أوقفت سلطات دولة الإمارات العربية المتحدة خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، منح تأشيرات السفر الإفرادية للفتيات السوريات، بمختلف أنواعها؛ زيارة، سياحة، إقامة، وعمل، ما أثار الكثير من التكهنات والتساؤلات؛ خاصة أنّ السلطات المعنية لم تعلن رسميًا عن الأمر.
مكاتب سفر وحجوزات وفتيات في سوريا كنّ يعقدن العزم على السفر، أكدن لـ “مواطن” حقيقة الخبر، تحدث مكتب الوسيم للحجوزات والسفريات في دمشق إلى “مواطن” مبيّنًا أنّ الإمارات أوقفت “الفيزات” فعلًا دون إبداء أسباب مباشرة، علمًا أنّ السوريين والسوريات ولسنوات حظوا بإمكانية الحصول على تأشيرة السفر إلى الإمارات
الإمارات لم تصرح، سوريا تبرر
مديرية هجرة دبي بدورها لم تذكر شيئًا عن الموضوع عبر موقعها الإلكتروني، أو معرفاتها على مواقع التواصل الاجتماعي. وبحسب عضو غرفة سياحة دمشق أنور البني؛ فإنّ هذا القرار جاء مبنيًا على ما وصفه بالمخالفات المرتكبة من قبل الفتيات السوريات في الإمارات عامةً ودبي خاصةً.
وبحسب “البني” فإنّ أبرز تلك المخالفات هي تجاوز مهلة مدة الإقامة المسموح بها، أو ما يسمى بكسر الإقامة والبقاء في الدولة بشكل غير شرعي، إضافةً إلى محدودية فرص العمل المتاحة، والتي صارت ضيقة جدًا ولا تتسع لمزيد من عشرات آلاف العاملين الجدد والوافدين باستمرار.
تواصلت “مواطن” مع مصدر في مديرية هجرة دبي عبر أحد رجال الأعمال السوريين المقيمين هناك، والذي أكدّ وجود أكثر من 260 ألف سوري مقيمين بشكل نظامي في الإمارات، يشكّل مجموعهم أكثر من 2.5% من سكان الدولة، وهو رقم كبير وضخم جدًا لأيّ عمالة أجنبية.
وأضاف المصدر أنّهم يتركزون من الأكثر إلى الأقل في دبي ثم أبو ظبي فالشارقة، وبعدها بقية الإمارات، وبالطبع النسبة الأكبر هي في دبي التي يقطنها أكثر من 150 ألف سوري يعملون في التجارة والاقتصاد والتعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية وقيادة السيارات والهندسة والسياحة والمياومة والأعمال الأخرى التي تتطلب عمالةً من نوع محدد.
هذا الموقف ليس ضد السوريين كشعب؛ فالتقارب بين البلدين في أوج ازدهاره، ولكنّه حالة من ضبط إيقاع الأمور ووضعها في نصابها المهني والمنطقي والسكاني والعملي، ورفد السوق باحتياجاته دون أن يكون هناك عمالةٌ زائدة تعطّل نفسها وتعطّل سير العمل في مؤسسات أخرى.
أسباب المنع
يمكن تلخيص أسباب المنع بحسب معلومات “مواطن” تبعًا لأهميتها، والمتمثلة في التجاوزات التي يتم ارتكابها يوميًا، وضمنًا تجاوز المدة المسموح بها للإقامة حسب نوع الفيزا، إضافةً لعدم توافر فرص عمل لهنّ بحسب خبراتهنّ المحدودة في دولة تسعى للبناء وتحتاج للخبراء، إضافة لقيام “بعض” الفتيات بأعمال غير شرعية في دولة الإمارات، وهي التي تعد من أبرز أسباب المنع؛ إذ تجرم تلك الأعمال هناك علانيةً وتعكس صورةً سلبية عن الضيف ومضيفه.
وأضاف المصدر في مديرية الهجرة: “آلاف الوافدين قدموا من العراق، بغداد وأربيل مؤخرًا، بعد أن أوقفت تأشيراتهم هناك أو إقامات عملهم، الأمر الذي أدى لخلق فوضى في أعداد كبيرة خالفوا قانون التأشيرة السياحية من الجنسية السورية، وجلّهم لا يمتلك الخبرات الكافية التي تجعلهم عبئًا إضافيًا على سوق العمل الممتلئ بعشرات الجنسيات الأخرى”.
ويؤكد المصدر أنّ الموقف ليس ضد السوريين كشعب؛ فالتقارب بين البلدين في أوج ازدهاره، ولكنّه حالة من ضبط إيقاع الأمور ووضعها في نصابها المهني والمنطقي والسكاني والعملي، ورفد السوق باحتياجاته دون أن يكون هناك عمالةٌ زائدة تعطّل نفسها وتعطّل سير العمل في مؤسسات أخرى.
