هناك حكاية عن ونستون تشرشل تقول إنه رأى شاهد قبر مكتوب عليه “هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي الناجح “فلان” فقال مندهشا: تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها رجلين مدفونين في قبر واحد. ارتبط الكذب برجال السياسة، لكن. لماذا يكذب القادة؟ وهل يكذبون كثيرا على الدول الأخرى؟ أم يميلون للكذب على شعوبهم؟ وهل كل أنواع الكذب في السياسة مذمومة؟ ما الأكاذيب الدولية التي يطلقها القادة؟ وما مبرراتهم؟ ما الظروف التي تجعل الكذب أكثر أو أقل احتمالا؟ ما تكلفة الكذب ومدى تأثيره؟ كل هذه الأسئلة يطرحها ويجيب عنها أستاذ العلوم السياسية الأمريكي جون جي. ميرشيمر في كتابه الصادر بترجمة أ.د. غانم النجار، عن سلسلة عالم المعرفة، بعنوان “لماذا يكذب القادة؟.. حقيقة الكذب في السياسة الدولية”.
ما الكذب؟
لكي نعرف ما هو الكذب علينا أولا أن نعرف ما الخديعة؟ وقبل ذلك يلزمنا تعريف السلوك المضاد للخديعة وهو الصدق. يعرف ميرشيمر الصدق بأنه عرض الحقائق على أتم وجه بطريقة مباشرة وأمينة مع بذل جهد حقيقي للتغلب على أي تحيزات أو نوازع شخصية ربما تكون كامنة لدى المرء ليتمكن من سرد الوقائع ذات الصلة بصورة منطقية عادلة قدر الإمكان. بينما الخديعة هي أن يتخذ الفرد، بطريقة مقصودة، خطوات متعمدة لمنع الآخرين من معرفة الحقيقة كاملة -كما يعرفها هو- بخصوص أمر ما محدد بهدف عدم إيصال رواية مباشرة أو وصف شامل للأحداث.
تتكون الخديعة من ثلاثة عناصر، هي: التلفيق، والكتمان، والكذب. والتلفيق هو رواية حكاية ما بالتركيز على أحداث معينة وربط بعضها البعض بطريقة تصب في مصلحة المرء، بينما يقلل من أهمية حقائق أخرى أو يتجاهلها. والكتمان هو حبس الحقائق وإخفاؤها حتى لا تؤثر في موقف الفرد. أما الكذب فهو أن يتحدث الإنسان بمقولة يعرف أو يشك في عدم صحتها، ولكنه يأمل أن يظن الآخرون أنها حقيقة.
يميل الذين يبيحون الكذب في السياسة الدولية إلى المدرسة النفعية ويبررون ذلك بالفوضى التي تعم النظام الدولي على عكس النظم الهرمية داخل الدول. فالمهمة الأولى المنوطة برئيس دولة ما هي الحفاظ على بلاده وبقائها. ولأنه يعمل في نظام دولي فوضوي لا وجود فيه لسلطة عليا يمكن اللجوء إليها يصبح الكذب مبررا ومفيدا في أحيان كثيرة على عكس البناء الهيكلي الهرمي داخل الدولة حيث وجود سلطة عليا تحمي الأفراد وتساعدهم على استرداد حقوقهم؛ وبالتالي يصبح الكذب في هذه الحالة مضرا ومقوضا للنظام ككل. في هذا الكتاب ينشغل ميرشيمر بدراسة الكذب الإستراتيجي، وهو الكذب الذي يبتغي مصلحة الدولة (الديمقراطية) لا المصالح الذاتية للقادة.
قائمة الأكاذيب الدولية
من بين سبعة أكاذيب رصدهم ميرشيمر في السياسة الدولية اختار خمسة تتفق مع مقياسه للأكاذيب الإستراتيجية؛ هي: الكذب بين الدول، إثارة الذعر، التغطيات الإستراتيجية، الأساطير القومية، الأكاذيب الليبرالية.
