كانت الحروب والصراعات موضوعين متكررين على مدار التاريخ؛ فمن حروب الدول والحضارات القديمة، إلى الحرب البيلوبونيسية إلى الحربين العالميتين والصراعات الحديثة، شهدت البشرية فيها، ليس فقط الدمار المادي، ولكن أيضًا الصدمات النفسية العميقة التي أثرت على الجيل الذي شهد الحرب والأجيال اللاحقة؛ فذكريات الحروب لا تُمَحَى في الغالب، وتظل علامة في تاريخ الشعوب يستدعون بها الجانب القومي.
إن فهم الضرر النفسي الذي تخلفه الحرب يتطلب عدسة تاريخية، لأن نتائج الحرب التي تحملها الأفراد والمجتمعات، تمتد إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة، لتشمل حياة الإنسان في مختلف جوانبه النفسية والدينية، فضلاً عن بدهية التأثير السياسي؛ فقد شهد القرن العشرون وحده حربين عالميتين، أدتا إلى مقتل عشرات الملايين وإصابة أضعافهم، ونزوح أعداد لا حصر لها من الأفراد، ومجموعة لا حصر لها من مشاكل الصحة العقلية، ويزعم المؤرخون أن مثل هذه الصراعات لم تُغير المشهد الجيوسياسي فحسب؛ بل كان لها أيضًا تأثيرات عميقة على الهويات الثقافية والقيم المجتمعية، وهو ما سوف نناقشه في هذا المقال بشيء من التفصيل.
وغالبًا ما تتعلق الأمراض النفسية التي يحملها الجنود العائدون من الحرب إلى ديارهم بحالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب والقلق، والتي يمكن أن تؤثر على هياكل الأسرة، وبالتالي المجتمع الأوسع، وتأثير ذلك على الثقافة يكون كبيرًا؛ حيث لا ثقافة عميقة وتفكيرًا دقيقًا في ظل توتر واكتئاب وقلق، سوف ينعكس ذلك فورًا على الأقلام والعقول، ولا ينحصر ذلك على مجال الكتابة؛ بل يدخل في الفنون بمختلف أشكالها؛ فالفنون في ظل الحرب كالسينما والموسيقى والغناء والدراما والمسرح والرسم، تختلف بشكل كبير عن الفنون في وقت السلم؛ حيث نرى الفنون الواقعة تحت تأثير الحروب، تحاكي جوانب العنف الكامنة؛ مثل التعصب الديني والقومي، ويتفرغ الإعلام لحشد الجمهور عملاً بمبدأ “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
من منظور علم الاجتماع، تخلق الحروب هياكل اجتماعية يمكنها إدامة الضرر النفسي عبر الأجيال المتعاقبة؛ حيث يساهم فقدان أفراد الأسرة والنزوح والاضطرابات الاجتماعية في التحولات، في المعايير والقيم المجتمعية بأُثر الصدمة، مما يخلق بيئة تزدهر فيها الأمراض النفسية جراء الفقد والحرمان
إن تأثير ذلك على الأجيال ملحوظ؛ حيث لا يتوقف هذا التأثير على الفعل نفسه، ولكنه يتوسع ليشمل كل أنماط الحياة الاجتماعية تقريبًا، من الثقافة الشعبية والفنون والكتابة والتأليف؛ فالحروب تؤدي إلى كوارث إنسانية مثل القتل وتدمير الأرواح والممتلكات، ونزوح السكان وكثرة أعداد اللاجئين، وتؤدي إلى تفتت المجتمع وتقويض بنيته الاجتماعية، ونشر آفات متعددة مثل عدم احترام القانون، ويمكن أن يؤدي انهيار الهياكل الاجتماعية أثناء الصراعات إلى زيادة الأمراض النفسية كنتيجة طبيعية للشعور باليأس والحرمان، وهي ظواهر موثقة جيدًا في الدراسات، مثل تلك التي أجراها المؤرخ وعالم الاجتماع الأمريكي تشارلز تيلي (1929- 2008)، الذي استكشف التداعيات الاجتماعية للحرب في كتابه “الإكراه والرأسمالية والدول الأوروبية”.
