أيامٌ ملتهبة تعيشها سوريا على وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان، الدولة شرق المتوسطية حاضرةٌ بفعالية عالية على مسرح الأحداث، وعلى خلاف دورها التاريخي كمؤثر ومتأثر، اكتفت هذه المرّة بأن تكون متأثرةً في مهرجان حمم القصف التي تطال المواقع العسكرية في مدنها والأرياف. آخرها كان استهداف إسرائيل لمواقع تجميع أو تصنيع صواريخ يشتبه أنّها لحزب الله في جنوب حمص وشرق حماه، ليل السادس من تشرين الأول الجاري، ليلةٌ من ليالٍ كثيرةٍ لن ينساها سكان المدينة، لشدّة الانفجارات التي استمرت زهاء ساعةٍ ونصف، ليلةٌ يبدو أنّها لن تكون الأخيرة في سياق التوتر الإقليمي المتفجر.
إلى ما بعد حماس
وفي ذاك السياق الذي تنتظر فيه إيران ردًا عسكريًا إسرائيليًا، دارت حوله مئات التحليلات والتسريبات حول ماذا سيشمل وماذا ستكون فعاليته، مرورًا بالتوجس الرسمي السوري من وضع حزب الله الميداني والتنظيمي والسياسي على الأرض في لبنان، مع فقدان الاتصال بالمرشح لخلافة نصر الله، هاشم صفي الدين الذي تأكد خبر اغتياله يوم أمس
في أتون كل تلك التطورات المتسارعة لحظيًا ونأي سوريا الرسمي، وعلى صعيد دعم طوفان الأقصى بشكل مباشر والمنطلق من حيثيات ماضوية، تتعلق بالتواجه العسكري بين القوات النظامية السورية، وقوات تابعة لحماس في أكثر من موقعةٍ خلال الحرب السورية، أشدّها كان في مخيم اليرموك في دمشق.
تلك المواجهات هي التي دفعت الأسد للحديث علانيةً عن “حماس” في لقاء مع قناة سكاي نيوز، أواسط شهر آب/أغسطس 2023 وقبل اندلاع المعارك في غزة بأقل من شهرين، واصفًا الحركة بالمزيج ما بين الغدر والخيانة، وتلك كانت بوابة العبور نحو المضي إلى ما بعد حماس، والابتعاد عنها في الشكل والمضمون، مقابل التمسك ببقية الحلفاء من روسيا إلى إيران، مرورًا بالحشد الشعبي في العراق وصولًا إلى الحوثيين في اليمن.
شائعات بالجملة
كانت كل التحليلات السياسية حتى أواسط أيلول/ سبتمبر الماضي ممكنةً ومتوقعة ومفتوحةً على مصراعيها حتى تفجير أجهزة “بيجر” في لبنان، وإصابة ومقتل 3000 من مُنَظّمي ومناصري حزب الله، ليكتمل عقد تشابك الموقف في اغتيال الزعيم التاريخي لحزب الله حسن نصر الله، وهو مما لا شك فيه كان وسيكون نقطة التحول في كلّ ما سيشهده الإقليم، من تبدلٍ في عناوين ميدانية وسياسية واقتصادية.
بُعيد اغتيال نصر الله سرت شائعات بتوجيه النظام السوري لفرض حواجز أمنية مؤقتة، مهمتها إزالة صور الأمين العام عن السيارات، وانتشرت تلك الأخبار بوفرة وكثافة، تحققت “مواطن” من الأمر بالمشاهدة المباشرة، وبسؤال أشخاص يضعون صوره، نفى الجميع أن يكونوا قد تعرضوا لمضايقات في هذا الشأن.
المفارقة؛ أنّ ما جرى هو العكس تمامًا، إذ تحركت مبادرات شعبية ورسمية تكتسب الطابع السلطوي لتوزيع صور نصر الله وأعلام حزب الله، وصولًا إلى تعليق صورٍ ضخمةٍ في الأماكن المخصصة للإعلان الطرقي، وهو ما رصده “مواطن” بعدسته في أكثر من مكان.
مواقف متباينة: فرح ومأتم
من الواضح أنّ مواقف السوريين تباينت بصورة هائلة إزاء قضية اغتيال الزعيم اللبناني، وكان من الطبيعي والمتوقع أن يوزع أهالي إدلب شمال غرب سوريا وساكنوها الحلويات، وتعمّ الأفراح مدينتهم التي باتت سوريا الصغرى -كما يصفونها- وفيها ما فيها من مهجرين فرحين بمقتل من كان سببًا في تهجيرهم وقتل عوائلهم وتسوية منازلهم مع الأرض على ما يقولون، ولهذا الشأن من هو مطلع أكثر في تلك المناطق.