أسباب الاختيار والعقبات
يتقاضى السوريون في الإمارات رواتب تبدأ وسطيًا من 1500 درهم وحتى 20 ألف درهم، حسب مؤهلاتهم ودرجة خبراتهم (ما بين 400 دولار أميركي إلى 5400 دولار)، وبالطبع فإن أكثر من 90% من السوريين لا يتقاضون أكثر من 1500 درهم، وذلك يعود لانعدام خبرتهم المهنية وسفرهم فور تخرجهم الجامعي دون الحصول على خبرات سوق العمل.
يلخّص الاقتصادي هاشم عقاب أسباب اختيار السوريين للإمارات بالأسباب التالية: فرص العمل الممكنة -الأمان والاستقرار – مستوى المعيشة المرتفع -جودة التعليم والرعاية الصحية – التسامح والتنوع الثقافي – عمق المواطنة – الهرب من الحرب – تأمين المستقبل – مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي).
وعن العقبات يقول عقاب لـ”مواطن: “صعوبة الحصول على تأشيرات العمل -ارتفاع تكاليف المعيشة -التنافس على الوظائف -صعوبة الاندماج في المجتمع”.
الحسنة تخص والسيئة تعم
تبدو طالبة الطب يمنى فوزي كمن أصابتها صاعقة حين سمعت الخبر، كذلك تصف نفسها، الفتاة التي أوشكت على التخرج كانت أعدّت عدّتها للسفر فورًا إلى دبي فور حصولها على شهادة التخصص النهائي، لكنّها فوجئت بالأمر.
تقول في حديثها مع “مواطن”: “إن كان هناك فئة مسيئة فلا يجب أن ندفع جميعنا الثمن، العراق لا يمكن الدخول إليه، لبنان تحت العدوان، سوريا مدمّرة، السعودية لا تستقبلنا، ثمّة صراع مع تركيا، منفذنا الوحيد الآمن هو الإمارات، والآن صار مصادرًا منّا من أجل ممارسات بعض الفتيات المتهورات اللاتي لا تأبهن لسمعة بلدهنّ، قبيح جدًا مبدأ أنّ الحسنة تخصّ والسيئة تعمّ”.
فتحت الإمارات أبوابها للسوريين بشكل واسع، وظلّ يتسع اعتبارًا من عام 2021 فعليًا، أي بعد افتتاح سفارتها بشكل نظامي في دمشق عام 2018 بعد قطيعة استمرت سبع سنوات.
"لن أبقى هنا ثانية أخرى"
يبدو حال الطبيبة يمنى مشابهًا ببساطة لآلاف السوريات اللاتي عقدن العزم على خوض تجربة حياة ٍآمنة جديدة خارج سياج وطنهن الدامي. نورهان عبسي، خريجة كلية الآداب من جامعة دمشق، وُظفت في القطاع الخاص قبل عامين؛ فعلت كل ما تستطيع لتقنن على نفسها بغية توفير المال اللازم للسفر إلى دبي، وحين زفّت اللحظة الملائمة قال لها المكتب: “ممنوع سفر الفتيات أو الشباب، السفر فقط للعائلات”.
تقول: “الآن تبخر حلم جديد، ولكنّي لن أنتظر أكثر بكثير، سأنتظر حتى مطلع العام القادم، إذا ظلّت لبنان وسوريا على قيد الحياة لحينها فسأسافر انطلاقًا منهما هجرةً في الغابات أو البحر إلى أوروبا، لن أبقى هنا ثانية أخرى، أنا اكتفيت، أنا لا أريد الموت”.
شروط قادمة
وكانت السلطات الإماراتية قد وضعت منعًا لسفر الشباب السوري إليها أواسط آب/أغسطس الفائت، كما قيّدت بشكل صارم عمومًا دخول سكان محافظات بعينها، ومن بينها الرقّة وإدلب ودرعا.
أما عن الرقة فلكونها كانت عاصمة “الخلافة في الدولة الإسلامية في العراق والشام لتنظيم داعش”؛ فيخشى من ارتباطات مستمرة لسكانها مع بقايا التنظيم، وإدلب نظرًا لسيطرة “جبهة النصرة – هيئة تحرير الشام” عليها، وهي منظمة مصنفة كجماعة إرهابية، وبالنسبة لدرعا فهي خروجها ورعاياها النسبي عن السيادة السورية ورفضهم إجراء تسويات بضمانات أممية وعربية.
فتحت الإمارات أبوابها للسوريين بشكل واسع، وظلّ يتسع اعتبارًا من عام 2021 فعليًا، أي بعد افتتاح سفارتها بشكل نظامي في دمشق عام 2018 بعد قطيعة استمرت سبع سنوات.
مصادر مطلعة رجّحت لـ “مواطن” أنّه إن أعيد افتتاح منح التأشيرات السياحية وإقامات العمل؛ فسيكون ذلك مقرونًا بجملة شروط واسع؛ أهمها أن يكون للقادم عنوان سكن لقريب له في البلد أو صديق على الأقل بعنوان ثابت، أو حجز فندقي، أو حجز مطار، وأن يملك القادم تذكرة ذهاب وعودة على ذات شركة الطيران التي أتى على متنها في حالة التأشيرة السياحية، وأن يكون بحوزته مبلغ مالي يتخطى 500 دولار، ويعفى من ذلك من يملك الإقامة الذهبية.
