تكتسب الأيديولوجيات والتيارات الفكرية أهميتها من شمولية طرحها؛ فالإسلام والشيوعية والليبرالية وغيرها هي أنساق فكرية تحيط بكل أبعاد الوجود الإنساني؛ فتسن وتشرع وتمنع وتسمح وتبيح وتحضر وتحدد في كل ما يتعلق بأوجه الحياة البشرية، لهذا من البديهي أن نفترض بل أن نقر بتأثير هذا النظام على الجانب النفسي والعلاقات العاطفية لتصل حد الذي يبلغ حدود الجانب الحميمي.
فيما يلي بيان على ما للرأسمالية من تأثير على العلاقات العاطفية، وموقع المجتمعات العربية المحافظة في هذا التأثير. في هذا المبحث تعتبر إيفا اللوز الأستاذة الجامعية المختصة في سوسيولوجيا المشاعر مرجعًا مهمًا، باعتبار تكوينها الأكاديمي وكتاباتها حول المفاهيم والعلاقات في ظل مجتمعات ما بعد الحداثة.
من الحداثة إلى ما بعد الحداثة
لطالما كان التاريخ سلسلة متواصلة من أنظمة تخبو وأخرى تأخذ مكانها، ومن رحم الإقطاع ظهرت الرأسمالية بعد أن طورت نظامًا اقتصاديًا ونظامًا سياسيًا رأسماليين، وتمكنت أقلية من تحقيق مصالحها وفرض جملة من التشريعات تضمن تواصل هذه المصالح.
إن الرأسمالية ليست توصيفًا منحازًا؛ بل هو تصنيف علمي يلتف حوله أكاديميون من جنسيات مختلفة وذوو ثقافات مختلفة، مختصون وفاعلون في مجالات مختلفة، ووجود أكاديميين استطاعوا أن يتبينوا ويبينوا الأثر البالغ لهذا النظام العالمي على الوجود الإنساني، هو لفت نظر لضرورة تقييم هذا التأثير المتعمد والمدروس. وفي تقييم هؤلاء لآثار الحداثة على الإنسان المعاصر، تبين أن العقلانية التي انطلقت مع التطور العلمي أصبحت عقلانية أداتية. هذه العقلانية تعتبر الإنسان جزءً من منظومة أداتية (المجتمع، وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج والطبيعة والآلات (تستعمل لتحقيق كل الأهداف وتطوع لبلوغ كل الغايات، تبين أيضًا أن الإنسان أصبح يخضع لإيقاع الآلة، وصار محاطًا بعديد الأجهزة والتقنيات والآليات والتشريعات التي تسلب حريته وتؤثر في أعماق أحاسيسه وحاجياته، في حين أن تبشيرية فلسفة الأنوار كانت تنشد الحرية.
تاريخ العلاقات في المجتمعات الغربية: تطورات متداخلة:
اعتماد المقاربة العلمية في تفكيك هذا الموضوع هو أنجع وسيلة لفهم الأسباب والنتائج وارتباطها مع ما هو اقتصادي وسياسي.
إلى حدود القرن 19، كان الحب هو الدافع الأول للارتباط والمفهوم المركزي الذي تقوم عليه مؤسسة الزواج في المجتمعات الغربية، وقبل الحداثة كان من سمات النبل وخصال المروءة الدفاع على الضعفاء، ومنهم المرأة، لكن قيمتها الاجتماعية لم تكن أعلى من قيمة المسنين والأطفال والعاجزين؛ فقد كانت تتذيل تصنيفًا مجتمعيًا تفاضليًا يعظم من شأن الرجل ويوليه الصدارة. كانت المرأة ترى في الحب الضامن الوحيد لمكانة مجتمعية تستجيب لمعيارية تلك المجتمعات المحافظة، وكان المثال العاطفي الذي تتطلع إليه هو تلك المؤسسة؛ حيث تستمد قيمتها من التعب والمسؤوليات التي يفرضها دور الزوجة والأم. كانت إذن المثالية العاطفية العنصر المحدد لمستقبل الأنوثة والمرأة إلى حد عصر الرومانسية.
