إذا كانت العصور القديمة قد شهدت ازدهار الحضارات اليونانية والرومانية على سواحل البحر المتوسط في جنوبي القارة الأوروبية، فإن الأجزاء الشمالية من القارة قد عرفت ظهور ثقافة قبلية أقل تحضرًا، وهي تلك التي عُرفت باسم الثقافة الجرمانية.
على الرغم من العداء الطويل -والمرير- بين الجرمان والإمبراطورية الرومانية، فإن ملك الفرنج شارلمان -وهو أحد الجرمان- قد تمكن من الوصول لمنصب إمبراطور “الإمبراطورية الرومانية المقدسة”، بعدما تم تنصيبه في كنيسة القديس بطرس على يد البابا ليو الثالث في مطلع القرن التاسع الميلادي.
قبل أن يتحولوا للمسيحية، آمن الجرمان بمجموعة من المعتقدات الدينية الوثيقة الصلة بالمعتقدات الآرية القديمة، كما عبدوا بعض الآلهة التي تغلب عليها الصفة الحربية، الأمر الذي بانت آثاره فيما نُقل عنهم من قصص وأشعار.
الهجرات الهندو- أوروبية وظهور الجرمان في أوروبا
بحسب الكثير من الفرضيات والنظريات العلمية المُتعارف عليها، فإن اسم الشعوب الهندو- أوروبية، يُطلق على التجمعات البشرية الكثيفة التي كانت تسكن في أوكرانيا وجنوب روسيا لفترة طويلة، قبل أن تنطلق في مجموعة من الهجرات البشرية العظيمة للهند وأوروبا، وذلك في أوقات مختلفة من الثلاث آلاف سنة التي سبقت الميلاد.
يقوم هذا الاعتقاد -بالمقام الأول- على أساس أن هناك تشابهًا كبيرًا بين الكثير من اللغات الهندية والأوروبية، مثل السنسكريتية والفارسية واليونانية واللاتينية والجرمانية، كما أن هناك تقاربًا ملحوظًا فيما يخص الإطار الحضاري العام لتلك الشعوب، الأمر الذي يظهر في البناء الطبقي الاجتماعي، والميثولوجيا الدينية، والنظرة العامة للكون والحياة.
بحسب النظريات التي قالت بوقوع تلك الهجرات، فإن الجفاف والقحط والتغيرات المناخية الصعبة التي وقعت في السهول الأوراسية، هي التي حدت بتلك القبائل للبحث عن وطن جديد لهم، الأمر الذي تحقق بعدما انتقل الآريون -وهو الاسم الذي عُرفت به تلك الشعوب- إلى الهند والقارة الأوروبية، ليتمكنوا من استيطانها عقب التغلب على السكان الأصليين، وليشكلوا طبقة حاكمة مميزة تستحوذ على مقاليد السلطة والثروة.
من أشهر القبائل الجرمانية التي انتشرت في شتى أنحاء القارة الأوروبية، كل من القوط الشرقيين، والقوط الغربيين، والفاندال، والساكسون، واللمبارد، والفايكنج، والفرنج، والأنجلوساكسون
بحسب ما هو معروف، فإن قبائل الجرمان أو التيتونيون كانوا أحد فروع الشجرة الهندو- أوروبية، تلك التي استقرت في فترة مبكرة في شمالي القارة الأوروبية، في منطقة اسكندنافيا، والتي تمتد حاليًا في دول الدانمارك والنرويج والسويد وفنلندا وآيسلندا. الجرمان فيما بعد، هاجروا نحو قلب القارة البيضاء، واستقروا في المناطق المتاخمة للدولة الرومانية، ليدخلوا في معارك متلاحقة ضد جيوشها، ولا سيما في بلاد الغال، والتي يُقصد بها فرنسا وسويسرا وأجزاء من بلجيكا وهولندا وألمانيا.
القبائل الجرمانية تمكنت من الحفاظ على استقلالها وقوتها، واستطاعت أن تضعف الإمبراطورية الرومانية شيئًا فشيئًا، حتى وجهت لها الضربة القاضية في عام 476م، عندما نجح الجرمان في غزو روما نفسها، والقضاء على الإمبراطورية، بقيادة زعيمهم المعروف أودواكر.