الخليج ليس فردوسًا
يعتقد السوريّ حين يسافر إلى الإمارات أنّ أبواب الفرج قد فُتِحت أمامه بالقياس مع مخاطر السفر إلى أوروبا عبر الغابات أو في البحر؛ فالطريق إلى دبي سالك عبر الطيران من مطار دمشق مباشرة، وبتكلفة قد تصل لنحو ألفي دولار دون أن تشمل أي مصاريف أخرى سوى أجور الفيزا والطيران.
معظم الشباب الذين سافروا كان هدفهم جمع البدل المالي لدفعه لقاء إعفائهم من الخدمة الجندية الإجبارية في الجيش السوري، لكنّهم صدموا بسقف الرواتب المتدني، والذي يتطلب سنين عمل لجنيه، خصوصًا مع انحدار مستوى العمالة السورية نظرًا لكثرتها، لتصبح واحدةً من أقلّ الأجور في الإمارات.
درست الطب التجميلي غير الجراحي لأربع سنوات ثم سافرت، توقعت أن أحظى بأفضل وظيفة ومرتب، وأن أكون كبقية الأطباء التخصصيين الخريجين من الجامعات الحكومية، والذين يتقاضون آلاف الدولارات، ولكن للأسف كان الأمر معاكسًا تمامًا...
محامٍ في معرض سيارات
عباس الأبيض، محامٍ سوري هاجر إلى الإمارات قبل نحو 6 سنين، ظلّ كمعظم السوريين أشهرًا طويلة دون عمل، مستنزفًا مقدراته المالية بشكل كامل، حتى قبل العمل كمشرف في صالة لبيع السيارات براتب 2500 درهم إماراتي الآن، أي نحو 680 دولار؛ في حين أنّه بدأ بمرتب لا يتخطى ألف درهم حينها (270 دولار).
يقول لـ “مواطن”: “الإمارات شيء عظيم وبلد منظم، ولكنّ مال الإمارات للإمارات، تجني وتصرف كلّ شيء هنا، تعمل منذ الصباح وحتى المساء، وفي النهاية تجد نفسك بالكاد قادرًا على إطعام نفسك ودفع بدل إيجار الغرفة التي تقطنها، وربما إرسال مبلغ زهيد لأهلك، وعليك أن تقنن لأقصى درجة فدية لدفع مبلغ البدل، وهو غالبًا 8 آلاف دولار”.
من طبيبة لمساعدة طبيب
تخرجت نيرمين الجندي في كلية الطب التجميلي عام 2018، واتجهت للإمارات لتبحث عن مستقبلها كطبيبة، لكنّها فوجئت برفض الاعتراف بها لأنّها خريجة جامعة خاصة – والكلية بالفعل موضع جدل في سوريا وفي السياق التعليمي -؛ فهل هي كلية طبية أم تطبيقية عادية؟ وهناك عوملت كأخصائية لا كطبيبة، لينحدر حلمها بمرتب يتكون من آلاف الدولارات إلى بضع مئات منه.
تقول: “درست الطب التجميلي غير الجراحي لأربع سنوات ثم سافرت، توقعت أن أحظى بأفضل وظيفة ومرتب، وأن أكون كبقية الأطباء التخصصيين الخريجين من الجامعات الحكومية، والذين يتقاضون آلاف الدولارات، ولكن للأسف كان الأمر معاكسًا تمامًا، وتم تعييني مساعدة طبيب جلدية وخبيرة عناية بشرة فقط، وما أجنيه بالكاد يكفي ثمن ملابس وطعام وسكن”.
اكتظاظ غير محمود
آلاف وربما عشرات آلاف أحلام السوريين تكسرت على رمال الإمارات، بعدما اعتقدوا أنّهم ذاهبون لاغتراف الذهب من أرضه، ليفاجأوا بأنّهم الأقل أجرًا ومرغوبية في العمل، وبأنّهم صاروا مكتظين لدرجة يضاربون على بعضهم في الأسواق والأعمال.
ما زاد الطين بلّة أنّ الجميع يهاجر، الغالبية ربما دون خبرة سابقة، ما يجعل ذلك الاكتظاظ غير محمود ومؤثرًا على بقية الأقران الذين استمع “مواطن” لكثير منهم، وجميعهم يتشاطرون ذات العناء، والذي يبدأ بشروط السكن غير الإنساني غالبًا، ولا ينتهي بالقبول والتمسك بأي فرصة عمل، عدا آلاف أنفقوا كل ما في حوزتهم باحثين عن عمل، وعادوا خالي الوفاض أخيرًا لبلدهم، والأهم، أنّ السوريين يتندرون بقولهم على الدوام: “صرنا نرى سوريين من معارفنا هنا أكثر من سوريا”.