في محاضرةٍ له العام 2003 في بروكسل، يلخص وزير الخارجية العماني، بدر البوسعيدي، الذي كان يشغل منصب الأمين العام لوزارة الخارجية حينها، طريقة إدارة بلاده لملف السياسة الخارجية بقوله: “نحاول الاستفادة من موقعنا الوسيط بين القوى الأكبر لتقليل احتمالية الصراع في جوارنا المباشر”، ويضيف: “يمكننا خلق مساحةٍ لأفعالنا. علاوةً على ذلك، ويبدو لي هذا الأمر بالغ الأهمية، في تلك المساحة بالتحديد، أي الدول الصغيرة، قد نكون قادرين على التصرف بطرق لا يستطيع الآخرون القيام بها”.
“تقليل احتمالية الصراع في جوارنا المباشر” هذه الإستراتيجية التي اتبعتها السلطنة في التعامل مع الملفات الإقليمية وحذر الانخراط الانفعالي في خضم أحداثها، يمكن أن تظهر متناقضةً في أزمات الجوار الأقرب لها غربًا، اليمن.
اللاعب المحايد
قد يبدو وللوهلة الأولى بأن عمان هي ذاتها اللاعب المحافظ على نمط سياسته الخارجية في تجنب الانخراط في الصراعات الإقليمية كطرف حرب وضمان حفظ دور الوسيط الأفضل عند الحاجة لذلك. لكن هل ما زال البلد المحافظ على نموذج الحكم التقليدي محافظًا على نهج سياسته الخارجية؟ أو هل يمكننا اعتبار ذلك قاعدةً عامة في دراسة سلوك السياسة الخارجية العمانية كنموذج مثالي؟
يظهر النظام العماني في لعبه دور اللاعب الإقليمي المحايد دونما حدود أو قيودٍ لهذا الدور حتى مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبشكلٍ يحفظ له ذات العلاقة المتينة مع الفصائل الفلسطينية والمحور الإقليمي من ورائها.
خبراء المفاوضات واللاعب الإقليمي المحايد يواجه اتهاماتٍ بالمساهمة في إدارة ظروف الحرب والتنافس على النفوذ من قِبل سياسيين يمنيين وناشطين مؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي يدعمهم النظام العماني سابقًا للتأثير في الرأي العام في الداخل اليمني، حيث أفاد ناشطون يمنيون أميركيون على وسائل التواصل الاجتماعي عن تقديم السلطات العمانية لهم أموالًا لمناهضة الدور السعودي في اليمن وتأليب الرأي العام ضد دور دول التحالف وتواجدها في المناطق الجنوبية.
السياسي اليمني علي البخيتي شكك في طبيعة الدور الذي تلعبه عمان في اليمن بأنه يتجاوز دور الوسيط المحايد.
الدور التاريخي في اليمن
على العكس من الجار الشمالي للجمهورية اليمنية الذي بقي حريصًا على ضمان تعميق نفوذه والاستحواذ على أوراق التناقضات الداخلية في الساحة اليمنية لابتزاز الأنظمة المتلاحقة وضمان تبعيتها للسياسة السعودية، اتبعت عمان دور الصديق الخجول مع نظام الرئيس الراحل صالح، دون رغبةٍ في علاقاتٍ أعمق أو تأثيرٍ بحجم الجار الشمالي للبلدين.
أطبق النظام العماني على نفسه عزلةً من التدخلات المزعزعة في الشأن اليمني في محاولةٍ لدفع الصراعات الحزبية التي يعيشها الحراك السياسي في صنعاء، مستعيضةً عن ذلك بعلاقات صداقةٍ رسميةٍ جافة مع النظام اليمني ونفوذٍ مستترٍ تغض سلطات صنعاء الطرف عنه مع القبائل اليمنية في حدودها الأقرب في محافظة المهرة اليمنية لدواعٍ أمنيةٍ بحتة تستحضر التوجس السلطاني من التوغل الشيوعي في ظفار ثمانينات القرن الماضي وامتداداته في اليمن الاشتراكي قبل الوحدة.
بقي رئيس اليمن الجنوبي ونائب رئيس دولة الوحدة، علي سالم البيض، مقيمًا في الأراضي العمانية بعد لجوئه إليها بعد حرب 1994م التي انتهت بانتصار شريكه السابق، الرئيس صالح. حين قرر البيض عودة مزاولة نشاطه السياسي ضد نظام صالح والاستمرار في المطالبة بالانفصال عن دولة الوحدة، اشترطت السلطات العمانية عليه العام 2009 عدم مزاولة نشاطٍ سياسيٍ ضد النظام اليمني على أراضيها للبقاء فيها، الأمر الذي حدا به للخروج من عمان بعد إسقاط السلطنة جنسيتها عنه.
