بعد عقدين من الصعود المتنامي للأحزاب الإسلامية في تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية يبدو أننا بصدد خريف مشروعهم السياسي؛ فداخليًا يعاني المجتمع التركي من أزمات وتحديات متفاقمة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي من معدلات تضخم مرتفعة، وديون متراكمة، وخسائر متتالية في قيمة العملة المحلية وصراع محتدم على السلطة، وخارجيًا تواجه تركيا تحديات كثيرة على مختلف الجبهات المفتوحة بداية من الحدود السورية والعراقية، وصولًا إلى العاصمة الليبية طرابلس.
المشروع التركي الذي بدأ طموحًا تحت شعار “العثمانيون الجدد” ومدفوعًا بأحلام وتطلعات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان لإحياء الإمبراطورية العثمانية، ارتكز في خطابه التسويقي على محورين أحدهما يسلط الضوء على بريق إنجازات حزب العدالة والتنمية في سنوات حكمه الأولى من تطوير للبنية التحتية، وتشجيع للسياحة، وتسهيلات للاستثمار الأجنبي، وارتفاع معدلات دخل الفرد، أما المحور الآخر فيعتمد على دغدغة مشاعر الجماهير العربية بخطاب مغلف بالهوية الإسلامية واضعًا إياها في مواجهة مع ما يصفه بالخطاب العلماني الغربي الاستعماري.
يعود مصطلح "العثمانيون الجدد" لمنتصف القرن التاسع عشر، حين تكونت مجموعة من المثقفين والفاعلين السياسيين تسعى لتحديث الإمبراطورية العثمانية، وتدعو للتغيير والتطور والانفتاح على الحضارة الغربية مع عدم الإفراط في التغريب والتخلي عن القيم المجتمعية المحلية.
وكان من أبرز قادة هذه الحركة مصطفى رشيد باشا وعلي باشا ومن أبرز منظريها الشاعران نامق كمال وإبراهيم شناسي اللذين قدما أفكارًا متنوعة في مجالات وقضايا كالتعليم، ووضع المرأة في المجتمع، والنظام الدستوري والحريات.
ظهرت هذه الحركة نتيجة التغيرات الكبيرة التي شهدها العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، من الثورة الصناعية والتطور الكبير في المنظومة الصناعية والحربية وكذلك في البناء المجتمعي وحقوق المواطنين وواجباتهم، وفي هذه الأثناء كانت الإمبراطورية العثمانية بدأت بالفعل في إنشاء مدارس حديثة وإرسال بعثات دراسية خارج حدود الإمبراطورية، ونتيجة لهذه السياسات تكون جزء كبير من “العثمانيين الجدد” الذين حصلوا على قسط وافر من التعليم والثقافة، وسعوا لمزيد من الإصلاحات والتغيرات الأكثر جذرية وفعالية.
الأصالة والحداثة
كانت من أبرز أفكار “العثمانيون الجدد” إيمانهم بالحرية مؤكدين على أن لكل إنسان الحق في التعبير عن آرائه ومعتقداته بحرية كاملة، وأكدوا على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات لكل المواطنين، وكان موقفهم من أنظمة الحكم السياسي شديد الانحياز للديمقراطية، فقد كانوا يرونها امتدادًا لمفهوم الشورى في الإسلام ، وفي مجال التعليم دعموا الانفتاح على العلوم والفلسفات الغربية وتتبع سبل النهضة الأوروبية.
ورغم هذه الأفكار التقدمية والتحررية إلا أنهم تعاملوا مع مفهوم الوطنية والهوية بصورة محافظة، ويعد من أهم المكتسبات التي حققتها حركة “العثمانيون الجدد” إقرار الدستور العثماني عام 1876، والذي نص على تمثيل جميع العثمانيين في برلمان ينتخب أعضاؤه من الشعب، كما ضمن الدستور الحقوق والحريات لجميع العثمانيين مسلمين وغير مسلمين على السواء.
مع بداية القرن العشرين وهزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم الدخول في العديد من الحروب الداخلية، التي انتهت بوصول كمال أتاتورك للحكم، وإقامة النظام الجمهوري في عام 1923، وإلغاء الخلافة الإسلامية، تغيرت الأوضاع تماما، وظهرت الدولة التركية الحديثة، حيث حُسم صراع الأصالة والحداثة المُحير “للعثمانيين الجديد” لصالح خيار الحداثة، وتحولت الإمبراطورية العثمانية لماضٍ، وصارت هناك الجمهورية التركية العلمانية.
لكن تدريجيًا عاد سؤال الأصالة والحداثة مجددًا مع ظهور حركات سياسية جديدة من مختلف الأيديولوجيات، تطرح مشاريع وتصورات مختلفة عما يجب أن تكون عليه تركيا، وكان للقوى السياسية الإسلامية حضور بارز داخل هذا المشهد فقد دخلت في مواجهات على مدار عقود مع الجيش و”الكماليون” وهم القوى السياسية الداعمة للعلمانية ولسياسات كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة.