من أشهر القبائل الجرمانية التي انتشرت في شتى أنحاء القارة الأوروبية، كل من القوط الشرقيين، والقوط الغربيين، والفاندال، والساكسون، واللمبارد، والفايكنج، والفرنج، والأنجلوساكسون، وهي القبائل التي جمعتها مجموعة من العقائد والأفكار الدينية المتشابهة إلى حد بعيد.
كيف خلق الكون؟ وكيف ينتهي؟
لما كان السؤال المتعلق بأصل الكون والحياة، هو أحد الأسئلة المُلحة، والتي تحظى بالاهتمام في أي نسق ديني، فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن نجد الشعوب الجرمانية وقد اهتمت بتقديم إجابتها الخاصة على هذا السؤال.
يذكر إي. تونيات في موسوعة الميثولوجيا، في مادة “الآلهة والأساطير التيوتونية“، أن الاعتقاد الجرماني التقليدي كان يذهب إلى أنه في البدء لم تكن هناك إلا هاوية عظيمة، في شمال تلك الهاوية، كان هناك عالم من السحب والظلام يدعى نيفلهايم، وكانت تصدر منه مياه جليدية تسيل في اثني عشر نهرًا، أما في الجنوب من تلك الهاوية، فقد وقعت أرض النار موسبيلشايم، والتي تصدر عنها مجموعة من الأنهار الحارة.
بحسب الأسطورة، فإن الهواء الدافئ الذي كان يهب من الجنوب، قد أخذ في إذابة الجليد شيئًا فشيئًا، ومن القطرات الأولى التي تشكلت، ولد عملاق على هيئة بشرية يُدعى إيمير، وهو أول الكائنات الحية على الإطلاق، ولما كان يجمع في جسده بين صفات الذكر وصفات الأنثى، فقد تمكن من التكاثر ذاتيًا، وبحسب الأسطورة، فإن إيمير كان المصدر الأول لجميع المخلوقات، فمن عرقه ولد عملاقان آخران، على هيئة رجل وامرأة.
تتابع القصة، بأنه ومن الجليد الذي كان لا يزال يذوب، ولد بوري، الذي أنجب بدوره ابنًا يدعى بور، وتزوج الأخير من إحدى بنات العمالقة، لينجب منها ثلاثة آلهة، وهم: أودين، وفيلي، وفي، على الترتيب. وقد قام الآلهة الثلاثة بقتل جميع العمالقة، ومن جثمان العملاق الأول إيمير، خُلق العالم بشكله المعروف، إذ تشكلت الأرض من جلده وعضلاته، والبحر من دمائه، أما السماء والشمس والنجوم فقد تشكلت جميعها من جمجمته.
في السياق نفسه، تحدثت القصة الأسطورية عن الشجرة المقدسة إغدراسيل، والتي تُعد مركز الكون، والتي تجتمع الآلهة عندها في كل يوم لمناقشة أمورها، وبعد ذلك يأتي دور خلق الإنسان الأول من العالم النباتي، وذلك عندما مر الآلهة بشجرتين يابستين على الأرض فقرروا أن يحولوهما إلى مخلوقين بشريين، وهما الرجل الذي عرف بأسك، والمرأة التي عرفت بإمبلا، ومنهما انحدر الجنس البشري كله فيما بعد.
أما الجن، فقد وصفتهم المعتقدات الجرمانية بأنهم على درجة عالية من الوسامة، وأنهم كانوا مغرمين بالرقص واللهو طوال الليل
المعتقد الجرماني لم يقصر الحياة على الآلهة والعمالقة والبشر فحسب؛ بل نراه يشير للعديد من أشكال الحياة المختلفة، ومنها الأرواح والعفاريت والجن. الجرمان آمنوا بأن أرواح الموتى لها قدرة سحرية، ولذلك كانوا يدفنون موتاهم تحت عتبة منازلهم، لتبقى أرواحهم حارسة لتلك المنازل، كما آمنوا بأن هناك أرواحًا أخرى، وهي الفالكيرات اللاتي كن يمنحن النصر للمقاتلين في ساحة المعارك.