- الكذب بين الدول
يعتقد ميرشيمر أن الكذب بين الدول أقل مما هو متوقع، وأن قادة الدول لا يميلون إلى الكذب فيما بينهم قدر ميلهم للكذب على شعوبهم لعدة أسباب منها أن خداع قادة الدول الأخرى أمر بالغ الصعوبة وغالبا تكلفته أكبر من الفوائد المترتبة عليه، خاصة فيما يتعلق بالاتفاقيات الاقتصادية والبيئية طويلة الأجل والتي تتطلب ثقة متبادلة بين الدول. كما تجنح الدول إلى التحقق من مزاعم الدول الأخرى لصعوبة تبين النوايا الصادقة من النوايا الكاذبة. ويقول المؤلف إن الهدف من الكذب بين الدول هو كسب تفوق استراتيجي أو لتوفير الحماية الذاتية.
ذكر المؤلف عشرة أساليب للكذب بين الدول من بينها المبالغة في تصوير قدرات الدولة العسكرية بقصد ردع العدو أو إخضاعه كما فعل هتلر في ثلاثينيات القرن العشرين من تضخيم قوة الدفاع الألمانية لتثبيط همم بريطانيا وفرنسا. أو الكذب بغرض التقليل من القدرات الحربية للدولة بهدف تحاشي استفزاز دولة منافسة قد تطور هجوما عسكريا لتدمير تلك القدرة العسكرية أو منع تطويرها. والكذب بغرض إخفاء نوايا عدوانية تجاه بلد ما كما تشدق هتلر بين عامي 33-38 بالتزامه بالسلام وعدم رغبته في إشعال فتيل الحرب من جديد. وأحيانا يكون الكذب بغرض التضليل لتسهيل عملية التجسس أو التخريب في أوقات السلم كما فعلت إسرائيل في فضيحة لافون عام 1956 حين سعت إلى تخريب علاقة مصر ببريطانيا والولايات المتحدة عن طريق تخريب المنشآت الأمريكية والبريطانية وتصوير الأمر بأنه تم بأيدي المصريين.
ويرى ميرشيمر أن هناك ظروفًا أربعة يكون فيها الكذب بين الدول أكثر انتشارا، وهي: أوقات التنافس الأمني الحاد بين الدول، أو أوقات الأزمات العالمية، وفي أزمنة الحروب، والكذب بين الدول في حالات التنافس.
- إثارة الذعر
يلجأ القادة لأسلوب إثارة الذعر عندما يشعرون أن هناك خطرا مباشرا يهدد الأمن القومي، لا يراه الشعب، ولا يمكن تقديره بالطرق المباشرة والصادقة. يبرر القادة استخدام إثارة الذعر بأن المواطن العادي يفتقر للمعرفة الكافية بالشؤون الدولية ليعي الأخطار المحدقة بالدولة، حتى وإن امتلك أدلة واضحة فإنهم قد لا يملكون الذكاء المطلوب للتعرف على الخطر، أو أنهم يجبنون أمام التهديدات. يرى آخرون سببا أقل ازدراء للجمهور وهو احتمالية أن يكون النظام السياسي للدولة متهالكا لا يستطيع الاستجابة السريعة لمواجهة الخطر القادم.
استعملت ثلاث حكومات أمريكية اسلوب إثارة الذعر من أجل إعلان الحرب. حدث ذلك في حكومة روزفلت عام 1941 للدخول في الحرب العالمية الثانية وحكومة جونسون 1964 في حرب فيتنام، إضافة لحكومة جورج بوش في العام 2003. استخدمت الثلاث حكومات أحداثا واهية اختلقتها أو ضخمتها أو روت أحداثها بشكل منقوص أو مغلوط من أجل إثارة ذعر المواطنين وإعلان الحرب.