فضلًا عن ذلك فإن الضغوط التي تفرضها إعادة بناء المجتمعات المتضررة من جراء الحرب قد تؤدي إلى نشوء نفسية جماعية تعمل على إدامة دورات العنف؛ فلا تنتهي الحرب بمجرد سكون الرصاص والمَدافع؛ بل يمكن استدعاؤها في أية لحظة، بمجرد إحياء مشاعرها وسياقاتها؛ فالصراعات لا تنتهي مثلما نظن؛ بل إن عواقبها تعيد تشكيل المعايير والتقاليد الاجتماعية والمبادئ الإنسانية، وتمتد العواقب إلى ما هو أبعد كثيرًا من أولئك المتورطين بشكل مباشر؛ فقد تصبح ثقافات بأكملها غارقة في عقلية “البقاء على قيد الحياة”؛ حيث ترث الأجيال القادمة الأعباء العاطفية والنفسية التي تحمّلها أسلافهم من فرط التقليد والتعاطف مع الآباء والأجداد.
التحليل النفسي للحروب
إن الآثار النفسية للحرب غالبًا ما تظهر من خلال التعبيرات الثقافية وردود الأفعال الفنية، والمثال على ذلك نشأة حركات فنية استجابة للحرب العالمية الأولى كوسيلة لمعالجة الصدمات والتغيير المجتمعي الكبير الذي حصل، ومن أمثال ذلك حركة دادا التي انطلقت في أوروبا للسخرية الفنية من المُحرضين على الحرب، وقد عززت هذه الحركة من الميول الشيوعية والاشتراكية ضد الرأسماليين؛ حيث حمّلت أوزار الحرب ونتائجها للبرجوازيين بصفتهم المحرضين الأساسيين على تلك المعارك الدموية غير المسبوقة في التاريخ البشري.
ومن منظور علم الاجتماع، تخلق الحروب هياكل اجتماعية يمكنها إدامة الضرر النفسي عبر الأجيال المتعاقبة؛ حيث يساهم فقدان أفراد الأسرة والنزوح والاضطرابات الاجتماعية في التحولات، في المعايير والقيم المجتمعية بأُثر الصدمة، مما يخلق بيئة تزدهر فيها الأمراض النفسية جراء الفقد والحرمان، وقد أكد على ذلك عالم النفس الأمريكي روبرت يركس (1876- 1956) في مؤلفاته بالاشتراك مع عالم النفس الأمريكي جون دودسون (1879- 1955)؛ حيث أكد في ما يسمى “قانون يركس – دودسون“، على العلاقة بين الرفاهية النفسية والاستقرار المجتمعي؛ في إشارة إلى أن المجتمع الممزق لا يمكن أن يعزز إلا حلقة من الصراع والضيق النفسي والتوترات والأمراض، مما ينعكس بشكل فوري على سلوكه؛ فيتحول المجتمع للفوضى والجهل وعدم احترام القانون.
ولا يمكن تفسير عدوانية الصهاينة الآن تجاه شعب فلسطين ومجازرهم في غزة، وقيامهم بعمل إبادة جماعية متعمدة، إلا كرد فعل طبيعي وغريزي على الخوف والقلق الناجم من ذكريات “المحرقة/ الهولوكوست”، وليس هذا مبررًا للمجازر، ولكن فهمًا لسياق عملها واقتناع الغالبية العظمى من الشعب الإسرائيلي بها، بدليل عدم وجود أي اعتراض شعبي واسع عليها، مثلما اعترض الأمريكيون مثلاً على حروب فيتنام والعراق والآن في غزة، وحصر مظاهراتهم فقط للإفراج عن الرهائن.
