على مدار تاريخها، عانت مصر من التدخلات الاستعمارية، والخضوع للسيادة الخارجية، ما عرضها للكثير من الأزمات، وكذلك أهلها للسخرية والظلم، من ذلك الديون التركية التي اضطرت إلى دفعها لدائني الأستانة، حتى بعد سقوط السيادة العثمانية عليها، وظلت حتى عام 1955، وبلغت بحسب التقديرات إلى 23 مليون جنيه.
إسماعيل يرث العرش.. ومصر تستدين
يحكي المؤرخ الراحل عبدالرحمن الرافعي، في الجزء الأول من مؤلفه “عصر إسماعيل”، بداية القصة التي تسببت في هذه الديون، قائلا: “إن الخديو إسماعيل (1830 – 1895)، أول ما وجه إليه جهده، هو العمل على تغيير نظام توارث العرش، فقد كان النظام القديم الذي فرضه فرمان سنة 1841 يقضي بأن يؤول عرش مصر إلى أكبر أفراد الأسرة العلوية سنا، كالنظام المتبع في تركيا، فسعى إسماعيل جهده في أن يؤول العرش إلى أكبر أنجاله”.
وبالفعل نجح سعي إسماعيل، بفضل المثابرة، والدأب على الطلب، وبفضل الأموال الطائلة التي بذلها في الأستانة، وقد بلغت بحسب “الرافعي”، ثلاثة ملايين جنيه، لكن من ناحية أخرى، كان هذا الأمر من الأسباب الأولى لديون مصر. ويعقب المؤلف على ذلك، بقوله: “وليس ثمة شك في أن التضحية المالية لا توازيها الفائدة التي نالتها مصر من هذا التغيير؛ لأن طريقة توارث العرش ليست مسألة جوهرية تهم البلاد حتى تبذل في سبيلها الملايين، هذا إلى أنها كلفت مصر تضحية مالية أخرى، ذلك أن تركيا اشترطت مقابل هذا التغيير، زيادة الجزية السنوية من 400 ألف جنيه عثماني إلى 750 ألف جنيه، وهي زيادة فادحة تحملتها مصر، وبلغت نيفا وخمسة عشر مليون جنيه مصري لغاية سنة 1914، وهي السنة التي زالت فيها السيادة العثمانية عن مصر.
ويوضح جمال صلاح الدين، في مؤلفه “حرب أكتوبر – القصة الكاملة للصراع”، أنه منذ معاهدة لندن 1840 كانت مصر وفقا للمعاهدة دولة مستقلة، وعرش مصر في أسرة محمد علي بالوراثة، ولم يحد من الاستقلال سوى قيادة السيادة العثمانية، وفقا للمعاهدة، وقد تراخت هذه السيادة مع الزمن، ولم يتبق من مظاهرها سوى الجزية السنوية ومقدارها 750 ألف جنيه عثمانلي، ما يعادل 641 ألف جنيه مصري سنويا. ويكشف “صلاح الدين”، أنه “حتى هذه الجزية رهنتها تركيا لدائنيها في بيوت المال العالمية، أي أنها تقترض من بيوت الأموال ومصر تسدد الجزية لهذه البيوت كجزء من ديون تركيا، واستمر هذا الوضع حتى عام 1955 بعد ثورة تموز/يوليو 1952”.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، لماذا تحملت مصر هذه الديون بعد سقوط السيادة العثمانية؟
الحكومة الخديوية قبلت تحويل الجزية إلى دائني تركيا، وتعهدت بدفع أقساط ديونهم السنوية خصما من الجزية لغاية سنة 1955
يجيب عبدالرحمن الرافعي: “لأن الحكومة الخديوية قبلت تحويل الجزية إلى دائني تركيا، وتعهدت بدفع أقساط ديونهم السنوية خصما من الجزية لغاية سنة 1955، فإذا حسبنا خسارة مصر في زيادة الجزية من سنة 1866 لغاية سنة 1955، لبلغت نيفا وخمسة وعشرين مليون جنيه مصر، عدا فوائدها”، معتبرا أنها “خسارة جسيمة لا مبرر لها ولا مسوغ”.
في السياق ذاته، يقول صلاح عيسى، في مؤلفه “هوامش المقريزي“: “كان مفروضا أن تسقط الجزية عن مصر بسقوط سيادة تركيا عليها، ووضعها تحت الحماية البريطانية، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، فقد كانت تركيا تتقاضى تلك الجزية مقابل التزامها بحماية مصر والدفاع عنها عند اعتداء دول أجنبية عليها، ومقابل تمثيلها سياسيا في الخارج، وهو ما انتهى كله بإعلان الحماية، إلا أن الحكومة المصرية لم تلتفت إلى هذا الأمر وظلت تدفع أقساط الدين بسبب تعهد سابق بدفعها، وقعه الخديوي توفيق (1852 – 1892)”.