أخذت ملامح الحركات النسوية تظهر، وبدأت أدبياتها تتبلور ومطالبها تتشكل، وبداية من القرن 20 ومع حتمية تطور الوعي الذي تزامن مع تحولات أخرى أخذت المرأة تتطلع إلى وضعية أفضل وأرقى، وكان الحق في التصويت وفي المواطنة الكاملة في إطار مجتمعات الحداثة والديمقراطية من أولى مطالب الحركة النسوية. شهدت هذه الفترة أيضا نهاية تشكل آخر ملامح الرأسمالية، وبدأت كبرى الشركات في تركيز أنظمتها وتثبيت وجودها كعماد للسوق العالمية المفتوحة، ولم يتوقف سعي المرأة إلى بلوغ الندية الكاملة مع الرجل في حدود الحقوق المدنية؛ بل امتد إلى المطالبة بالحرية الجنسية في سبعينات القرن 20 ( ثورة 1968، التأثر بموجة الهيبي القادمة من أمريكا ). وكانت المطالبة بفك الوصاية على الجسد الأنثوي مطلبًا ثوريًا حينها وما زال حتى الآن. وبعد انتزاع حق الإجهاض أصبحت المرأة نفسها تبحث عن الإشباع الجنسي بمعزل عن فعل الولادة. وأصبح التمرد على مؤسسة الزواج التقليدية بوصفها الإطار الوحيدة لممارسة الحميمية (فعل مقاومة).
وقد كان من الواضح لكثير من المختصين منذ أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 أن من سمات السوق الرأسمالية أن تجردت المعاملات الاقتصادية من الطابع القيمي والمعياري للمجتمع، وتترك السوق حرة في تصرفها وقيادتها لنفسها قبل أن تخضع المجتمع لسيطرتها.
اصطبغت العلاقات الإنسانية بالنزعة الاستهلاكية في المجتمعات الرأسمالية، وذلك ما استقرأته الشيوعية منذ ما يقارب 200 سنة. وإن كان تشييء جسد المرأة قد بدأ مع أولى الحملات التسويقية الإشهارية في أوائل القرن 20، فإن تبضيعه قد تواصل في منحى تصاعدي بعد ذلك؛ فقد التقط النظام المطالب الشرعية للتحرر من الهيمنة الذكورية والسلطة الأبوية وتحقيق الذات ليحولها لمصلحته ، فيكون بذلك أول المستفيدين؛ بل لعله أوحدهم، وتخلصت ثقافة الاستهلاك من الحدود الجنسية التقليدية التي كانت يؤسسها الزواج مستغلاً النجاح النسبي الذي حققته مطالب تحرير الجنس والتحكم في الإنجاب، وتحت هيمنة النزعة الاستهلاكية ومشروعية العلاقات الجنسية الحرة، أصبحت هوية الفرد في المجتمع هوية جنسية بحتة تسعى إلى إثارة الجنس الآخر باستعمال جملة من الشفرات الجسدية واللغوية، وأصبحت الجنسانية البعد الأهم في العلاقات.
كان الحق في التصويت وفي المواطنة الكاملة في إطار مجتمعات الحداثة والديمقراطية من أولى مطالب الحركة النسوية
هذه الاعتبارات أدت إلى فصل المشاعر عن الحميمية، ومرت العلاقات من نظام ذي مراحل تخضع فيه كل الخطوات للطقوس، إلى نظام يتجاوز هذه المراحل، وانتقلنا من مثال الارتباط الرسمي كإطار شرعي وشامل يتكامل فيه عنصرا الحميمية والمشاعر إلى مثال يتجاوز هذه المعيقات والحواجز. وصارت المشاعر المؤقتة والإعجاب العابر عقد الالتزام بين شخصين، وهو الذي يشرعن الحياة الجنسية، وفصل النظام الجنسي عن النظام النفسي هو ما تعتبره الأستاذة السبب الأول لتدهور العلاقات العاطفية، وأصبحت العلاقات العاطفية العصرية والمتعارف؛ تخضع لثلاثة مفاهيم رئيسية. هي مفاهيم مرتبطة حصرًا بالجسد: كالتثمين والتقييم وخفض القيمة
أما التثمين فيعني أن تسوّق وسائل الإعلام عددًا من المعايير؛ فارضة بهذا صورة نمطية للجمال في إطار سياسة تبضيع جسد المرأة وإضعاف الجزء الواعي فيها. هذه السياسة التسويقية تقيم الدليل على وجود سوق عالمية لمواد وأدوات التجميل، وهذه السوق تفترض إشراك عدد أكبر من الناس والشركات إنتاجًا وتداولاً أو استهلاكًا. وهي سوق تضخ فيها أموال طائلة، وتسوق فيها آلاف بضائع التجميل، وتتشابك في إطارها قطاعات مختلفة في إطار سوق عامة عالمية ذات نظام شديدة التعقيد.
والتقييم هو أن يحدد الفرد، خاصة الرجل، مدى ملاءمة الجسد الذي أمامه للصورة التي أوجدها النظام.