مواضيع ذات صلة
من هنا؛ فالتأثير النفسي للحرب عميق ومتعدد الأوجه؛ كونه لا يتوقف فقط على العامل النفسي السيكولوجي، ولكنه يتضمن أبعادًا أخرى أدبية وفنية وسلوكية وتربوية، تصبح وسيلة لتغير ثقافي كبير وهائل؛ فالتعرض للعنف والخسارة والصدمة ليس أمرًا هينًا؛ إنه يدفع الإنسان لتغيير ملحوظ في طريقة تفكيره، فضلاً عن العامل النفسي الذي يصيب كلتا الفئتين؛ المدنية والعسكرية؛ حيث يمكن أن تؤدي الحروب إلى حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق، وهي أمراض لا تقتصر على الفرد؛ بل إنها تنتشر عبر الأسر والمجتمعات بأكملها، وتعيد تشكيل الديناميكيات الاجتماعية والثقافة بشكل عام.
وبحسب منظمة الصحة العالمية؛ فإن ما يصل من 20 إلى 30% من المحاربين القدامى والمدنيين المعرضين للصراعات يصابون بالاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة، وهو رقم يؤكد الطبيعة الشاملة للضرر النفسي.
وتوضح مجموعة كبيرة من المؤلفات، بما في ذلك أعمال جوديث هيرمان في كتابها “الصدمة والتعافي”، كيف يمكن للصدمة أن تشوه التصورات والمعتقدات، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى ثقافة الخوف وعدم الثقة، وتضيف جوديس نصًا مهمًا للغاية لشرح ذلك في الكتاب؛ حيث تقول: “الأشخاص الذين نجوا من الفظائع يروون في كثير من الأحيان ما حصل معهم بطريقة مشحونة بالمشاعر، متناقضة ومجزأة، مما يقوض مصداقيتها ويخدم مصلحة المعتدي؛ فقط عندما يتم الإقرار بحصول الحدث الصادم يمكن للضحايا أن تبدأ بالشفاء النفسي، لكن في أحيان كثيرة جدًا لا يحصل ذلك، وقصة الحدث الصادم تظهر ليس عن طريق سرد الضحية اللفظي لما حصل؛ بل كعوارض نفسية مؤلمة يعاني منها”.
ومعنى ذلك أن تأثير المعتدي على الضحية أبعد من زمان ومكان المعركة، إنها عملية تمتد لما بعد إخماد الصراع، وفرص التعافي من هذا التأثير تكون ضئيلة عند إنكار الفظائع، لكنها تكون كبيرة وجيدة عند الاعتراف بها، لذلك وصل العالم إلى فكرة ضرورة الاعتراف بالجرائم كمقدمة لعلاج البشرية منها، وأن ذلك الاعتراف لا يعني بالضرورة العقاب؛ فقد يتقادم الزمن مثلما تقادم على مذابح الأرمن، ولكن الاعتراف بها يعني في مضمونه الاعتذار والعزم على عدم التكرار، مما يعطي للبشرية فرصة استشفاء نفسي منها؛ خصوصًا للشعب الأرمني الذي ما زالت ذكريات وصور تلك الإبادة الجماعية راسخة في أذهانهم.
إن تأثير الحرب على المجتمعات واضح تاريخيًا؛ فقد أدت عواقب الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية مثلاً إلى صدمة نفسية هائلة وعميقة الجذور في جميع أنحاء أوروبا، حتى إنها أدت لاختفاء قوى عظمى أوروبية، “كبريطانيا وفرنسا وتركيا والنمسا”، وانهيار إمبراطوريتهم بسرعة فائقة، ولولا الصدمة التي شعرت بها تلك الشعوب ما انهارت تلك الإمبراطوريات مجتمعة في لمحة من الزمن، حتى يمكن وصف شعوب هذه الدول “بالجيل الضائع”، الباحث عن ذاته من جديد، ويعني هذا المصطلح مجموعة من الناس الذين خاب أملهم بسبب أهوال الحرب، ويواجهون أزمات الهوية والتضيق الشامل، مثلما ظهرت حركات شعبية عقب الحرب العالمية الثانية أساسها الحرية؛ مثل حركة الهيبيز والإباحية وانتفاضة فرنسا 1968 وغيرها.
