في العزلة اختيار.. واختيارٌ صواب لابد وأن يكون في عزلة.. عزلة عن الأهل وعن المقربين وعمن يربطنا بهم الدم وروابط البيولوجيا.. عزلة إنسانية عمن التقت أفكارنا وأفكارهم.. قلوبنا وعقولنا وقلوبهم وعقولهم. أن تتحرر من الحُب ومن المشاعر وتنزوي بعيداً عن كل مواطِن القُرب اللهم إلا والموطن الذي تلتقي فيه ونفسك.
تجلس أمامك وتُقلبك يميناً ويساراً.. تجرد نفسك أمام نفسك.. تعري نفسك أمام نفسك.. تُفصح لها عن حجمك الحقيقي الذي كنت تراه كبيراً لالتصاقك به؛ ففوجئت بحقيقته عندما اتسعت زاوية الرؤية وبعُد الحيز وبعد أن أذيبت المسافة.. تفضحك وتشفق عليك.. تقاضي نفسك وتكون مُحاميها في نفس الوقت.. تتهمها وتذُب عنها.. تدينها وتبين دوافعها.
إنها العزلة المشروطة بالرغبة في الحرية والاستقلال والتفكير الحُر الواعي اللامتناهي.. إنها معنى الحرية الحقيقي الذي طال البحث عنه.. ساعاتٌ مع نفسك وأيام، أعمارٌ تجد فيها نفسك الحقيقية الواعية التي تتوه دوماً وسط زحام اليوم وتفاصيله الكثيرة.. تلك الأيام التي تنشد فيها العزلة تجد نفسك وقد تورطت مع الجميع وقد حارت نفسك وتاهت وهامت وضاعت وفقدت بوصلتها لتجدك وكأنك أحد مريدي الزارات؛ فتتقلب بجسدك ورأسك على الواقفين على الجانبين عسى أن تجدك بينهم، وعسى أن تجد المعنى الذي تبحث عنه عند أحدهم.
العزلة إنتاجٌ فكريّ وأدبيّ.. الانفراد مع النفس صومعة تقترب من الروضة الأدبية.. فالأفكار الحُرة لا تولد إلا في خلوة.. وكسر التابوهات والتمرد والجدل لا يكون إلا في عزلة.. والتفكير بحرية لا يكون قريناً إلا لرجلٍ متقوقعٍ على نفسه والأقلام والورق. تحار بين المؤلفات والكتب.. تتأمل قلمك الذي انقصف منذ فترة؛ فقد امتلأ حبره بهموم وشكاوى الآخرين. وأصبحت الصفحات التي تنظمها بعيداً عنك؛ فتحدث عن الساسة والسياسة.. عن الأفكار المُوجهة والمفكرين.. عن الثقافة والمثقفين والمتثاقفين.
فتبتعد عنك –إذا تمردت على العزلة- وتجدك وقد فكرت برؤوس غيرك، وتلبس أقنعة مقاساتها تناسب آخرين؛ لأنها أكبر من حجمك الذي تعرفه في الحقيقة عندما تجلس وحدك منفرداً.. وحدك في العزلة تشعر وكأنك جنين في بطن الكون والعالم.. تشعر بأن الأسوار المُحيطة بك هي أمك الرؤوم التي تمد لك ثدياً لا يجف من الأفكار التي تُبحِر خارج المألوف.. وترى مآلات تلك الأفكار وقد اصطدمت بتلك الأسوار لترتد إليك أفكاراً وقوالب تترجمك وتضع مخططاً تصويرياً لسنين عمرك التي ضاعت هباءً منثوراً قد تناثرت شذراتها بين الآخرين.
الوحدة سعادة.. والسعادة هنا ليست كالتي رآها الراهب الأسود بطل أديب روسيا أنطون تشيخوف الذي كان يرى أنها –أي السعادة- الحالة الطبيعية التي يجب أن يكون عليها الإنسان، وإنما سعادة العزلة مؤقتة ترتبط بقدر انتمائك لنفسك عندما تجلس معها وحدك.. فالسعادة هنا سعادة التفاصيل: في نغمات الراديو وكلاسيكياته.. في حفيف أوراق الكتب التي تُقلبها.. في صرير قلمك وقد اتكأت على مكتبك تكتب بحرية.. في خلوتك ونفسك مُمدداً ظهرك على الكرسي وتتأمل سقف حجرتك ليأخذك بعيداً وكأنه سقف الكنيسة التي كان يرسمها الإيطالي العظيم مايكل أنجلو.