وخفض القيمة هو مصطلح اقتصادي مرتبط بالعرض والطلب؛ إذ إن وجود فرص عديدة لإقامة علاقات عابرة مع فتيات؛ يخفض قيمة الفتيات والعلاقات نفسها؛ ذلك أن النساء أنفسهن تسعين إلى الاقتراب من الصورة المروج لها.
تنزل إيفا اللوز ما حدث مذاك في أن المجتمعات الإنسانية شهدت ثورتين:
الأولى تتمثل في فردانية طرق العيش وتقديس علاقات الحب المتحررة، ومن جهة أخرى التبضيع الاقتصادي للعلاقات؛ أي تأثير المنوال الاقتصادي في السلوك الاجتماعي والعاطفي. وبلغ هذا المفعول ذروته في ظل المجتمعات النيوليبرالية.
هذه الظاهرة لا يمكن إلا أن تندرج في إطار إحراجات أو مفارقات التطور؛ إذ رغم المقاربة الحداثية في العلاقات العاطفية في المجتمعات المعاصرة، فإن الإحصائيات الأخيرة تؤكد فساحة هذه المقاربة؛ فالجانب العاطفي الخالي من العقلانية هو الذي يطغى لحظة اتخاذ قرار الارتباط أو الدخول في علاقة جديدة، ونتائج هذا المعطى تظهر على مستوى جمعي يلمس كل النسيج المجتمعي؛ فيصبح مبدأ الالتزام بشريك واحد أكثر صعوبة، وتنقص الثقة حتى مؤسسة الزواج نفسها، كل هذا مع ما تفرضه الحداثة من تناقضات على العلاقة الزوجية نفسها.
نستنتج إذن أن المؤسسات التي أوجدتها المجتمعات المعاصرة ( اجتماعية كالزواج المدني العصري أو تشريعية؛ كالقوانين المرتبطة بحضانة الأطفال) أوجدت نوعًا من التضارب لدى الإنسان المعاصر؛ حيث يطالب هذا الأخير بتحقيق التوازن بين فردانيته وعلاقته بالآخر، وهذا ما يدعوه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي روبير كاستل “تزايد الشك “
واقع العلاقات في المجتمعات العربية
إذا كانت المجتمعات الغربية تقر بوجود مشاكل تتعلق بالارتباط والعلاقات العاطفية؛ فكيف هو واقع المجتمعات العربية ؟ للإجابة على هذا السؤال ألن يكون من المنهجي والعلمي أن تحدد المجتمعات العربية موقعها من التطور؟
إن المجتمعات الغربية وحسب تصنيف من تصنيف ما بعد الحداثة، تعتبر نفسها في الموجة الثانية من الحداثة ( سبعينيات القرن 20، وشعارات المساواة، الحرية، والاستقلالية الفردية كإحياء لتبشيرية فلسفة الأنوار)، في حين تعجز المجتمعات العربية على التموقع. فهل تكون في فترة ما قبل الحداثة؟ أم تعيش محاولة فاشلة للالتحاق بركب التطور باعتبار أن رأس المال قد تركز وانتعش في بلدان الشمال؛ أي المجتمعات الغربية؟ الإجابة على هذه الإشكالية تستمد أهميتها من الدقة التي تضفيها إلى الدراسات التي تخص مشاكل وأمراض المجتمعات العربية، لكن من الممكن تحديد بعض خصائص أسباب فشل العلاقات في مجتمعات الجنوب؛ خاصة العربية منها. فإذا كان الإنسان الغربي يجد نفسه في تناقض ثنائي؛ فإن الإنسان العربي يجد نفسه إضافة إلى ذلك في حالة ارتباط مع قيم وعادات قديمة، هذه القيم تمثل خصوصية مجتمعات ممزقة بين المحافظتية وبين الانفتاح. هذا الجانب المحافظ يجعل المجتمعات العربية تعيش في حالة انفصام: علاقات خفية وعلاقات معلنة.
الأولى مردها عدم الاعتراف بالحميمية حاجة إنسانية، وثانيها هدفها إرضاء المجتمع والاستجابة إلى النمط التقليدي للارتباط. في هذه المجتمعات توجد خصوصية يمكن أن تكون أوضح مثال على الرجعية هو الإقرار الضمني بحق الرجل في إقامة أي نوع من العلاقات دون أن يكون محل مساءلة واتهام أو استنقاص من الشرف.
تقول إيفا اللوز : النسوية هي النضال الوحيد حيث تكون الضحية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالظالم والمعتدي