ويركو الآستانة.. ضريبة فرضها العثمانيون على مصر
في عام 1955، وبعد ثلاث سنوات من ثورة تموز/يوليو 1952، دفعت مصر آخر قسطين من نصيبها في ما يسمى بـ”ويركو الآستانة”، الذي يعرفه صلاح عيسى بقوله: “هو الضريبة التي فرضها العثمانيون على مصر عندما سقطت تحت سنابك السلطان العثماني سليم الأول في عام 1517، فأصبحت ملزمة كواحدة من ولايات الإمبراطورية العثمانية أن تدفع سنويا جزية للباب العالي”.
في عام 1955، وبعد ثلاث سنوات من ثورة يوليو 1952، دفعت مصر آخر قسطين من نصيبها في ما يسمى بـ"ويركو الآستانة"
وسلطت الدكتورة إيناس محمد البهيجي، في مؤلفها “مصر في عهد الخديوي إسماعيل”، الصادر عن مركز الكتاب الأكاديمي، الضوء على الميزانية في عهد إسماعيل، وكان من ضمن المصروفات في ميزانية سنة 1871 – 1872، بند يسمى “ويركو الآستانة” (الجزية)، بواقع 658,335 جنيها.
وكانت هذه الجزية مثار حروب وكروب بين أمراء المماليك والسلطنة العثمانية، فبعد أن تدهورت سلطة العثمانيين، وارتخت قبضتهم على مصر، سارع أمراء المماليك بمنع الجزية، ورد الباب العالي بتجريد حملات تأديبية عسكرية على المماليك، كانت تنتهي بدفعهم الويركو من جديد، بحسب “عيسى”.
ويكشف الكاتب الراحل الأسباب التي آلت إلى دفع مصر كل هذه الديون حتى عام 1955، فيقول: “ما حدث هو أن تركيا في عام 1891، أرادت أن تستدين من بنك روتشيلد وأولاده في لندن وباريس مبلغا من المال، تسدد به ديونا استحقت عليها وعجزت عن دفعها، فقبل آل روتشيلد إقراض تركيا المال، لكنهم اشترطوا أن تتعهد مصر بأن تدفع أقساط هذا الدين خصما من الجزية المفروضة عليها، وأصدر السلطان العثماني عبدالحميد الثاني أمره إلى الخديو توفيق بذلك”.
لم يرفض الخديوي توفيق، وأصدر تعهدا على نفسه بأنه يقبل دفع مبلغ 380.622 جنيه سنويا إلى آل روتشيلد لمدة 60 سنة، من “ويركو مصر” الواجب عليها وعلى خلفائها، دفعه إلى الحكومة العثمانية، وهنا يلفت صلاح عيسى إلى أنه “أهمل النص في تعهده على أن دفع الأقساط يكون معلقا على استحقاق الجزية”.
لم تكن هذه المشكلة الوحيدة، لكن كما يوضح صلاح عيسى، استمرأ السلطان العثماني اللعبة فاقترض من “آل روتشليد” مبلغا آخر في عام 1894، وأمر الخديو عباس حلمي الثاني (1874-1944) بالتعهد بدفعه، وهكذا ارتفع القسط الذي تدفعه مصر للخواجات نيابة عن تركيا إلى 399 ألف جنيه، وحتى عام 1915 كانت مصر قد دفعت 14 مليون جنيه قيمة التعهدين.
واستمرت مصر في الدفع 8 سنوات أخرى، دفعت خلالها خمسة ملايين جنيه، ثم تنبهت الحكومة إلى سقوط السيادة العثمانية، فأصدر مجلس النواب في عام 1924، وبعد ثورة 1919، قرارا بالكف عن دفع أي قسط لتركيا، وقال سعد زغلول (1858 – 1927)، رئيس الوزراء آنذاك في المجلس: (إن مصر لن تدفع شيئا منذ الآن).
أصدر الخديوي توفيق تعهدا على نفسه بأن يدفع مبلغ 380.622 جنيه سنويا إلى آل روتشيلد لمدة 60 سنة
وتشير لطيفة محمد سالم في الجزء الثاني من مؤلفها “النظام القضائي المصري الحديث”، إلى هذه الأحداث أيضا، موضحة أنه كان من المقرر أن تدفع الحكومة المصرية لبيت روتشيلد ولمدة ستين عاما مبلغا معينا قدر بـ750 ألف جنيه، من فوائد الديون التركية لهذا البيت خصما من الجزية السنوية التي تتقاضاها تركيا، وعندما تنازلت الأخيرة عن سيادتها على مصر بمقتضى معاهدة لوزان في 24 تموز/يوليو 1923، أعلنت الحكومة المصرية أنها في حل من دفع الجزية، وبالتالي من دفع الفوائد، وكان هذا عملا من أعمال السيادة.