أما على صعيد مدن الداخل السوري، والتي يسيطر عليها النظام السوري فكان من السهل ملاحظة حالة تحاكي مأتمًا شعبيًا مكتمل الأوصاف، وبرزت حمص هنا على وجه الخصوص لأسباب متعددة، ذاك المأتم اخترقه بين الحين والآخر أفراحٌ غير معلنة من سكان نجوا من الحرب وظلوا في المدينة، هؤلاء بحسب تأكيدات لـ “مواطن”، تبادلوا التهنئة عبر الرسائل النصية والمكالمات وتقديم الحلويات عند الزيارات التي كانت تهدف للمباركة، وكان من الصعب، والمستحيل، إظهار حالة الفرح تلك.
لا أحد يجرؤ على الكلام: في النفوس ما فيها
فراس زينو، شابٌ من حمص ويقيم في دبي منذ أكثر من 10 سنوات، كان واحدًا ممن أكدوا المعلومة لـ “مواطن”، ورغم محاولاته تأمين ربط وتواصل مع بعض الأهالي أولئك، لكنّ تلك المحاولات لم تنجح؛ فالسوريُّ يخشى الحديث للإعلام عن ارتفاع الأسعار، كيف سيتحدث وهو في الداخل عن فرحه في قضيةٍ ستجرّه نحو تهمٍ تتعلق بالإرهاب والتخابر وتخفيه تحت ركام مدينته.
يقول فراس: “أنا أساسًا من حيّ الخالدية الحمصي، هُجرت من هناك إلى لبنان أولًا ثم دبي، بحكم تواصلي مع أصدقائي وجيراني علمت كم هم سعداء، الأمر ليس موقفًا سياسيًا، سأقول لك ما قاله لي أحدهم: “فقط سر بحمص وانظر كيف أنّ أكثر من نصفها مدمر، وكيف هدموا المدينة فوقنا لتعرف سبب فرحنا”، وينطلق الجميع من ذات الفكرة، علمًا أنّ موقفهم مخفف جدًا عن أهلنا في إدلب، فمن تمكّن من البقاء في حمص هم الأقل ضررًا وخسارةً”.
خيانة لـ "دم الشهيد"
وبالعودة إلى المأتم الجماعي؛ فإنّه كان طبيعيًا لشريحة ضخمة تسكن المدينة، وقد تعاملت مع الحزب مباشرةً، وتنظر إليه على أنّه كان خير عون ورفيق في انتصارهم وبقائهم، وإن كانت تتفاوت شدّة مواقف التأييد والحزن نفسه بين حيٍّ وآخر؛ بل وبين شخصٍ وآخر من الفئة المؤيدة، إلا أن أهل حي “العباسية” كان لهم موقف متقدم.
حيُّ “العباسية” هو حيٌّ تقطنه أغلبية شيعية، يقع شرق المدينة على بعد نحو كيلو مترين من مركزها، وكان أكثر الأحياء تماسًا مع الحزب خلال الحرب في حمص، لكنّ الحيّ اتخذ شكلًا إجراميًا مع الوقت، وإن كان لا يمكن تعميمه، وتقتضي الأمانة القول بأنّ الحزب (حزب الله) في مرحلةٍ ما رفع الغطاء عنه، وطالب السلطات بمداهمته وإلقاء القبض على مئات المطلوبين داخله.
بعيد اغتيال نصر الله تحرك المئات من أهالي حيّ العباسية بسياراتهم ودراجاتهم النارية، رافعين أعلام حزب الله باتجاه الأحياء التي تمثل العمق الإسلامي الآخر والآمن في المدينة، أو ما يعرف بالأحياء الراقية، الحمرا والغوطة والسوق المركزي وغيرها، اعتدى هؤلاء ولو بشكلٍ محدود على سيارات عابرة كانت تشغّل الموسيقى، وهو ما اعتبروه إهانة، أفضت إلى تكسير بعض تلك السيارات.