الموقف العماني مع الرئيس البيض كان شاهدًا على طبيعة التعاطي العماني الحذر للشأن اليمني والمحافظة على حدود العزلة السياسية مع الجار الغربي.
وبتعبيرٍ آخر، من هو الدكتاتور الذي يرغب بالانفتاح على جوارٍ ديمقراطي أو يشهد مساحةً من الحرية السياسية؟ الإجابة على هذا السؤال يمكن لها أن تشرح الكثير حول أسباب عزل النظام السلطاني في عمان نفسه عن تدخلات المشهد السياسي اليمني على العكس منه الجار السعودي الذي يحمل المخاوف ذاتها منذ التحول الجمهوري في اليمن مطلع ستينيات القرن العشرين.
ربيع 2011
في أزمة الربيع اليمنية، بدأت تلوح في الأفق ملامح انهيار الوضع في الجوار الغربي لسلطنة عمان، وهو الأمر الذي يبدو بأن محاولتها تجنب الصراعات اليمنية فشل في الأخير بعد عقودٍ من سياسة اعتزال الشأن اليمني.
“تقليل احتمالية الصراع في جوارنا المباشر”. على ما يبدو بأن عمان لم تستطع المحافظة على ذلك وتقع في حاجةٍ ماسةٍ للتدخل في جوارها المباشر بعد حدوث الصراع الذي تتجنبه، لكن الساحة بقيت للاعب السعودي وحده حتى اللحظة يحرك خيوط اللعبة منفردًا في صنعاء.
في الوقت الذي كانت وتيرة الحراك السياسي تتحول لصراعاتٍ عسكرية في صنعاء مع اندلاع موجة حراك الربيع العربي، كانت عمان هي الأخيرة عالقةً في الموجة ذاتها التي انعكست احتجاجاتٍ واسعة عمت مدنها للمطالبة بالإصلاحات والتغيير.
احتجاجات الربيع العماني وغيابها الطويل عن سباق تجاذب النفوذ في الساحة اليمنية لم يمنحها الأهلية للعب دورٍ مؤثرٍ في الأزمة اليمنية 2011، وهو بالطبع الأمر الذي لم يقلل بالنتيجة احتمالية الصراع في جوارها المباشر.
أزمة تنافسٍ خليجي (عماني إماراتي سعودي)
عمان ورغم كونها أقل دول الخليج حظًا اقتصاديًا، إلا أنها بالتأكيد أحد أهم الدول التي تقف في تنافسٍ على الاستقلالية وريادة المنطقة الخليجية منذ تشكيل مجلس التعاون الخليجي العام 1981، وبالتأكيد تقف خصمًا منطقيًا لطموحات الهيمنة السعودية في المجلس.
بعد حرب الخليج، تراجعت عمان عن مقترح توسيع قوات درع الجزيرة لحماية دول المجلس لمخاوف تتعلق بمركز قوات درع الجزيرة في السعودية كالدولة الأكبر في المجلس، ما يؤهلها لامتلاك نفوذٍ وتأثيرٍ أكبر على بقية دول الخليج.
في العام 2011 كشفت الأجهزة الأمنية في عمان عن تفكيك خلية تجسسٍ وجهت الاتهامات في تبعيتها للإمارات.
التنافس الطموح على ريادة مجلس التعاون يستمر في الاتساع والتطور لمستوى الصراع السياسي في الساحات الإقليمية للبلدان الأخرى، وهو ما يحدث بالتحديد في اليمن مع التدخلات القطرية السعودية الإماراتية.
مع إعلان أزمة الخليج ومقاطعة الرباعي العربي لدولة قطر في مايو 2019، كانت عمان تلتزم بثبات علاقاتها مع أطراف الأزمة، إلا أن المقاطعة بالتأكيد كانت ما لا ترغب بوصول الأمر إليه.
الأزمة أعادت تموضع اصطفافات المنطقة الخليجية جعلت الجانب القطري أكثر قربًا موضوعيًا من النظام الإيراني على الضفة الأخرى، وبرعايةٍ عمانية.
وفيما يستمر التحالف السعودي الإماراتي في الانهيار أكثر عقب المصالحة الخليجية ختام العام 2020، وتضارب المصالح في اليمن، يظهر على السطح اصطفافٌ قطريٌ عماني قد يغير من طبيعة تعاطي السياسة العمانية مع قضايا المنطقة.