كلمات سعد زغلول التي قالها في هذا الشأن بمجلس النواب، كشف عنها عبدالعزيز شرف، في مؤلفه “محمد حسنين هيكل والفكر القومي المصري”؛ إذ يقول: “ألقى سعد زغلول كلمة في خلال المناقشات التي سبقت القرارات التي أصدرها مجلس النواب في جلسة 9 تموز/يوليو 1924، في موضوع الديون العثمانية المترتبة على الويركو والتي ألزمت مصر بها معاهدة لوزان، فقال: إن المسألة المطروحة أمام حضراتكم تنقسم إلى قسمين:
- الأول: هل مصر ملزمة بالديون التي كانت مترتبة على الويركو أو لا؟
- الثاني: هل إذا كانت مصر غير ملزمة بهذه الديون يجب عليها أن تتوقف عن الدفع حالا أو لا؟
اعتراض “زغلول” كان له الكثير من الدعم، منه ما كشفته هدى شعراوي (1947-1879)، زعيمة الحركة النسائية بمصر، في مذكراتها؛ قائلة: “عقدت لجنة الوفد المركزية للسيدات وجمعية الاتحاد النسائي المصري عدة اجتماعات برئاستي لمناقشة مطالب المرأة، وقد انتهينا إلى تصور شامل وعام لهذه المطالب، وأصدرناها في كتيب صغير في عام 1924، وقد وجهنا هذه المطالب إلى رئيس مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب والصحافة والرأي العام”.
وكان من ضمن هذه المطالب التي ذكرتها هدى شعراوي: “عدم الاعتراف بما ورد في معاهدة لوزان سنة 1923، من تحميل الخزانة المصرية قسما من ديون تركيا القديمة، فإن سيادة تركيا على مصر زالت وليس لها عليها حق ما”.
وقد جاء في المادة 18 من معاهدة لوزان أن “تركيا صارت محررة من كل تعهداتها الخاصة بالقروض العثمانية المضمونة بالجزية المصرية، وهي القروض المعقودة في سنوات 1855، و1891، و1894، وصارت المدفوعات السنوية التي تدفعها مصر لوفاء هذه القروض الثلاثة جزءا من مدفوعات الدين المصري العام، وصارت مصر محررة من كافة التعهدات الأخرى المتعلقة بالديون العثمانية”.
المحاكم المختلطة تنصف تركيا على حساب مصر
بعد تصريح الزعيم الوفدي سعد زغلول، وتحديدا في عام 1924، طرحت على المحكمة المختلطة قضية الجزية التركية، رفعها الدائنون الإنجليز مطالبين بالدفع، مؤكدين أن الامتناع عنه يتسبب في ضرر لهم، بحسب لطيفة محمد سالم. ويسخر صلاح عيسى مما حدث، بقوله: “كان في مصر آنذاك محاكم مختلطة يلبس قضاتها قبعات”، موضحا: “رفع روتشيلد دعوى أمامها بدلا من أن يعود إلى تركيا مطالبا إياها بما استدانته منه، وطالب بإلزام مصر بأن تدفع لهم أقساط الدين من أولها إلى آخرها”.
اقرأ أيضا: العثمانيون الجدد.. الحنين لماضٍ مأزوم
وكان رد الحكومة المصرية أن المحاكم المختلطة ليس من حقها أن تحكم في أعمال الحكومة التي تجريها بموجب سلطتها العامة، لكن رفضت المحكمة وحكمت بالتزامها بأن تدفع إلى “روتشيلد” جميع أقساط الدين التي تنتهي في عام 1955. ووفقا للطيفة محمد سالم، جاء الحكم في نيسان/أبريل 1925 لصالح الأجانب ضد الحكومة المصرية، مقررا بأن ما أقدمت عليه الحكومة يخالف تعهدات دولية، تلك التي تلزمها باستمرار الدفع، وسلمت مصر بالحكم. ويعقب “عيسى على ذلك، بقوله: “وهكذا أجبر عدل الخواجات مصر على دفع 23 مليونا من الجنيهات، اقترضتها تركيا من (آل روتشيلد)”.
في كتابه (الشرق الأوسط الكبير)، الذي أصدره في العام 1994 -أي بعد اتفاقيات أوسلو-، يدعو شمعون بيريز رئيس الكيان الصهيوني سابقًا إلى قيام نظام إقليمي شرق أوسطي يقوم على أربعة عوامل رئيسية؛ هي: الاستقرار السياسي، والاقتصاد، والأمن القومي، والديمقراطية. لكن المتصفح للكتاب يلاحظ بشكل واضح أنه خصص القسم الأكبر منه للحديث عن أهمية قيام تكتل اقتصادي إقليمي على غرار الاتحاد الأوروبي يقوم على ثلاثة أضلاع.