“من يريد العيش بحرية؛ فليذهب إلى أوروبا،” هكذا قالها وزير الداخلية الليبي عماد الطرابلسي، ختامًا لتصريحه الذي اشتمل على عدد من القرارات، والتي منها فرض الحجاب على النساء، وعودة دوريات شرطة الآداب، ومنع صيحات الشعر والملبس غير المتوائمة مع ثقافة المجتمع، ومنع سفر المرأة بغير محرم واختلاطها بالرجال، وملاحقة أصحاب المحتوى غير اللائق على وسائل التواصل، وصولًا إلى إغلاق المقاهي التي تقدم الشيشة. هكذا قالها وزير داخلية في حكومة وحدة وطنية: “من يريد العيش بحرية؛ فليذهب إلى أوروبا،” جملة تذكر بصنواتها مثل: “إذا مو عاجبتكم الديرة اتركوها”، و”من يريد الديمقراطية يروح يعيش في الغرب أحسن”، وهي جمل تتردد وتتكرر تحديدًا في محيط دول الخليج، ردًا معلبًا جاهزًا، كلما انتقد أهل هذه البلدان أوضاعها الداخلية أو احتجوا على تقصير ديموقراطي وحرياتي فيها.
حين ترِد وتتردد مثل هذه الجمل على منصات إكس وإنستغرام مثلًا، ردًا على نقد أو احتجاج، تحضرني مباشرة فكرة كم أن العامة مجتمِعة، هي سلاح فتاك تستخدمه الحكومات ضد العامة بحد ذاتها. الجماعة بطبيعتها هوجاء، وأقرب إلى الرعونة والانفعال عن التبصر والتدبر، ويغلب على الجماعة التعنصر والانحياز والفجاجة في التلفظ والوقاحة في التعبير، متأثرة بمواقف بعضها، ومدفوعة بحس تنافسي للمزايدة على الآخرين وتخطيهم عنفًا، وهو ما ينعكس في حملات الهجوم الإلكترونية التي تحاصر أصحاب الرأي حين يتكالب عليهم الرأي العام؛ فيؤجج بعضه بعضًا وصولًا لدرجة حارقة من العنف اللفظي، والذي تكون دلالاته النفسية والواقعية أخطر ما تكون. إلا أن هذه الجملة المسكينة: “من يريد العيش بحرية؛ فليذهب إلى أوروبا“، وردت على لسان وزير منفرد، وفي لحظة هدوء أدلى من خلالها بتصريحات يفترض أنها مدروسة ومقننة؛ ففي أي عالم مواز هبطت فجاجة وهياج العامة على لسان وزير محنك؟
منطوقة على لسان وزير محنك أو مراهق صغير متشرب عنصريات وتطرفاته بيئته، يبقى السؤال هو: ما تقول مثل هذه التصريحات؟ لا مكان للديمقراطية ولا للحرية في مجتمعاتنا؟ اعتراف مباشر هو ذاك؟ مجتمعاتنا هي مجتمعات لا ديمقراطية ولا حرياتية، ومن يريد أن يكون له صوت أو اختيار في الحياة؛ فعليه أن يغادر، عليه أن يعيش مغتربًا. هل عليه أن يدفع ثمن أبسط حقوقه الإنسانية؟ ترى من يمتلك قوة طرد فرد مراهق من مجتمعه ووطنه، من خلال تغريدته على منصة إكس؛ فاشيونيستا عبر فيديو لها على انستغرام، أستاذ جامعي، سياسي محنك، وزير؟ من يفترض أن تكون لديه هذه الدرجة من القوة والاستحقاق حتى يقول لمواطن ردًا على نقد أو ملاحظة أو مطالبة أو شكوى تجاه بلده: “مش عاجبك، بره!”. من يمتلك الجرأة، ولو كان وزيرًا عضوًا في “ائتلاف ديمقراطي” وحكومة “وحدة وطنية،” ليطرد إنسانًا من أرضه لأنه اختار حياة مخالفة لأيديولوجية هذا المتحدث المهم “أدام الله ظله؟”
"من يريد العيش بحرية؛ فليذهب إلى أوروبا،" هكذا قالها وزير الداخلية الليبي عماد الطرابلسي، ختامًا لتصريحه الذي اشتمل على عدد من القرارات، والتي منها فرض الحجاب على النساء، وعودة دوريات شرطة الآداب، ومنع صيحات الشعر والملبس غير المتوائمة مع ثقافة المجتمع.