وقد افترض سيجموند فرويد أن المشاعر المكبوتة قد تتجلى في شكل عصاب، وهو نوع متطور من الخوف يدفع الإنسان للقتل أو الانتحار، وينطبق هذا الافتراض على الأفراد الذين عانوا من الحرب؛ سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين
وأدت الصراعات في الآونة الأخيرة؛ مثل حرب فيتنام وحروب الخليج والربيع العربي، إلى مناقشات مستمرة حول الصحة العقلية للمحاربين القدامى وإعادة دمجهم في المجتمع، وكثيرًا ما تعكس التمثيلات الثقافية لهذه الحروب -كما في الأفلام والأدب- الحقائق النفسية المعقدة التي يواجهها الأفراد، مما يوفر نظرة ثاقبة للصدمات الجماعية، وفي رأيي أنه لولا حرب العراق وإيران مثلاً، ما تولّد في العراق جيل عنيف، هو الذي أشرف على الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة منذ عام 2006، وما أعقبها من ظهور داعش في حروب ثورات الربيع العربي.
فالصدمة التي تلقاها الشعب العراقي في هذه الحرب تكاد تكون نادرة لم تحدث في تاريخه منذ قرون، وقد عانى هذا الشعب بعد الغزو الأمريكي له في عام 2003 من أمراض متعددة نفسية وعقلية؛ حيث تشير الأبحاث إلى زيادة مذهلة في اضطرابات ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق بين المحاربين القدامى والمدنيين على حد سواء، وتكشف الدراسات على موقع الحكومة الأمريكية المركزية أن حوالي 87٪ من الأطفال و60٪ من مقدمي الرعاية لهم أصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة، بينما الإيرانيون أقرب لطباع الحرب ونتائجها، لقرب زمان هذه الحرب في الثمانينيات مع حروب القاجاريين والصفويين؛ فضلاً عن صدمة الثورة الإيرانية نفسها عام 1979 التي سبقتها، ولحقها أحداث وصدمات أكثر حدة غيرت المجتمع الإيراني من الداخل بشكل كبير.
وقد افترض سيجموند فرويد أن المشاعر المكبوتة قد تتجلى في شكل عصاب، وهو نوع متطور من الخوف يدفع الإنسان للقتل أو الانتحار، وينطبق هذا الافتراض على الأفراد الذين عانوا من الحرب؛ سواء أكانوا مدنيين أو عسكريين؛ حيث يمكن أن تطفو الصدمة على السطح في شكل قلق لا يمكن السيطرة عليه؛ فقط بعودة الذكريات والتهيج العاطفي المرتبط بها من شدة الدمار والقتل والظلم، هنا يظهر مفهوم “الصدمة الجماعية” التي تقود المجتمعات إلى جرح نفسي مشترك وشعور بالغُبن ناحية فئة من الناس، أو دين أو شعب ما، تصبح فرصة استدعائه مستقبلاً لتكرار هذه المجازر والظلم ممكنة إذا توفر السياق اللازم.
ولا يتعلق ذلك بالثورة أو مقاومة الحرب؛ حيث تفترض بعض الأبحاث النفسية أن الإنسان الثائر لا يشعر بالاكتئاب والقلق نظرًا لارتفاع معدلات الطموح والأمل لديه، لكن هذا قد يحدث في زمن لاحق بالنسبة للثائر الذي يمتلك المناعة الكافية من الاكتئاب في ظل الثورة، لكنه فور فقدان تلك الحالة الثورية وتغير الأوضاع، قد يكتشف معاناته النفسية بظهور علاماتها السابق ذكرها، وأشهر تلك العلامات هي اضطراب ما بعد الصدمة، أو مرض “ثنائي القطبية” عند البعض ممن يرون بأن نتائج الحروب قد تصنع أمراضًا أكثر خطورة.
