تقول ردينة عمّار (31 عام – سيدة من دمشق) خلال حديثها مع “مواطن“، حول هجرة زوجها إلى أوروبا وانقطاع التواصل بينهما، مبينةً أنّ زوجها بعد وصوله بأشهر إلى ألمانيا قد قطع التواصل معها بمحض إرادته رافضًا إتمام معاملة لم الشمل لها ولطفلهما منصور، الذي يعيش معها الآن وقد بلغ من العمر عشرة أعوام.
منصور الذي لا يتذكر شيئًا عن والده، يعيش في كنف أمه وأهلها، والتي استخدمت سبلًا قانونية متعددة حتى حصلت على حكم بتطليقها من زوجها الذي هجرها طواعيةً، وقرر بدء حياة جديدة ليس فيها ذكريات ماضٍ من بلد هجره تحت وطأة الخوف والعنف والدمار، كما توضح ردينة في حديثها لمواطن.
وتتابع: “كانت دمشق حين هاجر زوجي مشتعلةً عن بكرة أبيها، قذائف وقنص ورصاص وتفجيرات وسلاح وخطف وموت في كل مكان، وبالتأكيد دعمت زوجي ووقفت بجانبه ما استطعت؛ بدءً من تأمين الأموال وصولًا إلى كل استعدادات سفره، ومن كان يتوقع أن يسافر وينكرنا؟، وحتى اليوم لا أفهم ما حدث وما الذي دفعه ليفعل بي ذلك، تخلى عني! لكن ماذا عن طفله؟ والأسوأ أنّ صديقة مشتركة بيننا أخبرتني أنّه تزوج من سيدة هناك، وحصل على الجنسية الألمانية، أتدري؟ هذه نذالة وفقط”.
"فعلت كل شيء ليسافر"
“نهشتنا الكلاب بعد سفر زوجي إلى أوروبا؛ فلا هو يرسل الأموال لتعيننا على الحياة، ولا هو عاد يريدنا في حياته، لا أنا ولا أطفالنا الثلاثة”.
تُكمل رفيدة الحمود (34 عام – من دمشق) خلال حديثها مع مواطن: “تزوجنا عام 2007، بطريقة تقليدية عن طريق الأهل، زرع بداخلي أملًا كبيرًا حين وعدني أنّه ما أن يصل إلى هولندا سيرسل في طلبي وطلب أولادنا، وسنبدأ حياةً جديدة تنسينا مرارة ما ذقناه في بلدنا من خوف وموت وقلق، ولكنّه وصل وتركنا خلفه أكوامًا من اللحم التي لا معين لها سوى ربّ كريم”.
صنفت هجرة السوريين ما بين عام 2012 و2015 كواحدة من أكبر الهجرات في التاريخ الحديث
باعت رفيدة مصوغاتها الذهبية واستدانت من إخوتها لتؤمن لزوجها المبلغ المطلوب لسفره الذي سيجعله لاجئًا، ولكنّه سيسمح له بإجراء لم شمل لأسرته، وصل زوج رفيدة لهولندا لكنه لم يقدم طلبًا بلمّ الشمل، تاركًا لزوجته جرحًا مفتوحًا لم يندمل، ومرت الأيام طويلةً منذ سفره عام 2014.
تقول: “اضطررت أن أترك أولادي عند أهلي دائمًا، وأن أعمل في عملين خارج المنزل لأحصل على بعض المال الذي يعينني على تربيتهم، بعد أن باعنا زوجي المصون ونسي أنّ في رقبته عائلةً ذاقت من المهانة شتى ظروفها بعد رحيله الفج، وبعد إنكاره لنا، وبدئه حياة جديدة سعيدة دوننا، تاركًا العذاب لمن بقي”.
موجتا الهجرة
لم تقتصر هجرة السوريين على الفترة الممتدة ما بين عام 2012 و2015، علمًا أن دراسات متعددة صنفتها كواحدة من أكبر الهجرات في التاريخ الحديث، إلا أنّ عام 2022 حمل معه موجة هجرة جديدة لا تقل شدةً عن سابقتها، ولربما تكون أقسى في المنطق الإنساني.