مصيبتنا الكارثية أن هذه الجملة ما عادت تهجم علينا من زاوية واحدة؛ إنما من قطبي الحياة المتعاكسين في مجتمعاتنا غريبة الأطوار والأحوال. إلى ماض قريب، كان توجه الوزير هو السائد، كانت حماية المحافظة والإبقاء على الانغلاق وفرض الوصاية الأخلاقية المتزمتة على المجتمع هو الديدن المجتمعي والسياسي الفاعلان، كان هذا هو التطرف الواضح الذي يفترض بالمؤمنين محاربته بالحريات.
لكن ولأننا في مناطق متأججة بحرارة أجوائها ونفطها وغازها الذي يسكن أراضيها، أبت الأقدار أن تترك المعركة واضحة وبينة الطرف؛ فأغلقت الدائرة وأطلقت علينا أعداء الحرية والديمقراطية من طرفي القطب: أنت منكوب لو تحررت، وأنت منكوب لو التزمت؛ فمثلما يفرض الوزير الليبي هذا النمط من الانغلاق البائد “بصرعته” القديمة فكرًا وتعبيرًا وتنفيذًا، تفرض حكومات عربية أخرى انفتاحًا زائدًا “بصرعته” المنفلتة الهوجاء، المدسوسة دسًا في حلوق الناس، ليصبح الشعار ليس فقط من يريد حرية الانفتاح،فليذهب إلى أوروبا؛ بل حتى من يرغب في حرية التدين والمحافظة فليذهب إلى أوروبا كذلك؛ ففي هذه الأوروبا، رغم انكشافها السياسي البشع الأخير مع أحداث غزة، مساحة من الحريات خلابة ومغرية، وهي مساحة يحافظ عليها أهلها قبل حكوماتها حد التقديس. يا للغرابة! تريد أن تتحرر، تريد أن تتدين؛ لا مكان لك هنا. هنا تحيا على مقياس الشعرة، هنا تقف على الموقع الذي تحدده لك حكوماتك على السلك، إن اتجهت بعض الشيء يمينًا، أو تحركت خطوة أو اثنتين يسارًا، اختل صراطك وسقطت في غياهب الجحيم.
أكتب أنا كثيرًا حول موضوع انعدام الجنسية عمومًا، والأحداث التي تصيغها محليًا في الكويت على وجه الخصوص. لا أكتب كما كنت أكتب سابقًا؛ فالزمان غير الزمان، ضاقت بنا الأسماع وصغرت علينا بحبوبة القوانين، واتسعت علينا سلاطة الألسن العنصرية، ورغم ذلك، ولربما تحديدًا بسبب ذلك، ما أن أكتب تعليقًا متسائلًا حول انطلاقة حركة سحب الجنسيات الكويتية، أو حول مصير عديمي الجنسية، أو حول مفهوم التجنيس عمومًا في الكويت ومصير مقيميها الذين يفنون أعمارهم وحيواتهم على أرضها وفي خدمة أهلها، حتى تنطلق ألسن ما عادت تحشم نفسها ولا تستحي من عنصرياتها، ولا تضع أي مجهود في إخفاء قبح نفوسها وسواد قلوبها، ولم تحشتم أو تستحي؟ آمنة هي خلف شاشاتها الزجاجية ومحيطها العام، تعلم أن الوقت يواتيها، وأن التطرفات السياسية في صالحها؛ فتنطلق غير آبهة ولا متوجلة، تضرب وتشتم وتتهم، ثم تختم ختامها الجميل: “مو عاجبكم، طلعوا بره.”
كنا وما زلنا نقتطع كل يوم جزءً من لحم ديمقراطيتنا الحي، ونطعمه لقمة سائغة في فم سياسيينا، بعد أن غسلت أدمغتنا العنصريات، وأقنعتنا الحكومات أن الديموقراطية ليست في صالحنا.
العامة لا منطق لديها ولا عقل يدبر سلوكها، تندفع لو تحركت متسارعة عمياء، حتى لتقفز من أعلى قمة التلة الشاهقة صارخة بفرحة مجنونة، تعتقد أنها طائرة فيما هي تسقط لمصيرها المحتوم. هكذا هي الحملات العامة؛ تفرح حين تأتي القرارات السياسية على هواها، تحتفي بعنف وشراهة غير منتبهة للمبدأ الخطير الذي تؤسس له والذي سيعود، ولابد أن يعود، ليلفت حول رقاب أصحابها.