ويعطي هذا لنا لمحة أخرى عن الأضرار النفسية للحروب، وهي أن المظالم التي تنشأ في سياق ما بعد الصراع قد تؤدي إلى المزيد من الصراعات، مما يؤدي إلى حدوث دورة مستمرة من العنف والصدمات، تشكل مقدمة ونتيجة لا نهائية، أو ما يسميها البعض بدائرة الانتقام المغلقة، والنتيجة الاجتماعية المترتبة على ذلك هي إمكانية أن يصبح المجتمع “متجمدًا” في معاناته؛ حيث تؤدي القضايا المعقدة في الحروب إلى عقلية جماعية تشعر بالظلم والتسليم به فقط، أو بالأحرى يمكن وصف ذلك بالاستسلام الغريب للحرب ونتائجها، وعدم فعل أي شئ لتفادي كوارثها، وقد شهدت البشرية العديد من تلك المظاهر؛ مثل التي حدثت في غزوات التتار على الشرق الأوسط وأوروبا، أو الصليبيين في الشام ومصر، أو بالحروب العالمية مؤخرًا؛ حيث شهدنا استسلامًا غريبًا للحرب، وعدم فعل أي شيء لتجنبها أو لتفادي نتائجها الوخيمة.
آثار الصدمة على الثقافة
من الناحية التاريخية يمكن تتبع آثار الحروب على استقرار الدول وثقافة شعبها وشكلها النهائي، لكن وراء ذلك في الخلفية يوجد عامل نفسي؛ حيث إن تأثير الحرب على نفسية الفرد عميق للغاية، ويؤثر في قراراته وانفعالاته؛ مثل العنف والحزن والغضب وفقدان الأحباء، وتعطيل الحياة الطبيعية وغيرها من الخسائر؛ كل ذلك يسهم بشكل مباشر في تصرف متعمد أو لا إرادي في القرارات.
حيث يمكن فهم أسباب سقوط دولة الخلافة الراشدة مثلاً من هذا المُنطلق، كانت دولة مستقرة وتتبع سُبُلاً معروفة ومضمونة في الاختيار، لكن بعد تصارع الأشقاء على السلطة حدثت الصدمة، وما تبين من الصور الوردية عن الأخ والصديق أنه كان زائفًا، صنع معتقدات وردة فعل يعتريها القلق والحزن، ومن هنا يأتي الاكتئاب المصاحب للقرارات الانفعالية غير المدروسة، والتي تُتخذ غالبًا في أجواء متوترة، وبالمثل يمكن فهم أسباب سقوط الدولة السلجوقية؛ خصوصًا بعد سلطانها الثالث “ملك شاه“، وقد أفرد أحد الباحثين في عرض صراعات السلاجقة بعد “ملك شاه” بشكل مفصل؛ حيث تقلد أكثر من 16 سلطانًا سلجوقيًا الحكم في 100 عام كان ذلك كفيلاً بسقوط دولتهم.
إن الاعتراف بالمعاناة -سواء أكان الفردية أو الجماعية- هو شرط أساس وجوهري للعلاج؛ حيث يخلق ذلك مساحة للتعاطف والحوار الإنساني، ومن ثم يحدث التعافي
وقد التقط الشاعر الفلسطيني محمود درويش جوهر الخسارة والتشرد في شعره بشكل مفصل، مستعينًا بقصص الفلسطينيين في النضال والفقد، وما ذلك إلا عن تجربة ثقافية مشتركة تشكلت بفعل الحرب، وشعوره بالألم جراء ما يحدث، كذلك في الفنون البصرية كالرسم، تُظهِر الصور المروعة للحروب وعواقبها آثار الجرائم نفسيًا بشكل عميق، وتعكس لوحات فنانين مثل فرانسيسكو غويا وبابلو بيكاسو أهوال الصراع والاضطرابات النفسية التي تعيشها البشرية.
