن الحافظ ابن حجر قد ذكرها في الإصابة حين قال الهادي: “أخرجها الطبراني في المعجم الكبير، وعزاها ابن حجر في الإصابة إلى الفاكهي…” وهنا خالف المنهج العلمي الدقيق؛ فلدينا ثلاثة نصوص لثلاثة حفاظ تعد مصنفاتهم أهم مصنفات طبقات الصحابة وأخبارهم وتمييزهم، وهم: الحافظ ابن حجر، والحافظ ابن عبدالبر، والحافظ ابن الأثير؛ ولم يذكر القصة من الثلاثة إلا الأخير في أسد الغابة؛ كما أن علينا أن نفقه أمرين: (الأول) أن مازن بن الغضوبة صحابي لا علاقة له بمذهب أو غيره، وظاهر أخباره تدل أنه قد خرج من عمان في فترة مبكرة؛ حيث إن من أحفاده أبا الحسن علي بن حرب الطائي الموصلي (175-265هـ) وهو محدث ثقة ولد بأذربيجان؛ و(الثاني) أن قصة الأوثان يوردها بعض المحدثين في أخبار (الكهان) من باب التوثيق والنقد؛ لا من باب الاحتفاء؛ وإليك نصوص الحفاظ الثلاثة:
أولا: الحافظ ابن حجر؛ حيث يقول: “وقال ابن حبان: يقال: إن له صحبة، وأخرج الطبراني، والفاكهي في كتاب مكة، والبيهقي في الدلائل، وابن قانع كلهم من طريق هشام بن الكلبي” (9/ص29-30) الإصابة ط1976م؛ ولك أن تلاحظ أن الحافظ قد أعرض عن هذه القصة إعراضا؛
ثانيا: الحافظ ابن عبدالبر إذ يقول: “الطائي العماني، له صحبة، وهو جد أحمد بن حرب، وعلي بن حرب الطائي، وخبره عجيب، مخرج في أعلام النبوة من أخبار الكهان” الاستيعاب؛ على هامش الإصابة (9/296-297) ، وأعرض ابن عبدالبر عن القصة فلم يذكرها أيضا؛
ثالثا: الحافظ ابن الأثير وقال بعد ذكر نسبه: “وخبره في أعلام النبوة من أخبار الكهان” ثم ذكر القصة، ولا أعتقد أن أخبار الكهان، وأعلام النبوة، والملاحم، وأشراط الساعة تخفى على مثلك؛ فهي ليست على علاتها؛ انظر: الاستيعاب (5/6) طبعة إحياء التراث (1996)؛ كما أنني لم أعطك نتيجة جازمة حول ذلك كله، ولكنني نبهت على أن قبول الخرافة يختلف عن نقدها، وروايتها؛ فضلا عن الدفاع عنها؛ ولذلك لم يثق الإمام السالمي بها؛ ولا يتسع المقام لأكثر من ذلك.
رابعا ما زعمت (= الحجري والهادي) من استقلالية العبارة التي نقلتها من المقال؛ غير صحيح أبدا؛ بل هي مبنية على ملاحظات المستشرق موتيلينسكي؛ وتدويناته، ويمكنك التوقف والتأمل على المحطات الآتية؛ وقد لطفت العبارة من سياقات المستشرق، وصدرتها بقولي: (لوحظ)؛ لذلك أعتقد أن القراءة المتأنية لها مع استحضار هذه النصوص كفيلة بتوضيح اللبس مع الصفحات وهذه القضية هي نقطة الارتكاز من المقالين؛ حيث بالغ الأستاذان مبالغة كادت أن تخرجهما من السياقات المنهجية وأطرها، وتعمدا سكب سائل الاتهامات المبطنة:
-
من بين الأخطاء المنهجية في قراءتك (=الحجري) الفهمُ المعكوس؛ حيث تعتقد أن موتيلينسكي يرد على ابن خلدون في نقيض ما نثبت بشأن آراء المستشرقين في هذه القضية؛ إذ يقول: “قال المؤرخ الكبير لتاريخ البربر في كتابه بنفس الاسم؛ بأن آخر القبائل الأمازيغية التي لم تعتنق الإسلام دخلت إلى هذا الدين العام 101هـ، ويضيف (يعني ابن خلدون) إلى ذلك أن الشعوب الأمازيغية من طرابلس إلى طنجة اعتنقت الإسلام وارتدت عنه 12 مرة، لم يتم تثبيت الإسلام في صفوف أمازيغ شمال إفريقيا إلا بعد الغزوة العربية الحاسمة التي