أما الجن، فقد وصفتهم المعتقدات الجرمانية بأنهم على درجة عالية من الوسامة، وأنهم كانوا مغرمين بالرقص واللهو طوال الليل، فإذا طلع النهار اختفوا لأنهم يخافون من ضوء الشمس. من جهة أخرى، نظر الجرمان للأقزام على كونهم صنف خاص من الجن، وأنهم كانوا يسكنون تحت سطح الأرض، وفي الكهوف الجبلية، وعلى العكس من الجن، عُرف الأقزام بالهيئة القبيحة واللحى الطويلة، كما اشتهروا بامتلاكهم القدرة على صياغة الذهب والمعادن وصناعة الأسلحة المدمرة.
فيما يخص الجنة، فقد تخيلها الجرمان بالشكل الذي يتفق مع طبيعتهم المحاربة، إذ اعتقدوا أن المقاتل بعد موته ينتقل إلى قاعة عظيمة في العالم الآخر، وهي تلك التي تُعرف باسم فالهالا، وآمنوا بأن الميت يعيش هناك في سعادة ودعة، ويتناول طعامه وشرابه في شكل ولائم فاخرة.
النقطة المهمة التي تجدر الإشارة إليها ها هنا، إلى أن القبائل الجرمانية لم تعتقد بأن العالم سيظل قائمًا إلى الأبد، ولم يؤمنوا بخلود آلهتهم، وربما كانت طبيعة حياتهم المتقلبة التي لم تخل يومًا من القتال وتبادل النصر والهزيمة مع الأعداء، هي التي حدت بهم للإيمان بهذا المعتقد الغريب نوعًا ما عن المعتقدات السائدة في معظم الأديان المعروفة.
بحسب المعتقد الجرماني التقليدي، فإن هناك معركة نهائية سوف تقع، وسيشارك فيها جميع الآلهة النوردية/ الجرمانية، وهي المعركة التي تُعرف باسم غوتر دوميرونغ، بمعنى غروب الآلهة. في تلك المعركة، سيُقضى على جميع الآلهة، إذ سيسقط الإله أودين أمام الذئب فيرنير، وسيُقتل الإله فراي على يد سورت زعيم عمالقة النار، أما الإله ثور، فسيقضي نحبه بعد أن يستنشق السم الذي نفثه الوحش ميدغارد. بحسب تلك الحكاية، فقد مات جميع الآلهة الكبار، وتُرك البشر لمصيرهم لفترة، قبل أن يظهر جيل جديد من الآلهة الذين لا تربطهم أي صلة بالآلهة القديمة.
أودين، وثور، وتيو: الآلهة الجرمانية التي أُطلقت أسماؤها على أيام الأسبوع
على العكس من البانثيون اليوناني والبانثيون الروماني، فإن مجمع الآلهة الجرمانية لم يعرف عددًا محددًا من الآلهة، وقد ظل هذا الأمر قابلًا للتطور والتعديل مع مرور الوقت.
نستطيع أن نلمس مجموعة من الصفات التي تميز الآلهة الجرمانية؛ أولها أن تلك الآلهة لم تكن إلا نوعًا متفوقًا من البشر، فهم فانون وقابلون للهزيمة ويخضعون لتقلب المصائر. أيضًا نلاحظ أن الطابع الحربي الذي ميز القبائل الجرمانية قد انعكس على تصورهم النمطي للآلهة، إذ نجد أن معظم الآلهة قد عُرفت بتفوقها الحربي وبشجاعتها التي تظهر في المواقف الصعبة.
بحسب ما يرى الكثير من الباحثين، ومنهم الباحث السوري فراس السواح في كتابه “موسوعة تاريخ الأديان“، فإن نظرة القبائل الجرمانية الدينية، تتسق بشكل كبير مع البنية الاجتماعية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات، الأمر الذي يتشابه كثيرًا مع بقية الشعوب الهندو- أوروبية، وعلى رأسها الرومان والآريون الذين غزوا الهند منذ فترة مبكرة، ما نلاحظه أن المجتمع في جميع تلك الحالات، كان ينقسم إلى ثلاث طبقات مميزة، وهي طبقة النبلاء، وطبقة المحاربين، وطبقة الفلاحين، وأن تجليات هذا التقسيم الثلاثي قد ظهرت في ثلاث مجموعات من الآلهة، الأولى تختص بحكم العالم، والثانية ترتبط بالقوة البدنية، أما المجموعة الثالثة فهي تلك التي ترتبط بالخصوبة والسلام والصحة.