ونظرًا لوجود عدد كبير من الفنانين الذين عانوا من ويلات الحرب وشاركوا بشكل مباشر في القتال؛ إما كجنود أو فناني حرب يوثقون الحياة في الجبهة، أنتج العديد منهم أعمالًا بناءً على تجاربهم في المشاركة في القتال أو مشاهدته، مصورين الكثير من الاضطرابات والصدمات غير المسبوقة لهم، الناجمة عن الحرب، وقد أفردت الباحثة ريم خيري مقالاً بحثيًا مفصلاً لرؤية ذلك على صفحات مجلة الفنون والعلوم الإنسانية؛ حيث تعمل الثقافة كمرآة ووسيلة للتعبير عن الجروح النفسية التي خلفتها الصراعات، وكثيرًا ما تروي قصص الألم والقدرة على الصمود في مخيلات الفنانين، ويعكس ذلك كيف تتعامل المجتمعات مع تاريخها المؤلم بشجاعة، وكثيرًا ما تستعين هذه المجتمعات بالأدب والفن والرسم والموسيقى في تناول الحروب والصدمات؛ فتُحول المعاناة إلى سرد جماعي قادر على تيسير الشفاء أو المسارعة فيه.
أما من الناحية الثقافية؛ فتمتد آثار الحرب إلى ما هو أبعد من الضرر النفسي المباشر والاضطرابات العقلية؛ فهي تدعو إلى طرح أسئلة حول الأخلاق والقيم الإنسانية ومعنى الحياة بالكلية، وقد كتبت الفيلسوفة الألمانية حنا أرنت (1906- 1975) على نطاق واسع عن تفاهة الشر بوصفه عَرَضًا من أعراض القوة، مشيرة إلى أن الأفراد عامة يمكن أن يصبحوا مرتكبي فظائع تحت ستار الواجب أو الأيديولوجية؛ فقط إذا امتلكوا القوة لذلك، ويظهر هذا الأمر بوضوح في الفتن الطائفية والسياسية؛ حيث لا مقدار أو قيمة للروح الإنسانية؛ في مقابل صعود قوي وسريع لغرائز القتل والسرقة والانتقام، وهذا الاعتراف -برأيي- يطرح الشكوك حول أبطال التاريخ في الحروب، ويثير أسئلة جوهرية حول المسؤولية تجاه الذات والآخرين، مما يطرح علامات استفهام مشروعة حول أسماء الأبطال الذين سميناهم كذلك، والبحث الصادق في أفعالهم بالمقارنة الشجاعة مع قيم حقوق الإنسان.
فالحروب تنشأ غالبًا من الأيديولوجيات المتنافسة والأديان المتعارضة، ووجهات النظر العالمية لمجموعات ثقافية مختلفة، مثل الصدام بين الديمقراطية والاستبداد مثلاً، أو الرأسمالية والاشتراكية، أو بين السنة والشيعة، والإسلام واليهودية والمسيحية، أو الأصولية الدينية والعلمانية؛ حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تضخيم التوترات، وارتفاع غير طبيعي في مشاعر الخوف والقلق، مما يبرر للجرائم وقتها نزولاً لحقيقة علمية تاريخية تقول إن الإنسان يصبح عنيفًا عدوانيًا عندما يخاف أو يشعر بالتهديد؛ فالكراهية نتيجة طبيعية للخوف بالأساس، وهي التي تؤدي لإشعال الحروب، مما يترك علامات لا تمحى من عقول المتضررين.