فموجة الهجرة الأولى، جاءت نتيجة للخوف من الحرب المستعرة في عموم المدن والأرياف السورية حينها، إلا أنّ الموجة الثانية جاءت تحت وطأة الفقر والجوع والحاجة والعوز، وجلّ الأسباب التي بات السوريّ عبرها عاجزًا عن تأمين قوت يومه، مستجديًا العطف والمعونات.
وحين الحديث عن استجداء العطف؛ فذلك يبدو مفهومًا في ظل الكارثة الاقتصادية التي تعيشها سوريا العامين الأخيرين على وجه الخصوص، والتي لم تكن واضحة المعالم أو شديدة التأثير في سنوات الحرب الأولى، وبالتوازي فإنّ موجات الهجرة تلك كادت تفرغ البلاد من كفاءاتها الشبابية والإنتاجية والعلمية.
كارثة اقتصادية مع توجهات قانون قيصر الأمريكي الذي فرض حصارًا قاسيًا على البلاد، وألحق به مؤخرًا ما عرف بقانون الكابتاغون، والقانونان معًا أديا لإفراغ البلد من مواردها ومقوماتها، واستحالة استيرادها لنواقصها، ما جعل أزمات عدة تتفشى، على رأسها غياب المحروقات والقمح والكهرباء، وتلوث الماء وتضرر البنى التحتية، واستحالة إعادة الإعمار في المدى المنظور، فضلًا عن البطالة المتفشية والفقر الطاغي مؤسساتيًا ،والذي أفضى ليكون مرتب الموظف الحكومي شهريًا بأفضل أحواله يعادل 15 دولارًا أمريكيا.
سياسات حكومية مستفزة
ويبدو واضحًا في السياق جملة الإجراءات الحكومية التعسفية المتتالية التي كان لها الشأن الأوسع في تضييق الخناق على السوريين في الداخل، والتي أفضت بمجملها لتحول البلد إلى “طوابير” انتظار؛ طوابير في انتظار البنزين والمازوت والخبز والغذاء والمعونات، ورغم ذلك، -وباستثناء الخبز_ فإنّ جلّ الأساسيات تظل غائبة.
وكان من آخر تلك الإجراءات التعسفية في الأيام القليلة الماضية رفع تكلفة الاتصال الخلوي، وارتفاع الأسعار المهول في الأسواق للمواد الغذائية الأولية، التي يفترض أنّها تزرع في الداخل السوري، علاوةً على الزيادات المطردة في أسعار كل ما هو متوفر ولو بجزء منه، وتجدر الإشارة في السياق إلى فرض قانون ينصّ على صرف السوري الداخل إلى بلده من الحدود مبلغ مئة دولار أمريكي بقيمة العملة المحلية التي هي مسعرة وفق المركزي بأقل من تسعيرة السوق السوداء، ما لاقى استياء واسعًا لا زال مستمرًا، وكذلك قانون تقنين بيع الخبز ومنح أفراد الأسرة عدد ربطات لا تكفيهم بحسب دراسة أعدت مسبقًا لاستهلاكهم دون أن تراعي أبسط شروط الاحتياجات الغذائية.
إذا غاب الزوج أكثر من سنة جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي التفريق لتضررها من غيابه عنها، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه
المادة 109-القانون السوري Tweet
فضلًا عن انهيار العملة المحلية بشكل غير مسبوق تاريخيًا؛ فحتى اليوم انهارت قيمة العملة مقابل الدولار حوالي 150 ضعفًا، خلال عقد وبضع من عمر الحرب.
كل ذلك أدى لجعل الهجرة حلمًا لكل الشباب السوريين، وقلّما يمكن إيجاد شخص لا يسعى للهجرة بأي طريقة، حتى إنّ الأمم المتحدة أوضحت مرارًا أنّ أكثر من 90% من السوريين باتوا تحت خط الفقر، وهم بحاجة إعانات طارئة.
