كانت المنافسة منذ قرون محتدمة بين البشر لتحقيق الأفضلية؛ خاصة في مجال العمل، الملايين يتنافسون يوميًا لتحقيق المزيد من الإنجازات أو الإبقاء على مكتسباتهم، أو حتى مجرد الاستمرار بوظيفة تؤمن مستقبلهم، أما اليوم، ومع دخول الذكاء الاصطناعي ذي القدرات الهائلة على الإنجاز بمجال العمل، تبدو المنافسة بالنسبة للبشر صعبة، ومستحيلة في بعض الأحيان، اليوم يخوض الملايين على وجه الأرض صراعًا من أجل الحفاظ على “مصادر الرزق” بمواجهة أنظمة ذكاء عمالقة ومتطورة.
وفي دول الخليج التي تسعى إلى أن تكون قوة عظمى بهذا المجال، وتضع العديد من الخطط الطموحة بهذا الصدد قد بدأت تنفيذها بالفعل، تبدو المنافسة محتدمة، فيما يشعر الموظفون في قطاعات عديدة أن مستقبلهم بات على المحك؛ خاصة أن الخليج عمومًا كان وما زال بيئة جاذبة للعمل بفضل مشروعات النفط وغيرها؛ حيث تستوعب دول مجلس التعاون الخليجي نحو (21 مليون) موظف بمختلف المجالات، يخشى الكثير منهم فقدان عمله واستبداله بـ”الروبوت”.
يقول إسماعيل حماد (38 عامًا) لـمواطن: “أعمل منذ حوالي عشر سنوات في قطاع خدمة العملاء في إحدى الشركات الكبرى في الخليج، وكنت أعتقد أن لدي مسارًا وظيفيًا ثابتًا ومستقبلًا آمنًا، ولكن مع تطور الذكاء الاصطناعي والروبوتات، بدأ يتسلل إليّ شعور متزايد بالخوف من فقدان وظيفتي، وبدأت الشركة تدريجيًا تعتمد على الأنظمة الذكية لإتمام العديد من المهام التي كنت أقوم بها يوميًا؛ مثل الرد على استفسارات العملاء وحل مشاكلهم”.
تقول راندا عوف، التي تعمل كمدخلة بيانات في شركة استشارية بدولة الإمارات: "أشعر أنني بحاجة لمهارات تقنية عالية للبقاء في مجالي، لكنني لست متأكدةً من أنني سأتمكن من التكيف بسرعة، وأخشى أن ينتهي بي الأمر بلا وظيفة".
ويعبر حماد عن قلقه بالقول: “إن الذكاء الاصطناعي قادر على تنفيذ هذه المهام بسرعة وبدقة، ومع أنني أدرك فائدته من حيث تحسين الكفاءة وتوفير الوقت، إلا أنني أشعر أن هذه التحسينات تأتي على حسابنا نحن كموظفين، أرى زملائي في نفس الوضع؛ خاصة أولئك الذين يعملون في مهام تتطلب تفاعلاً مباشرًا مع العملاء أو عمليات بسيطة، وهو ما يجعلنا جميعًا نعيش في قلق من أن تأتي لحظة نستلم فيها إشعارًا بأننا لم نعد نلبي متطلبات الوظيفة”.
يحاول حماد، مواكبة هذه التغيرات بالتعلم، وقد بدأ بالفعل في تلقي دورات تدريبية في مجال تحليل البيانات والتعامل مع الأنظمة الذكية، على أمل أن يستطيع تقديم قيمة مضافة للشركة لا يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تعويضها، ولكنه لا يستطيع تجاهل شعور الخوف المستمر من أن التكنولوجيا قد تتجاوز قدراتنا في أي وقت.
ورغم أنه يرى أن التحول نحو الذكاء الاصطناعي أمر حتمي، لكنه يعتقد أن هذا التغير السريع قد لا يترك للبشر الفرصة لإعادة التأهيل بالسرعة الكافية، مؤكدًا حاجته إلى الاستقرار الوظيفي، ولكنه في ذات الوقت يدرك أن العالم يتغير، ولا يعرف إن كانت مهاراته الحالية ستضمن له وظيفة في المستقبل أم لا.