اصطفافٌ قطري عماني
في خضم الحصار الرباعي، كانت عمان الدولة الخليجية الوحيدة التي قدمت المساعدة لقطر في حصارها، وعلى المنوال نفسه كان الأصدقاء على الضفة الأخرى من الخليج أيضًا.
ومع تردي الأوضاع الاقتصادية في ظل الجائحة، كان لقطر أن تقدم مساعدةً مالية بلغت مليار دولار عام 2020 لمسقط، وصفها البعض بأنها قد تؤثر في سياسات عمان الخارجية في القضايا المتقاطعة مع قطر.
في اليمن، تتخوف مسقط من الوجود السعودي والنفوذ المتوسع مع الحرب، لذا فقد عملت على دعم القبائل الرافضة للتواجد السعودي في محافظة المهرة اليمنية المحاددة لسلطنة عمان، فاستضافت الحراك الجنوبي التابع لباعوم، واستثمرت معهم الفرص ذاتها التي استثمرتها مع الحوثيين.
تحاول مسقط من جهةٍ أخرى الاستفادة من النفوذ القطري على حزب الإصلاح، جماعة الإخوان المسلمين في اليمن، لإعادة تشكيل صيغةٍ جديدة للتقارب مع الحوثيين وسحب البساط من تحت أقدام التحالف.
عمان والحوثيون
على العكس من الموقف السعودي المتصلب بداية الحرب 2015، يفهم العمانيون مدى استقلال جماعة أنصار الله الحوثيين عن النظام الإيراني وامتلاكها لقرارها الداخلي، الشيء الذي قد تكون تجاهلته المملكة العربية السعودية حتى وقتٍ متأخرٍ من الحرب.
حركة أنصار الله الحوثية وعلى العكس من بقية المكونات التابعة للمحور الإيراني في المنطقة، تتمتع باستقلالٍ كبيرٍ لحدٍ ما عن القرار الإيراني لدوافع جيوسياسية وأيديولوجية، والعمانيون يفهمون ذلك جيدا.
مثّل الحوثيون تذكرة عبورٍ مجانية لدخول ساحة تجاذب النفوذ في الداخل اليمني، في الوقت نفسه الذي تستطيع أن تحافظ فيه على موقعها كوسيطٍ مقبولٍ لدى مختلف الأطراف الإقليمية والمحلية، ناهيك عن تعزيزها لهذا الدور مع استقواء الحوثيين بعد ست سنوات من الحرب.
عزز الموقف العماني من الحوثيين نفوذ عمان في الشمال اليمني ومنحها تأثيرًا هو الأقوى في الحوثيين بعد طهران كما يصفها ماجد المذحجي في مقالٍ له عن الدور العماني في اليمن، ومع صمود الحوثيين ووصولهم إلى مشارف مدينة مأرب، مركز ثقل حزب الإصلاح في الحرب، تعزز دورها كوسيطٍ ضروري لدى واشنطن ودول التحالف العربي.
عزز الموقف العماني من الحوثيين نفوذ عمان في الشمال اليمني ومنحها تأثيرًا هو الأقوى في الحوثيين بعد طهران كما يصفها ماجد المذحجي في مقالٍ له عن الدور العماني في اليمن، ومع صمود الحوثيين ووصولهم إلى مشارف مدينة مأرب، مركز ثقل حزب الإصلاح في الحرب، تعزز دورها كوسيطٍ ضروري لدى واشنطن ودول التحالف العربي.
في المقابل، كانت العلاقة تبادلية النفع؛ وفرت عمان قنوات تواصلٍ للحوثيين ونافذةً على واشنطن ولندن والأنظمة الغربية، إذ تستضيف على أراضيها الوفد الوطني لأنصار الله والناطق باسم الجماعة في وقتٍ حاولت فيه دول التحالف عزلهم عن المجتمع الدولي بالقرار الأممي 2216 واعتبارهم كمجموعة انقلابية متمردة على السلطات الشرعية.
نفوذ واسع
مع سقوط الرئيس صالح المفاجئ على يد الحوثيين بعد أيامٍ من اندلاع المواجهات في صنعاء ومدن الشمال اليمني بين أنصار الرئيس صالح والحوثيين مطلع ديسمبر 2017، كانت تركةٌ هائلة من النفوذ والقدرات السياسية لأكبر الأحزاب اليمنية محطَّ أنظار القوى الخارجية الفاعلة في الشأن اليمني.
في هذه اللحظة، كان لعمان أن تستفيد من تأثيرها في جماعة أنصار الله لكسب نفوذٍ أكبر عبر الاستحواذ على القدر الممكن من النفوذ داخل حزب الرئيس صالح، حزب المؤتمر الشعبي العام.