قانون الاحتمالات
سمية حلّوم شابة سورية أخرى لم يمض على زواجها سوى أربعة أشهر حين هاجر زوجها إلى النرويج: “كنا اتفقنا على موضوع الهجرة منذ كنا مخطوبين، وقد وصل زوجي إلى حيث هو مطلع العام الفائت، وكنا نتواصل بشكل طبيعي، ولكنه بعد ذلك بفترة أخبرني بضرورة انفصالنا بما أسماه شكلًا حضاريًا”، تقول سمية.
لا تتوانى سمية في إبداء استغرابها من الحالة كلّها؛ فهي على حد قولها قد تزوجت منه بعد قصة حب طويلة، وتضيف: “ربما يكون قد رأى شكلًا جديدًا للحياة، واكتشف أنّه لا يكن لي الحب، هناك ألف سبب وسبب لقراره، حين أفكر بمنطق الاحتمالات، كل ما يخطر على بالي من احتمالات لا يروي فضولي، ولا يرمم خذلاني ووجعي وكل تلك الليالي التي نمت فيها باكيةً”.
وتضيف في حديثها لمواطن أنّ أكثر ما واساها هو وقوف أهلها وأهل زوجها معها في محنتها، رغم ذلك عجز الجميع عن إجباره على العدول عن قراره غير المفهوم لهم ولي.
يرى ثابت جديد، الأكاديمي في علم النفس أن “تصرفات كتلك ترتبط بالتخلي، وهي تورث ضحاياها أثارًا نفسية عميقة، قد يصعب في بعض الأحيان علاجها، وفي أحيانٍ أخرى قد تتطلب علاجًا مكثفًا ومركزًا؛ فاستنادًا للحالة التي نتحدث عنها (الهجران من طرف واحد) وخصوصيته المرتبطة بالوعود الممنوحة للطرف الآخر بحياة سعيدة وهانئة وجميلة وغيره، كل ذلك يجعل الطرف الموعود يعيش حالةً واسعة الأبعاد من الخذلان والآلام النفسية”.
ويوضح خلال حديثه أنّ أولئك الأشخاص يصطلح تمامًا على تسميتهم بالضحايا الذين يدخلون في دوائر من القلق والخوف والكآبة والإنكار وفقدان الثقة بالآخرين، وبحسب تعبيره؛ فتلك أعراض خطيرة وتؤثر على شكل الحياة الخاصة والاجتماعية على حد سواء للمتضررين. ويضيف: “كثيرًا ما تصلنا حالات مشابهة وفي ظروف مختلفة، وهذا ما يجعل الإقبال على طلب أدوية الاكتئاب في سوريا متناميًا سنة تلو أخرى.
الوضعية القانونية
بحثت “مواطن” في القوانين السورية للوقوف على الحالات الشرعية الموجبة للطلاق، أو التفريق أو الفسخ، في حالات النسوة اللاتي وقع عليهنّ الهجر الزوجي. وخلص إلى جملة مواد تضمنها القانون رقم 4 لعام 2019، والذي نص على تعديل بعض مواد قانون الأحوال الشخصية السوري، وبينها المادة 109 – التي تقول: “إذا غاب الزوج أكثر من سنة جاز لزوجته أن تطلب إلى القاضي التفريق لتضررها من غيابه عنها، ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه”.
والمادة 110 – “يجوز للزوجة طلب التفريق إذا امتنع الزوج الحاضر عن الإنفاق على زوجته ولم يكن له مال ظاهر ولم يثبت عجزه عن النفقة”. وكذلك المادة 111، “للزوجة طلب التفريق إذا هجرها زوجها أو حلف على عدم مباشرتها مدة أربعة أشهر فأكثر”.