هل تتخلى دول الخليج عن العمالة البشرية؟
تشير تقارير علمية إلى نسبة كبيرة من مواطني دول مجلس التعاون الخليجي يعملون حاليًا في قطاعات معرضة لخطر التراجع بسبب التحول الرقمي المتسارع؛ فالذكاء الاصطناعي يؤثر بشكل خاص على الوظائف في مجالات الخدمات والإدارة العامة والبنية التحتية والرعاية الصحية، وتعتبر الكويت الأكثر عرضة لهذا الخطر، حيث يعمل 91% من مواطنيها في هذه القطاعات، تليها الإمارات بنسبة 83%، ثم السعودية بنسبة 80%، وأخيرًا البحرين بنسبة 66%.
ووفقًا لتقرير “توجهات التوظيف العالمية” لعام 2018؛ فإن 36% من المهنيين يرون أن الذكاء الاصطناعي يمثل موجة قوية تؤثر على طريقة التوظيف، لكن معظم الموظفين لا يشعرون بقلق كبير تجاه إمكانية استبدال الذكاء الاصطناعي بوظائفهم.
فيما يشير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن تبني التقنيات الخاصة بالذكاء الاصطناعي وتوظيفها بمجال العمل، سيسهم في تطوير القاعدة الصناعية للدول ذات الدخل المتوسط، والتي تعتمد على الأيدي العاملة الكثيفة من خلال تعزيز المهارات الصناعية المتقدمة، كما ستساعد دول الخليج الغنية بالموارد في تنويع اقتصادها والحد من اعتمادها على صادرات النفط والغاز، وفي المقابل، ستمنح هذه التقنية الدول الأقل دخلًا فرصة لتقليل هشاشتها وتعزيز استقرارها عبر دمج أسواق العمل المحلية ضمن سلسلة التوريد الإقليمية.
كذلك أفاد تقرير صادر عن “لينكد إن” و”استراتيجي &” أن “الوظائف الرقمية” تمثل الاتجاه الجديد في سوق العمل بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتشمل هذه الوظائف مجالات إنتاج وتوزيع وتطبيق وخدمات تكنولوجيا المعلومات والاتصال، ويشير التقرير إلى أن نسبة الوظائف الرقمية تشكل حوالي 5.4% من إجمالي القوى العاملة في الاتحاد الأوروبي، بينما تمثل 1.7% فقط من إجمالي العمالة في دول الخليج.
يقول الرئيس التنفيذي لمركز كوروم للدراسات الاستراتيجية، طارق الرفاعي: "هناك توجه لاستبدال بعض الوظائف الروتينية بالذكاء الاصطناعي، مما قد يؤدي إلى زيادة البطالة في هذه القطاعات".
ويؤكد التقرير أنه لمواكبة التحولات الرقمية المتسارعة، يجب على دول الخليج التركيز على التوسع في خلق فرص عمل رقمية؛ إذ إن عدم الاستثمار في الوظائف الرقمية قد يؤدي إلى تفاقم نقص الوظائف بشكل كبير؛ ما قد يترجم إلى عجز يصل إلى 3.1 مليون وظيفة لمواطني دول مجلس التعاون الخليجي في مختلف القطاعات بحلول عام 2025.
وتقول الأكاديمية المختصة بتكنولوجيا المعلومات بجامعة الكويت (الأستاذ المشارك بقسم علوم المعلومات في كلية العلوم الحياتية بجامعة الكويت) الدكتورة زينب المعراج لـ “مواطن”: “إنه يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل بعض الوظائف في مجالات مثل البيع بالتجزئة وخدمة العملاء، والأدوار الإدارية التي تتطلب مهام متكررة يمكن إتمامها، ومع ذلك؛ فمن المتوقع أن تقوم دول الخليج بإعادة تأهيل القوى العاملة للتركيز على وظائف معززة بالذكاء الاصطناعي، مما يسهم في خلق قوى عاملة مؤهلة الإدارة والتطوير والابتكار في تقنيات الذكاء الاصطناعي. وهذا الاتجاه واضح عبر دول مجلس التعاون الخليجي.
من جهته يقول لمواطن، الرئيس التنفيذي لمركز “كوروم” للدراسات الاستراتيجية طارق الرفاعي: “يتمتع الذكاء الاصطناعي بمستقبل واعد للغاية، إلا أننا ما زلنا في المراحل الأولى من تطور هذا القطاع. نشهد اليوم تغيرات سريعة في بعض القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على المهام أو الخدمات الروتينية؛ مثل القطاع اللوجستي والخدمات التي تتطلب تكرارًا يوميًا وليس تقنية متقدمة. تحتاج التقنيات العالية في الذكاء الاصطناعي إلى تطوير إضافي لتستوعب قطاعات حساسة ومعقدة؛ مثل القطاع الصحي والصناعات الدقيقة.