قومية دينية
وسط هذا الصراع السياسي والاجتماعي حققت تنظيمات وأحزاب الإسلام السياسي التركية خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات تقدم واضح في قدرتها على بناء خطاب يمزج بين القومية التركية، والهوية الإسلامية، وفي ظل أوضاع سياسية واقتصادية مضطربة كانت الأرض ممهدة للتمدد وتحقيق نجاحات على أرض الواقع وظهر حزب العدالة والتنمية بصورة مغايرة عن التصورات القديمة للأحزاب والحركات الإسلامية التي تتسم بالرؤى والأفكار المحافظة، والخلط بين العمل الدعوي والسياسي.
قدم الحزب نفسه للجماهير منذ البدء كحزب تقدمي، يملك أفكارًا وأطروحات جديدة وقدرة وفعالية على العمل وتغيير الأوضاع الاقتصادية لقطاعات عريضة من الشعب التركي، خاصة الفقراء والطبقة الوسطى من خلال تبني منهج إصلاحي وتحالفات سياسية واسعة داخليًا وخارجيًا، توجت بنجاح حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية التركية عام 2002 وتشكيل أول حكومة “قومية/إسلامية”.
الحكومة التركية الجديدة ذات النكهة الإسلامية وخاصة مع نجاحاتها الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية على مدار سنوات متتالية كانت بمثابة أيقونة سياسية في حينها لكثير من الشعوب العربية، وخاصة لفئة الشباب الطامح والحالم بعالم سعيد، ومنظومة مجتمعية وسطية تستمع بمكتسبات الحضارة الحديثة وتحتفظ بقدر من هويتها الدينية، وتسعى لاستعادة ماضيها الحضاري العريق، والوصول لأستاذية العالم.
وقد صرح وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو في أحد لقاءاته مع نواب حزب العدالة والتنمية عام 2009 قائلًا: "إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد"
ويضيف أوغلو: “لقد أطلقنا مبادرتنا الديمقراطية تجاه الأكراد، ونستعد لمبادرات مماثلة للعلويين والغجر الذين عانوا التمييز العنصري لسنوات طويلة -على عكس أجواء التسامح والمساواة التي كان يعيشونها في كنف الدولة العثمانية- فهدفنا أن نضع حدا لسياسة العنف تجاه أي أقلية تمثل عرقا أو دينا مختلفا في تركيا”.
الخليفة الجديد
في ظل اتساع النفوذ الخارجي لحكومة حزب العدالة والتنمية خاصة بعد ثورات الربيع العربي، بدأت تظهر على السطح العديد من الأزمات الداخلية على كافة المستويات، وعلى الجانب الآخر شعرت الأنظمة العربية بمدى خطورة قوى الإسلام السياسي على أمنها، خاصة تورط تركيا في معظم ملفات المنطقة العربية بصورة حادة، أعادت للأذهان الماضي العثماني الاستعماري؛ وفي هذه المرحلة انصرف خطاب حزب العدالة والتنمية عن ناخبيه وأصبح موجهًا بشكل أساسي للعواصم العربية.
فعقب ثورة 25 يناير 2011 في مصر بعدة أشهر وتحديدًا في شهر سبتمبر، وفي ظل الحضور المتزايد لجماعة الإخوان المسلمين في المشهد السياسي، زار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مصر، وحينها توجه مئات من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين لاستقباله في مطار القاهرة بهتافات “مصر وتركيا عاوزينها خلافة إسلامية”، و”مصر وتركيا إيد واحدة”، و”إفرحي يا فلسطين أردوغان صلاح الدين”، مع دعوات تطالب بإستعادة الخلافة العثمانية من جديد وتلقب أردوغان بخليفة المسلمين.
عكس هذا المشهد بوضوح مدى النفوذ والهيمنة التركية على الواقع العربي الجديد، وظهرت بوضوح تجلياته في السنوات التالية على الخارطة الجيوسياسية العربية؛ ففي ظل حالة من التخبط والترنح أصابت النخب العربية في ظل تحول كثير من ثورات الربيع العربي إلى مواجهات عسكرية صفرية مع جماعات جهادية وتكفيرية.
منذ هذه اللحظة بدأ المشروع الأردوغاني في التراجع، وظهرت بوضوح حجم التحديات الداخلية والخارجية، وعلى مدار الخمس سنوات الأخيرة في الفترة بين عامي 2016 إلى 2021 ظل النظام التركي يراوغ محاولًا القفز للأمام مرة أخرى ولكن يبدو أن تكلفة الرهان على خطاب الخلافة الإسلامية أصبحت أكبر من منافعها، واضطر النظام التركي لأخذ خطوات جديدة للخلف محاولًا بناء تمركزات وتحالفات جديدة وواقعية تحتاج قدر من التخلي عن حلفائه، وخطابه الإسلامي.