ظهر حجم التأثير العماني في الحوثيين مع قدرتها على إخراج أبناء الرئيس صالح من سجون سلطات الحوثيين واستضافتهم في عمان ونسج علاقاتٍ مع مشائخ قبائل الشمال وقيادات الحزب في الداخل والخارج وصولًا إلى التدخل كوسيطٍ للتهدئة في معارك جانبية بين الحوثيين وقبائل اليمنية كما حدث في المعارك بين قبائل آل العواضي بقيادة الأمين المساعد في حزب المؤتمر الشيخ ياسر العواضي وسلطات الحوثيين في محافظة البيضاء.
في الوقت الذي يتسع شق المصالح المتضاربة بين رأسي التحالف العسكري في اليمن، السعودية والإمارات، تستمر مسقط في استثمار الانقسامات لكسب نفوذ وتأثيرٍ أكبر في الداخل اليمني عن طريق القوى المحلية وأمراء الحرب الإقليميين خارج التحالف، قطر مثالًا.
مكاسب النفوذ
امتلاك عمان لهذا التأثير يمكنها من لعب دورٍ أكبر من أي لاعبٍ إقليميٍ آخر في الشأن اليمني عبر نفوذها وتأثيرها في أطراف النزاع المحليين، كما يستمر في منحها مركزًا أكثر أهميةً لواشنطن والمجتمع الدولي في فهم وإدارة النزاع اليمني والإقليمي كالعادة، فضلًا عن انعكاس ذلك على وضعها الداخلي كنظامٍ سلطاني تقليدي تحتاجه المنطقة.
رعت مسقط محادثاتٍ مبكرة عام 2016 بين الخارجية الأميركية من جهة والحوثيين من جهةٍ أخرى، انتهت بالإفراج عن سجناء أميركيين وتجاوز الإدارة الأميركية للقرار الأممي الذي ينص على عودة منصور هادي رئيسًا للبلاد.
مع وصول إدارة ترامب، كانت رؤى إدارة أوباما وجون كيري قد أجهضت. استمرت مسقط في نشاطها وأسهمت في إنجاح محادثات السويد وتقريب وجهات النظر بين الأوروبيين والحوثيين. حقق الحوثيون قبولًا دوليًا أجهض قرار إدارة ترامب في آخر فترته الرئاسية بتصنيف الحوثيين كجماعةٍ إرهابية لتلغيه إدارة بايدن فور وصولها للبيت الأبيض.
مع الإدارة الأميركية الجديدة وتعيين واشنطن لمبعوثٍ خاصٍ بها لليمن، تحرز مسقط مكاسب هذا النفوذ. يؤمن المبعوث الأميركي في أهمية دور مسقط في الأزمة اليمنية وتأثيرها في الحوثيين، وخصوصًا مع وصولهم لمشارف مدينة مأرب، وتراجع بقية أطراف النزاع ومحاولة السعودية الخروج من مستنقع الحرب في اليمن.
بعد مباحثاتٍ بين المبعوث الأميركي ليندر كينغ مع وزير الخارجية البوسعيدي، أرسلت مسقط وفدًا خاصًا للقاء قائد جماعة أنصار الله، عبد الملك الحوثي، لمناقشة فرص الحل السياسي.
السعودية والولايات المتحدة تعول على الدور العماني في التأثير في الحوثيين الذين رفضوا سابقًا المبادرة السعودية للحل السياسي للأزمة اليمنية وإنهاء الحرب.
ساحة تصفية حسابات إقليمية
على الرغم من أنه قد يبدو من غير الواضح وصف عمان كطرفٍ في النزاع أكثر منه كوسيط، إلا أن المؤشرات تشير يومًا تلو آخر عن تصفية صراعات التنافس الخليجي والذي على رأسه عمان في الساحة اليمنية وبطريقةٍ تُبقي فيها عمان أيديها نظيفة وخزينتها مغلقة.
ربما لم تنجح عمان في منع حدوث الصراع في جوارها الأقرب، ولكنها بالتأكيد أصبحت طرفًا مهمًا في تشكيل ملامح الصراع في هذا الجوار. تتحول بهذه الطريقة وبحذر من لعب دور الوسيط المحايد، للعب دورٍ انفصاميٍ بين الحياد والاصطفاف.
في المحصلة، بعد ستة أعوامٍ من الحرب قد يبدو الوضع في اليمن معقدًا وصعب الحل، لكن بالتأكيد تستطيع مسقط تحريك خيوط اللعبة.