وكذلك اعتبر هؤلاء “الثائرون” أنّ افتتاح المحال في تلك الأحياء هو “شماتةٌ” وخيانة لـ “دم الشهيد”. يروي أحد أصحاب تلك المحال أنّ مشاهدتهم لمنظر القادمين دفعهم للإغلاق على الفور، وبعضهم أغلق محلّه وهو بداخله، ومن لم يغلق طلب منه رافعوا الأعلام الإغلاق وإعلان الحداد فورًا، وبالطبع استجاب الجميع فلم تتطور الأمور لمواجهات، وهذا أفضل ما في سوء هذا الأمر. ولحسن الحظ أنّ هذا المشهد غير المسبوق في تاريخ حمص ولا حتى خلال حربها لم يدم أكثر من يومٍ واحد.
مملكة "العباسية"
هناك مثلٌ شعبي يقول: “يريد أن يصبح ملكيًّا أكثر من الملك”، وهذا بالضبط ما ينطبق على أمر حي العبّاسية، الحيّ الكبير والواقع قرابة وسط المدينة، دفع حزب الله مكرهًا للتخلي عنه ونبذه ورفض التعامل معه، وتخوين سكانه وعدم منحهم الأمان أو الأسرار العسكرية في مراحل لاحقةٍ من الحرب.
يمكن فهم ذلك من أنّ أهالي العباسية أصبحوا حزبيين أكثر من حزب الله نفسه، مغالين ومتطرفين ومتشددين لدواعٍ تتعلق بالتشبيح واستخدام اسم وسطوة الحزب لا عن قناعةٍ وإيمانٍ ومذهبية، ويدلل على ذلك أنّهم أكثر رواد ملاهي السهر سيئة الصيت في المدينة.
وكذلك صار الحيّ مرتعًا للمجرمين والفارين والقتلة، وتخطوا ذلك بأن صاروا يشنون هجماتٍ منظمة على حواجز الجيش النظامي بسبب ودونما سبب، وكذلك على حواجز الأمن، وصار حيّهم سوقًا سوداء للذخيرة والسلاح ومختلف أنواع الممنوعات.
قبل سنوات، لم يكن الحديث عن الكابتاغون ظاهرًا جدًا، ولم تكن هناك عقوبات مفروضة على سوريا الرسمية بسببه، ولكن في حيّ العباسية كان وما زال هناك عشرات “مكابس” صناعة الحب، وهي بطبيعة الحال لا تنتج كميات للتصدير أو لإدانة سوريا وإحراجها دوليًا، ولكنّها كافية لاجتياح المدينة، وكذلك وفي ذلك الحي يمكن تصريف الدولار علانيةً، وشراء الأجهزة الخلوية غير المجمركة والممنوعة قانونًا.
هناك جملة أسباب تمنع اقتحام الجيش النظامي لحي العباسية، أولها البعد الطائفي المرتبط بمهاجمة أقلية، والثاني هو توقع عدد القتلى من المهاجمين والمدافعين والذي سيكون كمجزرة، واقتحام كهذا سيلفت أنظار العالم نحو ما يحصل وتكال جرائم جديدة للجيش
على الدوام، يسمع أبناء المدينة عن قصص قتل واختطاف وإطلاق نارٍ وتعديات داخل الحي، وربما أشهرها في الآونة الأخيرة كانت من نصيب ضابط في الجيش النظامي، دخل الحيّ ليشتري جهازًا خلويًا؛ فاعترضته عصابة مسلحة لتأخذ أمواله، فقام بتفجيرهم وتفجير نفسه بقنبلة كانت بحوزته، قضى هو وحده، وأصيب واحدٌ من العصابة، والبقية نجوا، وفي الحيّ مشفى ميداني بطبيعة الحال.
أما السؤال الذي يستوجب الإجابة عنه، والذي يسأله أبناء المدينة، هو لماذا لا يقتحم الجيش النظامي والقوى الأمنية الحي لدرء مخاطره عن جواره؟ وجواره هي الأحياء الأشدّ تأييدًا للسلطة، والتي تتعرض بدورها لهجمات مسلحة من عصابات هذا الحي بهدف السرقة أو “البلطجة”، أو كنوع من “التشبيح” أو إثر خلافات شخصية.
هذا السؤال يجيب عنه ضابط متقاعد من مدينة حمص، شارك خلال معارك السنوات الأولى فيها، مفضلًا عدم الكشف عن اسمه، يقول: “هناك جملة أسباب تمنع اقتحام الحي، أولها البعد الطائفي المرتبط بمهاجمة أقلية، والثاني هو توقع عدد القتلى من المهاجمين والمدافعين والذي سيكون كمجزرة، ذلك عدا أنّ المواجهة هنا لن تكون مع أناس عزل؛ بل مسلحين بشكل جيّد وبين عوائلهم، واقتحام كهذا سيلفت أنظار العالم نحو ما يحصل وتكال جرائم جديدة للجيش”.