قادها موسى بن نصير وإخضاعه المتمردين” ص (98-99 ) ثم يرد موتيلينسكي على ابن خلدون في قضية خضوعهم للإسلام قائلا: ” خلافا لكل ما يزعمه مؤرخون عرب كابن خلدون وغيره والذين يدّعون أحيانا بأن الدخول النهائي للأمازيغ إلى الإسلام كان العام 100؛ أقول؛ أن نعترف بأن ثمّة حججا قاطعة بأن اعتناق الشعب الأمازيغي للإسلام في هذا التاريخ لم يكن عاما ولا دائما ولا كاملا لا تشوبه شوائب؛ فانطلاقا من كتاب ابن خلدون وكتاب عرب من العصر الوسيط؛ يتبين أن ثمة مجموعات أمازيغية مختلفة حافظت لقرون بكاملها على دينها القديم ومعتقداتها الوثنية، نعلم كذلك، وضدا على مزاعم هؤلاء المؤرخين؛ أن مجموعات أمازيغية مسلمة في الظاهر أنكرت نبوة محمد، وانساقت وراء أنبياء ديانات جديدة يلعب فيها العنصر الأمازيغي للإسلام دورا رياديا، نستشف من ذات المصادر التاريخية أن اعتناق الأمازيغ للإسلام كان لمدة زمنية طويلة هشا وسطحيا؛ فقد ظل الأمازيغ للإسلام أوفياء لمعتقداتهم القديمة سواء اتخذت شكلا بدائيا أو وضعت عليها مساحيق إسلامية” ص99، كان على الكاتب منهجا أن يفهم هذا النص الذي يعد استفتاحا وتمهيدا من هذا المستشرق للبرهنة على مزاعمه في هذا المنقول المنشور ضمن سلسلة معنونة بــ(دراسات استشراقية في المذهب الإباضي) وفي دار الغشام بالسلطنة؛ وأن يتساءل: لماذا يوجد مقال كهذا في السلسلة إذا كان حديثه لا يمت بصلته إلى مذاهب الأمازيغ وأعراقهم؟
-
وتبين الوقائع التاريخية، ومصادرها أن التجمعات الأمازيغية كانت عصية على المد الإسلامي؛ إذ يقول: “يفيدنا ابن خلدون بأن الأساسي في هذه المعتقدات الوثنية والشائعة في أوساط الأمازيغ الذين لم يعتنقوا لا اليهودية، ولا المسيحية؛ يدور حول عبادة الشمس، والقمر، والأوثان، وقد استمر الغزو العربي الإسلامي لبلاد الأمازيغ 70 عاما وما إن تقوم للإسلام قائمة هنا؛ حتى تحصل ردة عنه بعد ذلك” ص100، ويعني ذلك أن خضوع الأمازيغ للإسلام لم يكن قناعة، أو طواعية، وإنما بالقوة، وأن تذبذباتهم المذهبية لم تكن كذلك إلا بفعل العوامل التاريخية، والسياسية؛ ويردف موتيلينسكي قائلا: “ولم تلحق غالبية الأمازيغ بالإسلام إلا بعد انتفاضة الخوارج التي كانت إفريقيا الشمالية مسرحا لها العام 740” ص101؛
-
وما أوردناه من رأي لموتيلينسكي حول العامل الأساسي في اعتناق ما يطلق عليه بـ(الإسلام الخارجي) وهو أن “هذه الغالبية كانت متمردة على الحكام العرب السنة، واعتنقت الإسلام الخارجي بعد مقاومة طويلة (…) فلم تكن انتفاضة الخارجي الأمازيغي ميسرة المطغري مفاجئة – والذي كان أول من أشهر معارضته للإسلام العربي السني في طنجة- وقد سارت خلفه وتحت لوائه قبائل أمازيغية أعلنت إسلامها رسميا، وجموع كثيرة من الأمازيغ الذين ما زالوا على وثنيتهم؛ فقد ساند هؤلاء ميسرة كما ساندوا دائما وفي كل مكان كل حركة انفصالية تروم الانشقاق عن الحكم المركزي” ص101، فماذا يعني ذلك؟ ألا يعني انعدام القناعات في الخضوع للغازي المسلم؟ وأنه إن لم تكن للأمازيغي حيلة في الثورة على المد الإسلامي إلا اعتناق مذهب من داخل هذا المد؛ فإن ذلك يعد تصرفا إستراتيجيا لدفع الدين، والتمويه إلى حين.