يقول جودت سعيد في كتابه “مذهب ابن آدم الأول”: “إن الحروب والنزاعات التي تؤدي إلى أن يذوق الناس الآلام والعذابات ليست ضربة لازبة، وإنما منشؤها الجهل والقذارة الفكرية، إنه لجدير بالتأمل من أصحاب الفكر ومن كانت له أذنان للسمع فليسمع، وأريد أن أعقد مقارنة بسيطة بين مشكلات الجسد ومشكلات الفكر والسلوك؛ فإن الوضع الجسدي كما يمكن أن يراقب بإجراءات مختلفة كي يبقى في وضع صحي سليمًا معافىً ، كذلك الوضع الثقافي ونظام الأفكار، يمكن أن يُراقب بمختلف الإجراءات، كي تبقى في وضع سليم معافى، كما يمكن أن يترك لشأنه دون مراقبة؛ فيحدث للثقافة التي هي نظام الأفكار والتصورات الذهنية، خلل يعرضها للأمراض، ويعرض المجتمع إلى أن ينقلب على عقبيه مكبًّا على وجهه”، (صـ 34).
ويشير جودت هنا -وهو من المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي- إلى خطورة الحرب على الأفكار، وأن الثقافة لا تحدث في وضع يكون فيه الجسد مريضًا ومتوترًا في الحروب؛ بل يجب أن يكون الجسد معافى وهادئًا لكي يفكر بشكل سليم.
متطلبات وعوامل الشفاء
برغم أن جروح الصراع قد تكون عميقة؛ إلا أن الأمل ما زال قائمًا في الشفاء والتعافي، ومن الممكن أن تُيسّر التدخلات السياسية والدينية والنفسية، والدعم المجتمعي وحريات التعبير في عمليات التعافي السريعة أو البطيئة، ومن الممكن أن تساهم المشاركة في الحوارات حول الصدمات في وصفها أولاً، وعلاجها؛ سواء أكان بعرض القصص الحقيقية للحروب بعيدًا عن ميديا الإعلام وأصحاب المصالح، أو بنقد جذور الصراع وكشف المحرضين والممولين، ومن ثم تعزيز التفاهم الثقافي في تعزيز القدرة على الصمود ضد نتائج هذه الحروب، وفهمها لإبطال حججها ودعاياتها في المستقبل.
إن الاعتراف بالمعاناة -سواء أكان الفردية أو الجماعية- هو شرط أساس وجوهري للعلاج؛ حيث يخلق ذلك مساحة للتعاطف والحوار الإنساني، ومن ثم يحدث التعافي، ويمكن أن يحدث العلاج من خلال المبادرات المجتمعية وأنظمة دعم الصحة العقلية، التي تعطي الأولوية لفهم العبء النفسي للصراع والتركيز على ذلك في وسائل التعليم والإعلام المختلفة؛ سواء أكان في المدارس أو المعابد أو الصحف والقنوات والسوشيال ميديا، مما يعني أن جزءًا أساسيًا من عوامل الشفاء الضرورية يكمن في تربية الشعب على كراهية الحروب، ويتبع ذلك ضرورة مكافحة الكراهية في نُظُم التعليم، وما يتعلق بذلك من نشر ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان وتقديم الرعاية للكائنات دون شروط، وتعزيز قيم الحق والخير والجمال دون تمييز.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
Thank you for the auspicious writeup It in fact was a amusement account it Look advanced to far added agreeable from you However how can we communicate
Your blog is a testament to your dedication to your craft. Your commitment to excellence is evident in every aspect of your writing. Thank you for being such a positive influence in the online community.
الاثار الاجتماعية للحروب لا تقل شأنا عن الاثار النفسية.
التحولات الاجتماعية التي عاشتها الشعوب الاوروبية بعد الحربين العالميتين الاولى والثانية؛ أنتجت مجتمعا اوروبيا مختلفا عما كان قبل الحرب، حيث ساهمت الحرب في قتل ملايين البشر أغلبهم من الشباب، وهذه هي طبيعة الحرب، النتيجة أن فقدت الاسر اربابها وامهاتها، ونشأت أجيال بأعداد كبيرة في معسكرات أيواء خارج عن مؤسسات التنشئة الأسرية.