وكلّها مواد، يضاف إليها قوانين أخرى، واجتهادات قانونية تتيح للمرأة الحصول على حكم طلاقها إذا غاب زوجها لمدد زمنية موضحة، ويتم الطلاق حتى في حال لم يوافق هو ويجري المعاملة الرسمية لذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ لكل حال خصوصيتها الشرعية.
سندفع نحن النساء والأطفال ضريبة كبيرة، ضريبة فحولة زوج حين رأى التمدن رمى بنا خلف ظهره
المحامي رافد عمرو عن إحدى السيدات التي هجرها زوجها في إتمام معاملة الطلاق، وتحصل لها على الحكم، وفي معرض شرحه لـ “مواطن” يقول: “في موضوع التفريق لحجة الغياب أخذ المشرع السوري بالمذهبين المالكي والحنبلي، واستند إلى قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم الرئاسي 59 لعام 1953 ومنه المادة 109، ونلاحظ فيه أنّ الطلاق يمكن أن يقع في حال غياب الزوج عن زوجته لأكثر من سنة، أو الحكم بحبسه أكثر من ثلاث سنوات”.
ويضيف: “أو أن تتقدم الزوجة بدعواها بعد سنة من الغياب أو السجن، وترك المشرع فرصة لعودة الزوج خلال هذه السنة، أو أن تكون الغيبة بلا عذر مقبول يقبله القاضي، كحالة التهرب من إتمام التواصل والشروط الزوجية والنفقة، وما إلى ذلك كما في حالة موكلتي التي استندنا في إبرام حكم طلاقها على عدد من اجتهادات محكمة النقض”
أعباء مادية
في ظل كل تلك الحالات من الهجران تتكبد النسوة السوريات معاناة يصعب وصفها؛ فالمرأة التي كانت تستند على رَجُلها في إتمام مهامه المتعلقة بالنفقة الشرعية أو العرفية أو الأخلاقية تلاشت مع غيابه، ما دفع بكثيرات منهنّ لمحاولة إيجاد بدائل لم يكنَّ يومًا مضطراتٍ لفعلها، كالبحث عن عمل خارج المنزل لإعالة أنفسهن أولًا، وأطفالهن إن وجدوا ثانيًا، ولمداراة خذلانهن ثالثًا، وهي المبتلية بنظرة مجتمع قد لا يتفهم الأسباب التي أدت لما آلت إليه الأمور.
لم ترد إحدى السيدات التي الإفصاح عن اسمها؛ قالت لـ “مواطن” إنّ من حولها نظروا لها بريبة بعد تخلي زوجها عنها، وبأنّها باتت تشعر بنظراتهم حيالها وكأنّها المذنبة، أو كأنّ زوجها اكتشف بها عيبًا حال دون إكماله معه.
تقول: “الناس لها الظاهر، ما من شيء في الكون يبرر له التخلي عنا، نحن ضلع قاصر عقدنا آمال العالم على شركائنا، ولكنهم خذلونا، خذلونا وتركونا فريسة لمجتمع لا يرحم حين يتهامس، فلنقل أكثر، هل سيأتي نصيبي من جديد وأولادي الاثنين على حضني؟ ألن يسأل عابر الحلال القادم عن السبب؟ ألن يتوجس؟ سندفع نحن ضريبة كبيرة، ضريبة فحولة زوج حين رأى التمدن رمى بنا خلف ظهره متماشيًا مع الحضارة التي ما كان يحلم يومًا برؤيتها، وهذه حقيقة”.
وتتابع: “حزن أهلي للغاية كمدًا ولا يعرفون ماذا يفعلون، ولا كيف يساعدونني، ولربما شكوا لحظة أنّ الذنب ذنبي، ولكن في النهاية أنا ابنتهم، ابنتهم التي تعمل اليوم محاسبة في مطعم لتطعم صغارها الذين لا يرسل لهم والدهم ليرةً واحدة من كل تلك الأموال التي تمنحه إياها حكومة الغرب حيث هو يعاقر الحياة كيفما أراد”.