-
يؤكد موتيلينسكي سياسة الخداع والتورية حسب رأيه في صفوف الأمازيغ؛ لإخفاء عقائدهم؛ وهذه القضية هي التي تعد من بين القضايا التي تغنى بها محمد الحجري؛ ويقول حولها موتيلينسكي : ” أن تكون أمازيغيا سنيا أو خارجيا ليس معناه بالمرة التخلي ، والتنكر للأعراف والمعتقدات القديمة؛ بل معناه وضع قناع الإسلام على بقايا ورواسب غير إسلامية واضحة وضوح الشمس” ص 101-102 ، وذكرت ذلك في مقالي بناء على نصوص المستشرق التي نقلت طرفا منها؛ إذ قلت: “فالأمازيغي مهما كانت انتماءاته المذهبية؛ فإنه لا يمكنه التخلي أو التنكر للأعراف والمعتقدات الدينية؛ وإذا كان شيء من هذه المعتقدات يتناقض مع التوحيد؛ فإنه لا بأس من إخفائها” وأكد قضية إخفاء العقائد عند الأمازيغ موتيلينسكي بقوله: “بعد القرن الحادي عشر الميلادي، ما زال هناك وثنيون في أوساط الأمازيغيين غير أنهم كانوا مضطرين لإخفاء معتقداتهم الحقيقية عن أعين المقربين، أو تجدهم يقيمون بعيدا عن المراكز الإسلامية ببلاد المغارب وعلى تخوم العالم الإسلامي” ص103
-
كل البنود السابقة خفيت على محمد الحجري من حيث هي توطئة للدخول إلى قضية الحديث عن الأمازيغ المنتمين إلى المذهب الإباضي؛ وهو هنا أثبت أن بعضا من الانتماءات الإسلامية الأمازيغية كانت زائفة، وكما أثبت ذلك في مقالي، ونقلته للقراء هنا؛ لذا نجده يعود ليقول: ” معنى ذلك أن مزاعم المؤرخين العرب خاطئة تماما، هم الذين يقولون بأن كل الأمازيغ دخلوا الإسلام بنهاية 720 على أبعد تقدير” ص106
-
يبدأ موتيلينسكي بسرد طائفة من مظاهر الوثنية في مقاله؛ من مثل عبادة الصخور، والأشجار، والمغارات، والماء؛ ويتحدث؛ ” عن صخرة يتعبد بها سكان ليبيون، وهي صخرة تتلقّى رياحا جنوبية؛ بأنه ما أن تلمسها يد بشرية حتى تثور ريح عاصفة” ص107؛ ويقول: “استمرت عبادة الصخر والحجر طيلة العصر الوسيط في أوساط المسلمين الإباضيين رغم كل التقوى والورع اللذين عرفا به ومعرفتهم بالقرآن والسنة، تحصى قائمة عن الأماكن المقدسة بجبل نفوسة (طرابلس) والمعنونة تسمية مشاهد الجبل؛ سلسلة منها يتردد عليها الزوار الإباضيون الصالحون طيلة القرن السادس الميلادي” ص108؛ فهل هذه الممارسات تعد من قبيل الدين؛ أو المذهب؟ أم هي ممارسات محسوبة على أتباع الدين والمذهب؛ حتى ندافع عنها دفاع المستميت وفي ذات الوقت ينشرها المحرر عبدالرحمن السالمي في هذا الظرف في سلطنة عمان؟
-
تعد جزيرة ورغلة من الأماكن المهمة جدا بالنسبة للوجود الإباضي في الغرب الإسلامي؛ من حيث إنها موئل العلم والتصنيف؛ يقول عنها موتيلينسكي: “يذكر الشماخي في كتاب السير مغارة يوجد بها مسجد الشيخ الإباضي أو ميرداس محمد السدراتي؛ وتوجد المغارة بجبل نفوسة أيضا، أما مغارة توكيت المشار إليها فوق؛ فهي معروفة بصفتها مكانا مقدسا منذ القرن العاشر الميلادي؛ كما أن المغارات الآتية: كيران، بني أكاك؛ كانت كلها أماكن لممارسة شعائر دينية قديمة، وموجودة في جزيرة ورغلة؛ حيث ألفت في العصر الوسيط مصنفات فقهية ودينية إباضية على درجة كبيرة من الأهمية” ص110، ويعني ذلك انتشار هذه العقائد التي يرجعها موتيلينسكي إلى ما قبل الإسلام واستمرارها إلى ما بعده؛
-