ويضيف لـ”مواطن”: “رغم أنّ الحزب تبرأ من ممارساتهم، لكنّهم في النهاية يشاطرونه الهوية الدينية؛ فربما قد يضغط باتجاه وقف الاقتحام، وهنا نتحدث عن حي كبير جدًا، بتعداد سكان كبير، كما أنّ الأمر سيؤثر في الضباط النظاميين المنتمين للحي على الجبهات، ويُخشى في ذات الوقت من تحرك القرى المترابطة فكريًا مع الحي على مدخل حمص الشمالي الغربي، وقطع أوتوستراد دمشق – طرطوس الدولي”.
يعتقد الضابط المتقاعد أنّ الحل الأمثل هو السياسة الجارية حاليًا؛ فهؤلاء الأشخاص لا يمكن أن يظلوا مختبئين داخل حيّهم إلى الأبد، وبالتالي يتم إلقاء القبض عليهم تباعًا بما أنّ أسماءهم معممة لدى جميع الجهات المختصة. ويصرّ الضابط على التنويه، وهو ما سمعته “مواطن” أيضًا من بعض سكان الأحياء المجاورة، بأنّه لا يمكن تعميم الإجرام على كامل الحي؛ بل إنّ مئات المطلوبين هم من اختطفوه وجعلوا سمعته هكذا.
ديموغرافيا الحرب
بالحديث عمّا آلت إليه الأمور في حمص على الصعيد السكاني بفعل الحرب، وما أفرزته من تبدلٍ ديموغرافي رهيب؛ فإنّه ما من جهةٍ موثوقةٍ تقدم إحصائيات دقيقة في هذا الشأن، خصوصًا قبل الحرب، ولكن من المعلوم على الأقل أنّ تعداد السكان كاد يناهز مليوني نسمة عام 2010، أما اليوم فهم بحدود مليون وبضع مئات.
كان سكان المدينة من الأغلبية المسلمة المنحدرة من الطائفة السنيّة وفق ما هو معروف، ويشكلون ما ترقى نسبته إلى 50٪، أي نصف عدد السكان تمامًا، فيما يشكل اجتماع بقية الأقليات المسلمة من العلويين مع الشيعة والإسماعيلية إلى جانب المسيحيين والمراشدة، النصف الآخر من وجه حمص، وهذه النسب تشمل المدينة لا ريفها.
أما اليوم وبعد الحرب؛ فربما بات الإحصاء أسهل، وتندرج سهولته ضمن إمكانية الاستنتاج والمشاهدة، والاطلاع على سجلات المخاتير والاحوال المدنية في وزارة الداخلية ومكاتب التنظيم الأمنية؛ خاصةً مع دمار أكثر من نصف المدينة، وهي أحياء كانت تقطنها تلك الأكثرية، كالخالدية والقرابيص والقصور وجورة الشياح والورشة والصفصافة والنازحين وعشيرة وجب الجندلي وغيرها.
فيما احتفظ “السنّة” ببقائهم التاريخي في أحياء الحمرا والغوطة والملعب وطريق طرابلس والإنشاءات وكرم الشامي وأحياء قليلة أخرى، وهي أحياء لم تشهد مواجهات عسكرية.
حتى باتت نسبتهم اليوم تعادل ما بين 20 إلى 30٪ من سكان المدينة، فيما احتفظت الأقليات الأخرى بتجمعها لتشكل الـ 70٪ الباقية، وتصبح مجتمعةً، هي الأكثرية لأول مرّة في التاريخ الحديث، ويستثنى من ذلك المسيحيون الذين هاجر معظمهم، مع ملاحظة وجود أكثر من 100 ألف قتيل قضى في الحرب في حمص، وعشرات آلاف آخرين اختطفوا وما زال حتى اليوم مصيرهم مجهولًا.
تصالحٌ على الرماد
بمعزلٍ عن الحرب المشتعلة في الإقليم، وبالعودة إلى الوراء قليلًا، شهرٌ واحدٌ يكفي، يمكن التوقف هناك للحديث عن شيء يشبه المعجزة التي حصلت في حمص؛ فبين تسويتي حمص القديمة 2014 والتي أفضت لخروج مقاتلي الجيش الحر وجبهة النصرة من المدينة القديمة نحو الريف الشمالي فإدلب، وتسوية حي الوعر 2018 وخروج المقاتلين بذات الطريقة، بين التسويتين وبعدهما بدت أطياف حمص متصالحةً لتوها، وكأنّ شيئًا لم يمرّ على المدينة، وكأن آلاف الأرواح لم تزهق.