فرح المتدينون ذات زمن حين تكالبت معهم الحكومات على الأقلية الليبرالية فقمعتهم وعطلت حرياتهم، ويفرح الليبراليون اليوم بتكالب حكوماتهم معهم على الأغلبية المحافظة بقمعهم وتعطيل حرياتهم، لم يلتقط أحد فكرة خطورة المبدأ الذي يثبتونه، وإن أتت نتائجه الحالية لصالحهم، لم يستطيعوا الاتعاظ من أكل الثور الأبيض، لا هؤلاء يتعلمون، ولا أولئك يتبينون. هكذا هم العنصريون ومعادو الحريات، ببسيط الكلام والتعبير وبتعميمها، كلهم غافلون عن خطورة الموقف الذي يتخذون. بلا شك أن للعنصرية شهوة، التعبير عنها وممارستها لهما لذة بدائية ما زالت تسيطر على العقول الخاملة، وبلا شك أن للحرية أحمالًا وأعباءً، التعامل معها وتحملها متعب ثقيل معطل أحيانًا؛ إلا أن العنصرية على لذتها قاتلة لا محالة، والحرية على ثقلها وتعطلها هي السبيل الحقيقي؛ ليس فقط لحياة آمنة وسعيدة ومريحة، ولكن للبقاء بحد ذاته.
يقول أحمد فوزي سالم في مقال له على منصة رصيف 22: “لن تحقق البلدان العربية التقدم الحقيقي إلا إذا آمنت بأن حرية الفرد يجب أن تكون محمية من تدخل الدولة”. وهو إيمان يجب أن تقننه الحكومات بحد ذاتها، وتمارسه الشعوب بكل تقديس، ويتمسك به الفرد كما يتمسك، بإرادة منه وبدونها، بحقه في سحب أنفاسه في هذه الحياة. نشهد اليوم تمسك الشعوب الغربية بهذه الحريات التي حاولت حكوماتهم، محاولات يائسة بائسة، لحرمانهم منها بتجريم التظاهر من أجل غزة، وباعتقال كل من يتحرك من أجلها؛ خصوصًا من طلبة الجامعات. ما زادت هذه الأوامر تلك الشعوب إلا عنادًا وإصرارًا، ذلك أن الموقف الآن ما عاد فقط وقفة حق من أجل غزة المبادة على مرأى من العالم ومسمع، إنما هو وقفة دفاع عن حق أصيل وحيوي تشربته هذه الشعوب، وما عادت تستطيع تنفس الحياة دونه: حقهم في حرياتهم وتقرير مصائرهم، حين حذرت السلطات الفرنسية، ملأ الفرنسيون الشوارع، وحين هددت الحكومة الألمانية، خرج الألمان جموعًا، وحين استبدت السلطات الأمريكية، أمعن وعاند الطلبة الأمريكيون؛ فهؤلاء جميعهم يعرفون أن رضوخهم الآن هو الهزيمة الحقيقية، وأن سكوتهم عن حقهم في حرية التعبير ولو حول موضوع خارج نطاق مجتمعهم، هو وببساطة بداية النهاية، هو الثور الأبيض مطبوخًا مأكولًا محمرًا مشمرًا، وعلى لذته، ولو قبلوا وسكتوا، سيتبعون هم لا محالة، وسيدخلون مثله الفرن متبلين منكهين محشوين بالأرز والبندق والزبيب الطازج.
أما نحن ففي طور تخلٍ مستمر، مطبوخين مأكولين أبد الدهر، حتى إننا ما عدنا نشعر حين نخسر القليل الذي نملك، واليسير الذي حققناه في مسيرتنا التطورية. بخوف مهيمن؛ تخلينا عن حرياتنا الفردية في تحرر الملبس والتوجه الحياتي، والآن نحن في طور تخلينا عن حرياتنا الفردية في الالتزام والمحافظة. كنا وما زلنا نقتطع كل يوم جزءً من لحم ديمقراطيتنا الحي، ونطعمه لقمة سائغة في فم سياسيينا، بعد أن غسلت أدمغتنا العنصريات، وأقنعتنا الحكومات أن الديموقراطية ليست في صالحنا؛ فهي إما أن تستجلب لنا المتطرفين؛ مصر مثالًا، أو تملأ دولنا بالغرباء الذين هم على غير دمائنا “النقية الصافية”، دول الخليج نموذجًا. اقتنعنا أن الحريات آثام تورث الذنوب، وأن الديمقراطيات بدعٌ تنكبنا بالمتطرفين والمشبوهين الذين هم “مو من مواخيذنا.” وحين تعم هذه القناعة وتعمم، تكون تلك هي فعليًا بداية النهاية، يوم مأكل الثور الأسود.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.