- التغطيات الإستراتيجية
هي أكاذيب يطلقها القادة عندما تفشل سياسة ما فشلا ذريعا ويرغبون في تغطيتها حفاظا على مصلحة البلاد. أو هي محاولة إخفاء إستراتيجية جديدة مثيرة للجدل قد تثير رفضا جماهيريا عليها ولكنها في الوقت ذاته مهمة لمصلحة البلاد. تستهدف التغطيات الإستراتيجية جمهورًا متسعًا يشمل مواطني البلد إضافة للدول الأخرى في أغلب الأحيان.
يلجأ القادة لأسلوب التغطيات الإستراتيجية لإخفاء نقاط ضعف ذاتية عن أعين الأعداء أو المواطنين خشية تثبيط همتهم.
- الأساطير القومية
لكل أمة أو مجموعة عرقية أو قومية حاجة لاختراع أسطورة قومية ما تصور أصحابها بشكل جيد وتنقي تاريخهم من الأخطاء كما تلحق الأضرار والمساوئ بالآخر. تحتاج القيادة إلى أسطورة قومية لتعضيد التضامن الجماعي بين سكان الدولة إلى جانب خلق شعور قوي بالوطنية يساعد في بناء الدولة والحفاظ عليها. وكلما كانت نشأة الدولة قريبة العهد وقاسية بما ارتكب فيها من جرائم كانت هناك حاجة قوية من النخب الحاكمة ومن الأفراد المحكومين لخلق أساطير قومية بشكل أكبر، ومحاولة ترويجها في الداخل والخارج. كما فعلت إسرائيل بعد تهجير سبعمئة ألف فلسطيني من أراضيهم على أساس عرقي بصورة قسرية وعنيفة في العام 1948، وتحميل التهمة للآخر الفلسطيني في هذه الحالة.
- الأكاذيب الليبرالية
تشكلت عبر التاريخ منظومة من الأعراف الليبرالية تبين أشكال السلوك المقبولة بين الدول، اعتمدت تلك المنظومة القيمية علي الإيديولوجيا الليبرالية، وصارت مقبولة بشكل دولي وتتبناها المنظمات الدولية؛ لذلك حين تنتهك دولة ما أحد هذه الأعراف الليبرالية فإنها تحتاج لتلفيق كذبة قيمية تمكنها من التغطية على تلك الانتهاكات التي مورست من أجل المصلحة الوطنية، كنشر الديمقراطية مثلا.
الجانب السلبي للأكاذيب الدولية
تكمن الخطورة من التمادي في الأكاذيب الدولية في أن يكون لها مردود عكسي على الحياة اليومية، فلو أصبح الكذب روتينيا فسوف يجعل التصويت أكثر صعوبة بسبب انتشار معلومات مغلوطة، ولَمَا وثق المسؤولون ببعضهم بعضًا مما يصعب عملية اتخاذ القرار. كما أن الكذب المتكرر سيقوض سيادة القانون، وفي النهاية سيدفع المواطنين إلى درجة فقدان الثقة بحكومتهم الديمقراطية واحتمالية تأييدهم لشكل من أشكال الحكم السلطوية.
تعقيب أخير
رغم ميل ميرشيمر لتبني نظرة نفعية في تقييم الأكاذيب وفضحه للكثير من الحجج الوهمية التي ادعتها تحديدا الحكومات الأمريكية وإسرائيل للتغطية على انتهاكات مارستها آلتها العسكرية إلا أنه أغفل عامدا احتمالية استخدام القادة، حتى في الدول الديمقراطية، لتلك الأكاذيب، التي وصفها بالأكاذيب الإستراتيجية، لتحقيق مكاسب ذاتية أو حزبية أو عقائدية يرونها صحيحة؛ فمثلا تورط رجال الصناعات العسكرية ومعتقدات جورج بوش الابن الدينية كانت عوامل واضحة ومؤثرة لاحتلال العراق في العام 2003. في النهاية، يبقى الكتاب محاولة مهمة وجريئة لرصد ظاهرة نادرا ما يتم الاهتمام بها رغم أنها تؤثر في النهاية في حياتنا اليومية وفي مستقبلنا.