من أهم الآلهة التي اشتهر أمرها في المعتقدات والميثولوجيا الجرمانية، الإله وودن/ أودين، والذي شغل منصب الإله الرئيس في الميثولوجيا الجرمانية، وسمي اليوم الرابع في الأسبوع باسمه في اللغة الإنجليزية Wedenesday.
تم تصوير أودين على هيئة فارس يرتدي عباءة فضفاضة، ويعتلي صهوة جواده، ليجوب في أرجاء السماء. كما أظهرته بعض القصص وهو يتعامل مع البشر وقد تنكر في هيئة رجل أعور، طويل القامة، يضع على رأسه قبعة، وكان هناك اعتقاد شائع بأنه الإله الذي يمنح النصر في الحروب، وأنه إله الحرب والقتال، كما أنه قادر على تحويل نفسه إلى أشكال مختلفة، فقد يتحول إلى طائر أو أفعى أو وحش، وكان إذا نزل إلى ساحة المعركة ينتصر على أعدائه بعد أن ينزل بهم الصمم والعمى، وبحسب المعتقدات الجرمانية، فان أودين هو الذي سن القوانين المنظمة لأحوال المجتمع البشري، وكان يعيش في فالهالا ويستقبل المحاربين الذين قتلوا بشرف وكرامة في ساحات المعارك.
من أهم الآلهة التي اشتهر أمرها في المعتقدات والميثولوجيا الجرمانية، الإله وودن/ أودين، والذي شغل منصب الإله الرئيس في الميثولوجيا الجرمانية، وسمي اليوم الرابع في الأسبوع باسمه في اللغة الإنجليزية Wedenesday.
من أهم القصص المرتبطة بأودين، تلك التي تحكي عن قيامه بالتضحية بنفسه وموته وبعثه من جديد، عندما طعن نفسه بالرمح وعلق جسده على أغصان الشجرة المقدسة إغدراسيل، الأمر الذي يمكن أن نفهمه في ضوء الكثير من الأديان البدائية التي مارست طقوسًا مشابهة بهدف تجديد الشباب والتخلص من الشيخوخة، كما أن بعض الباحثين قد ربطوا بين تلك القصة من جهة وما عُرف عن موت يسوع على الصليب في المعتقد المسيحي من جهة أخرى.
الإله ثور، كان ثاني الآلهة مكانةً ومقامًا في الميثولوجيا الجرمانية، وكان يُعتقد بأنه إله الرعد، وقد شبهه الرومان بالإله جوبيتر، وأُطلق اسمه على اليوم الخامس من الأسبوع Thursday. ثور، صور في الأساطير وهو يمسك مطرقة حجرية كبيرة، يستعد لرميها على رؤوس أعدائه، وقد حلت تلك المطرقة في الأساطير الجرمانية محل هراوة هرقل التي تحدثت عنها الأساطير الرومانية.
فضلًا عن المطرقة، امتلك ثور طلسمين خاصين به، الأول، عبارة عن نطاق يقوي أعضاءه إذا شده إلى وسطه، والثاني عبارة عن قفاز حديدي يساعده على إحكام قبضته على المطرقة في أوقات القتال، ومن الجدير بالذكر هنا، أن بعض القصص قد أكدت على أن ثور كان ابنًا للإله أودين.
أما ثالث الآلهة، فهو الإله تيو، ويعتقد الكثير من الباحثين أنه كان الإله الأصلي لكل الشعوب الجرمانية، وقد أُطلق اسمه على اليوم الثالث في الأسبوع Tuesday.
أيضًا، من الآلهة ذات الشأن العظيم في الميثولوجيا الجرمانية، تلك المجموعة التي أُطلق عليها اسم الفانير، والذين كانوا آلهة مسالمين، وانحصرت مهامهم في مد الحقول بنور الشمس، ومراعاة تكاثر البشر، وجني ثمار ومحاصيل الأرض، فضلًا عن حماية التجارة والملاحة، ومن أهم تلك الآلهة، الإله نيورد، وابنه الإله فراي.