العزلة محاولة لتجد لنفسك موقعاً بين المساحة الشاسعة التي تفصل بين الأنا والآخر.. فالعزلة قريبةٌ من الموسيقى.. تحب الأوراق والسطور والأقلام وأرفف المكتبات والكتب.. دواءٌ شاف قوامه الإبداع وعماده التفكير الحُر الهادئ.. العزلة محاولة لفهم الأمور على طبائعها الحقيقية دون أن تتجمل هي أو أنت تتجمل وتتملق نفسك والأوراق والقلم.
إلى السطور أعلاه كانت قد انتهت مقالتي، ودعاني مسؤول التحرير صديقي محمد هلال إلى الإضافة والاستطراد على أننا يجب أن نصل إلى حدٍ أدنى من مجموع الكلمات. ويبدو أنه شعر برغبة في الاستزادة مما قد كتبت عن العُزلة، وقد سبقت هذه الرغبة رغبةٌ مثيلة لديّ وشعور حائر: أأزيد إلى المقالة أم أنتهي إلى الحد الذي أرسلت به المقالة على حالتها أول مرة؟!
وتذكرت قبيل إرسال المقالة أنني يجب أن أزيد فيما كتبتُ ولم أكمله.. ولا أدري السبب في توقف سطوري حينها: هل هو فرار من الإضافة إلى الموضوع وتحايُل على سياسة الموقع وأن تتملكني الحالة والتجربة التي كنت أكتب عنها، فأتذكر العزلة الشعور المُرادِف للقلق والملل وأحار حينها: أأنا العُزلة أم المعزول؟! هل الوحِدة هي الشعور الحقيقي والمُرادف للسعادة؛ لذا فأنا دائما منها في هروب حتى لا أنتظر شقاءات تتوالى وتتبع شعور سعادة الوحدة والعزلة والاستغناء؟! أم أن خيوط الموضوع كبُرت في يدي وتناثرت حلقاتها، وكان الأمر فقط محض رغبة في الانتقام والتشفي من السطور وأقوم بعزلها هي الأخرى ولا تكون كمثيلاتها من المقالات المنشورة وقريناتها من الموضوعات حتى يصبح موضوع مقالتي “مدلولاً” على الفكرة التي تُعد العُزلة “الدال” عليها وأقترب من أطروحة دريدا مهما كلفني ذلك من تخلٍّ عن أدبيات الكتابة والنشر!
أم أن العزلة التي كتبتها وعايشتها لدقائق حين بسطها على السطور مجرد “فكرة” لم أطرقها من قبل، وأخذت أتحايل عليها كما كان يفعل بطل قصة توفيق الحكيم “فكرة”؛ فكان يستجديها بأن تمده بما يرتبط بها من الأفكار والعناصر ليبسط قصته في حين أنه من الممكن أن يستغني عنها ويكتب في موضوعٍ آخر يروق له ولقرائه! ويبدو أنه كان غرور الكاتب، الذي ذكرني بسردية موت الكاتب للمفكر الفرنسي رولان بارت على أن يحيا الموضوع دون كاتبه!
وحينها كما يقولون: “العمل الجيد أو الموضوع الجيد يكتب نفسه”، وأزيد حينما يكون موضوعه أبعد عن شخصية كاتبه!
أتذكر دومًا حكمة تقول: لا يقدر على العزلة الكاملة إلا إله أو حيوان، وقرأت في أحد مؤلفات أنيس منصور أن الشاعر الألماني جوته حينما قرأ هذه العبارة، زاد عليها: أو هما معًا. أي الإله الحيوان “الإنسان”، ويقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: قل لي كم ساعة تجلسها مع نفسك، أقل لك من أنت، إن قلت يومًا في كل يوم كُنت إلهًا.. وإن قلت نصف يوم من كل يوم تكن عبقريا.. وإن قلت لا يوم في أي يوم فأنت حيوان!