ويوضح أنه في منطقة الخليج، هناك توجه لاستبدال بعض الوظائف الروتينية بالذكاء الاصطناعي، مما قد يؤدي إلى زيادة البطالة في هذه القطاعات. هذه المشكلة ليست جديدة، ونراها في عدد من الدول العربية مثل مصر والأردن والعراق؛ حيث معدلات البطالة مرتفعة بالفعل. هناك حاجة إلى تحويل هذه الوظائف إلى مجالات تتطلب مهارات وكفاءات تقنية متقدمة. سيؤثر الذكاء الاصطناعي على جميع القطاعات، بما في ذلك التي تتطلب تقنيات عالية، وقد بدأنا نشهد هذا التغيير في الولايات المتحدة وأوروبا؛ حيث يتم استبدال بعض الوظائف بالأنظمة الحاسوبية المتطورة”.
خوف وترقب
يتحدث عمال وموظفون في دول خليجية لـمواطن، عن مخاوفهم تجاه تزايد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي كبدائل في بعض الوظائف؛ يقول مصطفى عبد السلام (32 عامًا) إنه يعمل كـ(كاشير) في مركز تجاري في أحد المولات الكبرى بدولة الكويت، هذه الوظيفة هي مصدر رزقه الأساسي لسنوات، لكن مؤخرًا بدأت إدارة المركز باستخدام أنظمة دفع إلكترونية ذكية وصرافات آلية، يمكن للعملاء من خلالها إتمام عمليات الشراء دون الحاجة إلى المرور بالكاشير، هذه التقنية تقلل من الازدحام وتوفر الوقت للعملاء، ولكنها تشعره بالخوف يوميًا، لأنه يشعر باحتمال استغناء الشركة عنه في أي وقت.
وما يزيد من مخاوفه أن الإدارة قد بدأت بالفعل -خلال العام الماضي- بتقليص أعداد الموظفين تدريجيًا، والاعتماد على الصرافات الآلية بشكل أكبر، لذلك يشعر أن التكنولوجيا تأخذ مكانه، رغم كل الجهد والتدريب الذي يبذله ليتقن هذه المهنة. ورغم أنه يحاول التكيف وتعلم بعض المهارات الرقمية، إلا أنه يخشى أن تكون التغييرات أسرع مما يستطاع اللحاق به.
أما راندا عوف، التي تعمل كمدخلة بيانات في شركة استشارية بدولة الإمارات؛ فقد بدأت في الآونة الأخيرة تشعر أن عملها مهدد بسبب الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي، تقول لـمواطن: “في الماضي، كان من الضروري وجود موظفين لإدخال وتحليل البيانات، ولكن اليوم هناك برامج تقوم بذلك بشكل أسرع وبدقة أكبر، بدأت الإدارة تتحدث عن خطط لتقليل أعداد موظفي مدخلي البيانات واعتماد هذه الأنظمة”.
وتضيف: “أشعر أنني بحاجة لمهارات تقنية عالية للبقاء في مجالي، لكنني لست متأكدةً من أنني سأتمكن من التكيف بسرعة، وأخشى أن ينتهي بي الأمر بلا وظيفة، رغم سنوات العمل والتجربة، وأن تصبح التكنولوجيا هي من يتولى المهام التي كنت أقوم بها”.
لماذا تتوسع دول الخليج بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي؟
بحسب الدكتورة زينب المعراج في حديثها لـ “مواطن”، تعمل دول الخليج على ترسيخ مكانتها الريادية في مجال الذكاء الاصطناعي، من خلال استثمارات ضخمة تهدف إلى تحويل اقتصاداتها وتعزيز دورها في الاقتصاد الرقمي العالمي، وتتماشى هذه الجهود مع طموحاتها الأوسع لتنويع اقتصاداتها؛ حيث تنتقل إلى ما هو أبعد من الاعتماد على النفط، لتصبح مراكز ابتكار في مجالات مثل الرعاية الصحية، والتمويل، والبنية التحتية، وتطوير المدن الذكية.