هذه الاجيال تربت على نشأة مراكز الايواء، مفتقدة التربية الاسرية التي تهتم في المقام الاول بدور التطبيع الاجتماعي لافرادها، لذلك نشأت هذه الاجيال خارج عملية التطبيع الاجتماعي، مما أنتج جيل واسع بدون قيم اجتماعية لا تراعي المحظورات الاجتماعية المتعارف عليها.
لذلك اجيال الشعوب الاوربية بعد الحرب نشأت بدون قيم اجتماعية ولا قيود على الحياة العامة وبدون حدود للاخلاقيات العامة، حرية فردية متحررة من الضوابط الاجتماعية.
لذلك تشوهت المجتمعات الاوربية من ناحية القيم الاسرية والاجتماعية، بشكل مختلف عن بقية الشعوب الاخرى.
Its like you read my mind You appear to know so much about this like you wrote the book in it or something I think that you can do with a few pics to drive the message home a little bit but other than that this is fantastic blog A great read Ill certainly be back
Somebody essentially help to make significantly articles Id state This is the first time I frequented your web page and up to now I surprised with the research you made to make this actual post incredible Fantastic job
Normally I do not read article on blogs however I would like to say that this writeup very forced me to try and do so Your writing style has been amazed me Thanks quite great post
you are in reality a just right webmaster The site loading velocity is incredible It seems that you are doing any unique trick In addition The contents are masterwork you have performed a wonderful task on this topic
I just wanted to express my gratitude for the valuable insights you provide through your blog. Your expertise shines through in every word, and I’m grateful for the opportunity to learn from you.
I wanted to take a moment to commend you on the outstanding quality of your blog. Your dedication to excellence is evident in every aspect of your writing. Truly impressive!
Techarp Pretty! This has been a really wonderful post. Many thanks for providing these details.
Usually I do not read article on blogs however I would like to say that this writeup very compelled me to take a look at and do it Your writing style has been amazed me Thank you very nice article
My brother suggested I might like this blog He was totally right This post actually made my day You can not imagine simply how much time I had spent for this info Thanks
I loved as much as youll receive carried out right here The sketch is attractive your authored material stylish nonetheless you command get bought an nervousness over that you wish be delivering the following unwell unquestionably come more formerly again as exactly the same nearly a lot often inside case you shield this hike
Hello Neat post Theres an issue together with your site in internet explorer would check this IE still is the marketplace chief and a large element of other folks will leave out your magnificent writing due to this problem
Tech to Force I do not even understand how I ended up here, but I assumed this publish used to be great
Hey there You have done a fantastic job I will certainly digg it and personally recommend to my friends Im confident theyll be benefited from this site
My brother recommended I might like this web site He was totally right This post actually made my day You cannt imagine just how much time I had spent for this information Thanks
Wow superb blog layout How long have you been blogging for you make blogging look easy The overall look of your site is magnificent as well as the content
Fantastic site A lot of helpful info here Im sending it to some buddies ans additionally sharing in delicious And naturally thanks on your sweat
Hello Neat post Theres an issue together with your site in internet explorer would check this IE still is the marketplace chief and a large element of other folks will leave out your magnificent writing due to this problem
Hello my loved one I want to say that this post is amazing great written and include almost all significant infos I would like to look extra posts like this
Usually I do not read article on blogs however I would like to say that this writeup very compelled me to take a look at and do so Your writing taste has been amazed me Thanks quite nice post
Hi i think that i saw you visited my web site thus i came to Return the favore Im attempting to find things to enhance my siteI suppose its ok to use a few of your ideas
Its like you read my mind You appear to know so much about this like you wrote the book in it or something I think that you can do with a few pics to drive the message home a little bit but other than that this is fantastic blog A great read Ill certainly be back
I am not sure where youre getting your info but good topic I needs to spend some time learning much more or understanding more Thanks for magnificent info I was looking for this information for my mission
I was recommended this website by my cousin I am not sure whether this post is written by him as nobody else know such detailed about my difficulty You are wonderful Thanks
Thank you for the good writeup It in fact was a amusement account it Look advanced to far added agreeable from you However how could we communicate