ومن بين الطقوس الوثنية التي ينقلها هذا المستشرق؛ ما يطلق عليه بــ(الطقوس المائية)؛ إذ يقول: “تخبرنا كتابات إباضية بتفاصيل دقيقة عن استمرار هذه الطقوس المائية عند الأمازيغ، وقد سبق أن أشرنا أعلاه إلى مغارة تانوت نيسلي بصفتها واحدا من أمكنة الحجيج الأمازيغي في القرن السادس عشر الميلادي بجبل نفوسة استنادا إلى ما جاء في (تسمية مشاهد الجبل)، وما زالت بقايا الطقوس المائية بالجبل تنعم بالحياة إلى أيامنا وهو معطى يؤكده العلّامة الأمازيغي النفوسي إبراهيم ؤسليمان الشماخي في وصفه للمنطقة، يقول في هذا الكتاب بأنه غير بعيد عن القلعة يوجد خزان مائي اسمه (نانّا تالا) أي الجدة الصهريج أو الخزان المائي؛ يأتي إليه الآباء لأجل غسل أطفالهم عندما يصيبهم مكروه، ويبخرون المسك في الوقت نفسه طالبين الله معافاة فلذات أكبادهم؛ يتضح من هذه الحادثة بما لا يدع مجالا للشك أن الطقوس المائية هي من الطقوس الأمازيغية في القدم؛ لا شك أن نانّا تالا هو الجني القديم إله الماء” ص111
-
ومن بين أشهر الطقوس الوثنية؛ ما يتعلق بالجنّ المؤلّه، والأبالسة من صنع الخيال الخرافي؛ يقول موتيلينسكي: “هدفي هو تقديم أمثلة جمعتها وتقديم الدليل الساطع على استدامة الرواسب الوثنية المرتبطة بالجن في المعتقدات الأمازيغية في الفترة الإسلامية نفسها” ص112، وقول أيضا: ” كما أن بقايا هذه المعتقدات استمرت في حياة القبائل الأمازيغية الأكثر إيغالا في التشبث بالدين الإسلامي؛ كما هو شأن نفوسي الجبل الطرابلسي على سبيل المثال، ومؤسسي الفرقة الإباضية ذات التشيع المذهبي الإباضي، ومعنى ذلك؛ أنه حتى وإن كان هؤلاء الجن في خدمة الله والمذهب الإباضي؛ فإن طبيعتهم البدائية تبقى دائما عصية على الفهم والاستيعاب” ص113—114
-
ويستند موتيلينسكي بما يورده المؤرخ الإباضي أبو زكريا يحيى بن أبي بكر الوارجلاني بعد حرب خاضها النفوسيون؛ حيث يقول: “ظهر كلب سلوقي، وراح يركض وسط الجثث التي غطّت ساحة الحرب، وكان الوقت ليلا؛ اقترب من القتلى النفوسيين وراح يدعوهم إلى ذكر اسم الله؛ فاستجابوا للأمر، بعد ذلك؛ مرّ السلوقي نفسه بالقرب من قتلى المقاتلين العرب وقال لهم: انبحوا أيتها الكلاب المسعورة! فردّوا عليه بالنباح. هذه الرواية تدل على أن هناك إيمانا راسخا بتدخل الجني في حياة أهل جبل نفوسة؛ إذ يدافع عن أرواح المقاتلين النفوسيين الذي سقطوا في ساحة المعارك ويقف في وجه أعدائهم” ص114
-
أما الشيخ الإباضي إدريس بن الطويل الصوفي اللواتي؛ فقد ظهرت له جنية، وفي رواية الشماخي؛ “أن هذه الجنية تلت أشعارا أمازيغية لم يصلنا شيء عنها، لكن من المؤكد أنه ليس فيها ما يناصب الرجل العداء؛ ما يستحق الملاحظة، هو: أن كل الجن الذين يستحضرهم الناس هنا؛ إما تضرعا أو في حفل نفوسي، أو يحضرون تلقائيا؛ لهم علاقة أساسا بالنساء الكاهنات أو الساحرات؛ فمنذ ق11 الميلادي والمؤرخ البيزنطي بروكوبيوس العارف الجيد بالشمال الإفريقي يقول بأن النساء هن اللائي يتنبأن بالمستقبل عند الأمازيغ” ص115، ويقول موتيلينسكي: “هكذا نلاحظ إيمانا قويا بالأرواح في الأوساط الإباضية المعروف عنها إسلامها الشديد، ويجتهد هؤلاء الإباضيون في نسج روابط بين