يمكن سوق مبررات كثيرة لذلك، أهمها الواقع الاقتصادي الطاحن، والذي دفع الناس لتحتمي ببعضها بغية استحصال فرصة عمل، وكذلك التعب المرير من سنوات طويلة، ما عرفت فيها المدينة أن تنام ليلةً دون أن تصحو على مجزرة.
لتذهب السياسة والصراع إلى الجحيم، عشنا عمرًا معًا، والآن نحن كذلك، لا يجب أن يحصل شيءٌ ويسمح لنا بالاقتتال من جديد، إن كان هناك أناس من أيّ طرف ما زالت تريد أن تقاتل فهي حرّة، وربما ما زالت تملك الطاقة والغضب لذلك، أما نحن في حمص فقد نلنا نصيبنا مبكّرًا، وصرنا لا نقول إلّا: الله يفرّج
من كان يصدق أنّ حي بابا عمرو، عاصمة الثورة سيكون أولاده لاحقًا جسرًا للعبور في المدينة والتصالح وتبادل المهن والأعمال مع أطيافٍ أخرى في أشدّ الأحياء عداءً وتمترسًا معاديًا خلال الحرب، والأمر بصورته ذاتها ينطبق على حي الزهراء، أوسع قاعدة شعبية للحكومة في المدينة. وتاليًا، على كلّ أحياء المدينة.
لا أحد يطلق النار الآن
يسهل الآن رؤية المدينة منفتحة على بعضها دون حواجز أو مشاكل، الجميع يتبادل الأعمال من كل الطوائف، لا أحد يطلق النار على أحد الآن، ولا أحد يخرج ويخشى أن يعود.
أبو خالد سليمان المنحدر من حي جورة العرائس التابع لبابا عمرو، يعمل الآن مساعد شيف في مطعم للوجبات الجاهزة في حي النزهة، وهو الذي لم يتخيل لحظةً أنّه سيدخل هذا الحي، في حديثه لـ “مواطن” يقول: “بدنا نعيش، سئمنا قتلًا وموتًا وفتكًا ببعضنا”.
ويضيف: “هل أغلق بابا عمرو وحدي وأصنع ثورة، لا أحد يريد القتال بعد الآن، أقول في حمص على الأقل، الناس تعبت، والدماء التي سالت غالية، لكن لا يمكنك أن تعيش وحيدًا، أنا أعمل هنا منذ سنوات، لم يعيرني أحدٌ طائفيًا أو مناطقيًا، لا؛ بل كثير من الزبائن تقول نريد طعامًا من يد أبي خالد”.
الأمر ذاته ينطبق على ميمون عبّاس الذي ينحدر من حي الزهراء ويعمل في ورشة ألمنيوم في سوق المدينة، يخبر “مواطن” أيضًا أنّه ما توقع يومًا أن يتمكن من العمل من جديد في مهنته ومع أصحابها الأصليين في هذا المكان.
يشرح ميمون أنّه خلال سني عمله الثلاثة، لم يتعرض لأيّ مضايقة سياسية أو مذهبية، ويروي أنّه في إحدى المرّات كان يقوم بعمليات إصلاح لمنزل في حي الحمراء؛ فسأله صاحب الحي من أين أنت؟ وأجابه، ليقول له صاحب المنزل: “افتقدنا بعضنا في هذه الحرب، منذ البدء كان يجب ألّا نقتتل؛ فنحن سوريون، وكانت نهايتنا جميعًا هي الحزن والوجع، لا سامح الله من كان السبب”.
يقول ميمون إنّه توقف قليلًا عند جملة: “لا سامح الله من كان السبب”، لكنّه بالمحصلة لم يعرها انتباهًا، فما مضى قد مضى، واليوم يبحث الجميع عن قوت يومه، ويختم حديثه: “لتذهب السياسة والصراع إلى الجحيم، عشنا عمرًا معًا، والآن نحن كذلك، لا يجب أن يحصل شيءٌ ويسمح لنا بالاقتتال من جديد، إن كان هناك أناس من أيّ طرف ما زالت تريد أن تقاتل فهي حرّة، وربما ما زالت تملك الطاقة والغضب لذلك، أما نحن في حمص فقد نلنا نصيبنا مبكّرًا، وصرنا لا نقول إلّا: الله يفرّج”.