وتبرز مشاريع مثل “نيوم” في السعودية والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي في الإمارات العربية المتحدة هذه الرؤية، مما يؤكد أن الذكاء الاصطناعي يمثل ركيزة أساسية في استراتيجياتهم المستقبلية.
أما دوافع دول الخليج للسعي إلى أن تصبح قوة عظمى في مجال الذكاء الصناعي؛ فترى “المعراج” إنها “تكمن في رغبتها بالريادة في اقتصاد قائم على المعرفة، والذي يوفر مزايا عديدة؛ مثل خلق فرص العمل وتحسين الخدمات العامة، وتعزيز النفوذ الإقليمي، ولا تقتصر هذه العقلية القيادية على العوائد الاقتصادية فحسب؛ بل تهدف أيضًا إلى وضع أنفسهم في طليعة التقدم التكنولوجي العالمي، وضمان امتلاكهم للبنية التحتية والخبرات اللازمة لجذب الاستثمارات المستقبلية”.
وتشير الأكاديمية الكويتية إلى أبرز الجهود المبذولة في هذا السياق؛ منها إطلاق مبادرات مثل وزارة الذكاء الاصطناعي في الإمارات العربية المتحدة؛ حيث يسعى معالي عمر بن سلطان العلماء إلى دمج الذكاء الاصطناعي في كافة الوظائف الحكومية، إلى جانب المعاهد الأكاديمية والبحثية الرائدة في الكويت وقطر والسعودية والإمارات، التي زادت من تمويلها للذكاء الاصطناعي. وتعد هذه الجهود بمثابة التزام ببناء القدرات المحلية ودفع عجلة الابتكار من الداخل.
وقد حققت دول الخليج، وفق “المعراج”، نجاحات ملحوظة في دمج الذكاء الاصطناعي عبر مختلف القطاعات؛ خاصة في مجال الرعاية الصحية؛ حيث تسهم حلول الذكاء الاصطناعي في تحسين التشخيص وتخطيط العلاج، وكذلك في مشاريع المدن الذكية التي تعزز إدارة المدن وتقليل البصمة الكربونية. وتوضح هذه الإنجازات قدرة المنطقة على التكيف والتركيز على تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والعملية التي تؤثر على الحياة اليومية.
وتشير الإحصائيات إلى أن الإمارات العربية المتحدة تأتي في مقدمة دول الخليج من حيث الاستثمار في الذكاء الاصطناعي؛ إذ تستهدف تحقيق قيمة اقتصادية تبلغ نحو 320 مليار دولار عبر هذا القطاع بحلول عام 2030، بما يمثل حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي، ووضعت المملكة العربية السعودية خططًا طموحة ضمن “رؤية 2030” لرفع مساهمة الذكاء الاصطناعي بنسبة 12.4% من الناتج المحلي بحلول 2030؛ حيث استثمرت السعودية مليارات الدولارات في تقنيات الذكاء الاصطناعي لتطوير قطاعات الصحة والتعليم والخدمات الحكومية.
وترى الخبيرة والأكاديمية الكويتية أنه مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، تزداد أيضًا أهمية الأمن السيبراني والخصوصية والثقة والتدابير العادلة، ويتطلب تحقيق التوازن بين الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني وضع أطر شاملة لحوكمة البيانات والتعاون الإقليمي، والاستثمار في المواهب المتخصصة في الأمن السيبراني.
وتعمل دول الخليج، وفق “المعراج”، على تطوير هذا المجال من خلال استراتيجيات وطنية، وشراكات مع شركات تكنولوجيا عالمية، لضمان أن التقدم في الذكاء الاصطناعي لا يُعرض الأمن الوطني للخطر، وتحرص على التعلم من أخطاء الآخرين لتقليل المخاطر والأضرار مع مواصلة التقدم في هذا المجال.
وسط تسارع التحول الرقمي واندماج الذكاء الاصطناعي في الاقتصادات الخليجية، تبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة البشر على التكيف مع هذا التغيير الجذري. وبينما تُظهر دول الخليج رؤية طموحة نحو مستقبل تقوده التكنولوجيا، فإن التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن يضمن استدامة الفرص الوظيفية، ويُعيد تأهيل القوى العاملة لتواكب متطلبات المستقبل. اليوم، تقف دول الخليج على مفترق طرق بين التحول الرقمي الشامل والحفاظ على قوة عمل بشرية مؤهلة، فهل يمكن أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى شريك فعّال للبشر بدلًا من منافس؟