هذه الأرواح الجنية وشخصيات مسلمة وسحب قناع إسلامي عليها؛ في مطلق الأحوال، نحن إزاء معتقدات غير قرآنية ولا حديثية بل أمازيغية متأصلة مرتبطة أشد الارتباط بالجن الساكن في جسد الكاهنات العرافات بالنسبة لبروكوبيوس وبالملكة كاهينا في التصورات الشائعة بالشمال الإفريقي” ص116؛ لذلك أيضا يقول: “نجد في كتب إباضية كثيرة حديثا عن ذلك الهاتف الذي يخاطب المدعوة أسيل بالأمازيغية والتي تقيم في جبل نفوسة في ق11م؛ ينصحها الصوت ويقدم لها نبوءات جديدة (نبوءة زواجها مثلا من ابن عمها) تؤكد المصادر الإباضية أن الناس العاديين لا يخامرهم أدنى شك في أن الأصوات لجنّي يخاطب أسيل، وهو معطى يتطابق مع المعتقدات الأمازيغية القديمة” ص117 ، ويقول: “أما الصالح العلامة الشيخ الإباض ماكسان بن الخير (النصف الثاني من ق5 هـ) والمنتمي لقبيلة أمازيغية تدعى (بنو وسيان) والمقيم بجزيرة أريغ فقد التقط سمعه صوتا غريبا يخاطبه بالأمازيغية ناصحا إياه بالهروب من الخطر الذي يتهدده. (سارت) كذلك يسكنها جني وهي سيدة إباضية صالحة عاشت في النصف الثاني من ق11م؛ كما أنها تتحدر من قبيلة لواتة وتقيم بصوف، وتعتقد بأن الله هو الذي سمى هذا الجني، بحسب ما جاء عند كاتب إباضي صالح” ص117؛ لذلك فقد “نام رجل على قبر من دون أن يدري أنه قبر (سارت)؛ فإذا به يسمع صوتا (لا شك أنه صوتها) يعده بالرحمة الإلهية مكافأة له على عمله الصالح في الحياة الدنيا” ص118
-
ومن بين الظواهر الوثنية “عبادة بصمات الأرجل وآثار الدم” فــ”مما لا شك فيه أن عبادة بصمات أرجل الشخصيات الأسطورية أو شبه الأسطورية المعروفة بصلاحها أو حتى أرجل حيوانات تربطها بهؤلاء رابطة قريبة هي من المعتقدات القديمة” حيث “تخبرنا المصادر الإباضية بمادة زاخرة عن عبادة بصمات الأرجل التي كان الأمازيغ يتعبدون بها في العصر الوسيط؛ هكذا يتحدث الشماخي في معرض حديثه عن حياة الشيخ الإباضي أبي ميرداس موهاشير السدراتي (عاش في جبل نفوسة في النصف الثاني من ق8م، وبداية قثق9م) عن رؤيته لأثر رجل على صخرة في المكان الذي كان الشيخ يصلي فيه” ص122
-
ويقول: “من جملة الأماكن المقدسة أيضا من قبل الأمازيغ الإباضيين المستقرين في منطقة طرابلس تلك التي يوردها الشماخي تحت تسمية (آثار دم الشهداء) التي ما زالت مرئية في منطقة شرق جبل نفوسة، وهي دماء المقاتلين وراء الإمام الإباضي أبي حاتم المازوزي، وسقطوا شهداء في حربهم ضد العرب السنة (772-773م) بحسب ما يذكره رجالات العلم الإباضيين؛ لكن الصحيح أن الأمر يتعلق هنا بشعيرة طقوسية سابقة على الفترة الإسلامية” ويقرّ الشماخي بأن مكان المقبرة تلفها البركة ص125
هذه النصوص كلها مدونة حرفيا في المقال المنشور في سلطنة عمان عبر وزارة الأوقاف؛ ويختم موتيلينسكي مقاله الزاخر بهذه المشاهد العجيبة التي تناقض الإسلام، وكل عقائد التوحيد بقوله: “والكثير من هذه المعتقدات التي أتى على ذكرها الكتّاب العرب في العصر الوسيط ما زال ينبض بالحياة والحيوية إلى حين كتابة هذه السطور، ولو وضعت عليها أقنعة إسلامية أو اختفت وراء الطقوس والشعائر المنذورة لهذا الولي أو ذاك من أولياء بلاد المغارب الكثر” ص132؛ ولكم جميعا تحياتي.