“مع ان الدولة كثيرا ما تحاول حماية الفرد من الاعتداء فإن محاولتها لحماية الفرد من اعتداء الدولة نفسها لمعدومة”. برتراند رسل
إذا أردنا ان نناقش وضعنا في فترتنا الآنية نرى أن حماية الدولة للفرد من اعتدائها لم يعد المطلب النهائي بل أن المرجو هو أن توفر الدولة لأفرادها المناخ الملائم للتعبير والمشاركة وأن تهذب من هذه المشاركة بتثقيف المواطن وتعليمه أساليب النقد والحوار وتساعده على النضج السياسي والمعرفي. وهذه العملية برمتها تتطلب سلطة واعية تدرك أن نمائها لا يتأتى بجهودها وأساليبها الأحادية والمحدودة. وقبل كل ذلك يجب إدراك أن التفكير الناقد في المجتمع يهدف إلى الإصلاح وليس إلى الهدم، ويهدف إلى التطوير والتغيير للأفضل وليست غايته كشف المثالب والعيوب.
التفكير الناقد الذي يوظف المنطق يمتاز بمصداقيته وبالدقة والاتساع وتقييم الوضع بطريقة موضوعية مع تقديم البراهين. وهذا التفكير ينبغي تشجيعه لأنه أداة مساعدة للمؤسسات الرسمية والخدمية على إدراك نقاط ضعفها والعمل على تجاوزها أو تحسينها. إذاً النقد البناء دليل على تطور المجتمع، بل هو عنصر أساسي في تطوير وتثقيف أفراده والرقي بهم للتفكير بمصلحة الوطن، وبالتالي فإنه يغدو من الضروري توفير أدوات النقد وتهيئة المجال لوجود المفكر الناقد.
ولكن ما الذي يدفع بعض الافراد في المجتمع الى الامتناع عن التعبير ؟ هل نمارس نوعا من الرقابة الذاتية تلجم افواهنا من كل اشكال التعبير كتقديم الشكاوى والتحدث إلى وسائل الإعلام ومناقشة القرارات التي تهم المواطن والتي قد تصدر من غير مشاركته، وغير ذلك من الهموم التي قد يعانيها المواطنون البسطاء من مقتضيات العيش الكريم؟ عدم رغبة الفرد في المشاركة بهمومه تعني ادراكه ضمنيا لوجود مناخ عام لا يشجع وربما يعادي فكرة الافصاح والنقاش .. وقد يسوء هذا المناخ اذا كان يعاقب أفراده بالتجاهل والعزل الاجتماعي والاعتقال وتشويه السمعة. واذا طالت فترة هذه الممارسات فإننا بذلك ننشأ لثقافة الخوف في المجتمع ومن يغني خارج السرب فإنه يعامل كأقلية يتم تجاهلها بل واعتبارها فئة ضلت طريقها وأصبحت مصدر تهديد لبقية فئات المجتمع. وحسب نظرية (1993) Noelle-Neumannفإن خوف الافراد من التعبير عن رأيهم لأنهم أقلية يدفعهم إلى التوقف عن التعبير عن رأيهم. والسؤال هنا كيف يمكن ان نزيد الوعي الاجتماعي والسياسي في المجتمع ونشجع المواطن على المساهمة في بناء وطنه اذا لم يكن المناخ العام يتيح له ابداء رأيه حول ممارسات المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. السنا نعول على المواطنين في إدراك وتقييم العمليات الخدمية والاجتماعية والسياسية التي تقدمها لهم الدولة؟ أليس المواطنون هم المنتفع النهائي والهدف النهائي من وجود هذه المؤسسات أصلا؟
وإلى جانب عملية التثقيف التي تقوم بها السلطة في زيادة وعي أفرادها فإن من اهم أدوات النقد الملائمة التي يمكن توظيفها في المجتمع ما يلي: توفير قاعدة من المعلومات والبيانات، يسهل الوصول إليها من غير المرور بإجراءات بيروقراطية عقيمة وتتميز بشفافيتها وتجددها. من الأدوات الأخرى تنويع وسائل الاتصال واستقلاليتها بأجهزتها وإدارتها والتوقف عن ملاحقة الأفراد أو ما يمكن أن نسميه بإعلام المواطن والذي يقوم فيه بممارسة عملية النقد بشكل مستقل في وسائل الاتصال الاجتماعي او في وسائل الاتصال التقليدية ،ومراجعة الأنظمة والقوانين التي قد تحد من عملية التعبير الناقد. فإنه بدون ما سبق من أدوات قد يصبح الناقد أسير صوته، وقد يحجم عن المشاركة في تحسس السلبيات الكامنة في المجتمع، وصمت الناقد أو إحجامه عن المشاركة بفعالية في التنمية الفكرية لا يصب في مصلحة التطوير والتنمية ، لأننا لا نعيش في مجتمع مثالي خالي من الأخطاء والعيوب، ولا يمكن إنكار ان ارتكاب الأخطاء القيادية والإدارية مثلا أمرٌ واقع، إلا أن الصواب يكمن في الاعتراف بهذه الأخطاء في الوقت المناسب وضمان عدم تكرارها ومحاسبة القائمين عليها.
إذاً الفرد الناقد في أي مجتمع هو كناقوس الخطر الذي قد يكشف عن قضايا آنية أو يقوم بالتنبيه إلى قضايا قد تمثل مشاكل حقيقية في المستقبل. ولذا لا بد من توفير الجو النقدي الذي يعمل في إطاره الناقد، بل وتشجيع حركة النقد الاجتماعي والسياسي كونها تمثل ظاهرة صحية وطبيعية، وكجزء مكمل لحركة التنمية والتطوير. فقد تعجز المؤسسات أو المنظمات المختلفة عن إدراك اخطائها ولا ضير في ذلك، وقد يعجز المسئولون كأفراد وجماعات عن إدراك النقص في أساليب إدارتهم وتعاملهم مع المجتمع، وهنا يأتي دور الناقد الذي يقوم بإثارة التساؤلات ، ويمكن للتفكير المنفتح توفير بدائل جديدة ومتعددة لمشاكل المجتمع.