تهدف تقارير التنمية الوطنية والاحصاءات المختلفة، سواء الخاص منها بالتنمية البشرية، أو تلك التي تعني بجوانب بعينها، مثل النمو الإقتصادي، أو الأمن الغذائي، أو العمل أو التمكين أو الفقر أو حقوق المرأة والطفولة وغيرها. ومن خلال قياس وتقييم الواقع، بشكل حيادي منهجي علمي مؤسس، إلى تحديد الأولويات، وسد الثغرات، وتقوية القدرات الوطنية، لذلك كلما كانت تلك التقارير واقعية ودقيقة ومحايدة، شارك في تنفيذها نخبة متخصصة من جهات مختلفة، ووفق الأسس العلمية السليمة، بكل شفافية ووضوح، نتج عنها تحقيق الأهداف التي نفذت من أجلها، أما إذا كانت تهدف إلى تسليط الضوء على الإنجازات والتقدم، وتنتقي منها ما يوافق هذا التوجه؛ فإنها لن تحقق الأهداف الفعلية المفترض أن تكون أُعدت من أجلها، وأهمها تقييم الواقع الفعلي للوصول إلى غدٍ أكثر اشراقا ونموا وتقدما.
كما أن اعتماد جهات رسمية فقط لجمع البيانات وتحليلها وفق ما تراه تلك الجهات، او حتى ما تتمناه، وبالطريقة الحسابية التي تناسبها سيوقعنا في نفس الفخ دوما، وهو تجميل وتلميع الواقع وإبراز وتضخيم الإنجازات وقض الطرف أو إخفاء العثرات والاخفاقات. وكي ندلل على ذلك نأخذ مثالين لنوعية تلك التقارير التي تعرض، ونستعرض ملاحظات محددة عليها، ثم نقترح حلولا عامة لتطوير نوعية التقارير والاحصاءات الوطنية المختلفة، والمثالين هما تقرير التنمية البشرية الوطني 2012، الصادر عن المجلس الأعلى للتخطيط، وتقرير وزارة الزراعة والثروة السمكية لعام 2012م، الصادر بمناسبة يوم النهضة، والذي نشر في جريدة عمان بتاريخ 31 يوليو 2013م، والملاحظات هي:
أشار تقرير التنمية البشرية الوطني 2012 إلى أنه يُقارن جوانب التنمية المختلفة خلال الفترة من 2001- 2010، وهي الفترة التي شملت خطتي التنمية (2001- 2005، 2006-2010)، ولكن في جانب مؤشرات التنمية البشرية فإن التقرير بدأ بالمقارنة بين 1997م، والتي كان ترتيب السلطنة فيها (89 بين دول العالم ومؤشر التنمية هو 0.717)، وأشار بشكل عابر إلى ترتيب السلطنة عام 2001، الذي كان (71، المؤشر هو 0.749)، حيث كانت السلطنة في أدنى مستوى من الترتيب الدولي في هذه الفترة وهي عام 1997م، ثم حين مقارنة السلطنة عام 2001م بعام 2010م، فإن التقرير لم يذكر ترتيب السلطنة في تقرير الأمم المتحدة خلال هذا العام (2010)، ولكنه أشار إلى أنه استخدم طريقة اخرى في حساب التنمية البشرية، حيث ذكر الآتي: ((ووفقا لإستخدام طريقة الحساب الجديدة لدليل التنمية البشرية)).
ومن خلال هذه الطريقة الجديدة، أصبح ترتيب السلطنة هو (53، ومؤشر التنمية هو 0.755) مما يعني تقدم عُمان في التنمية البشرية من الترتيب 71 عام 2001 الى الترتيب 53 عام 2010م، ومؤشر التنمية من 0.749 عام 2001 الى 0.755 عام 2010)، والواقع أن ترتيب السلطنة عام 2010 وفق تقرير الامم المتحدة هو 70 (انظر تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة لعام 2011م، والذي يوضح ترتيب السلطنة لعامي 2010، و2011)، ومؤشر التنمية البشرية لعام 2010 هو 0.704).
ومن خلال العرض السابق يتضح: أن تقرير التنمية البشرية الوطني يؤكد تقدما للسلطنة خلال هذه الفترة وهي 2001-2010، بينما يؤكد تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية تراجعا كبيرا في مؤشر التنمية البشرية من (0.749 عام 2001 الى 0.704 عام 2010م)، كما أنه خلال العامين التاليين (2011-2013) استمرت السلطنة في التراجع في مؤشر وترتيب التنمية البشرية وفق تقارير الامم المتحدة (2011: ترتيب السلطنة 89، ومؤشر التنمية 0.705، 2013: ترتيب السلطنة 84، ومؤشر التنمية 0.730)، أي أن السلطنة خلال الفترة الحالية وبشكل عام تراجعت خلال الفترة الاخيرة (2010-2013) عما كانت عليه قبل عشر سنوات (2001م). وليس كما اظهره تقرير التنمية البشرية الوطني الذي يشير الى تقدم السلطنة خلال نفس الفترة.
أما فيما يختص بتقرير وزارة الزراعة والثروة السمكية 2012م؛ فإن التقرير اختار المقارنة بين عام 2009 (والذي شهد انخفاضا ملحوظا في الإنتاج السمكي والنباتي والحيواني) وعام 2012م، ولا نعلم الأسباب وراء اختيار عام 2009م ومقارنته بعام 2012م، ومن العادة مقارنة عام 2012م، بالعام الذي سبقه، أو خلال خطط خمسية معينة، أو سنوات محددة، مثل خمس أو عشر سنوات سبقت هذا العام والملاحظة المهمة أيضا، أنه ذكر معدلات الإنتاج السمكي التي ارتفعت خلال الفترة من عامي 2009 الى 2012، بينما لم يُشر إلى التقدم في مجال الانتاج النباتي والحيواني بشكل واضح ودقيق. فقد أشار التقرير إلى أن المساحة الكلية للحيازات الزراعية زادت من 241 الف فدان في تعداد 1992-1993 الى 324 الف فدان في تعداد 2004-2005م، ولم يُشر التقرير إلى مدى زيادة هذه المساحة عام 2012م، وهي السنة التي يستعرضها التقرير. والواقع أن المساحة المزروعة لم تتغير منذ عام 1995م وحتى اليوم، كما أنها كانت في الفترة التي يقارن فيها التقرير، وهي في عام 2009م 172 ألف فدان، ووصلت إلى 173 الف فدان عام 2012م، كما أنها قلّت عن عام 2011م، حيث كانت 175 ألف فدان. أما بالنسبة للإنتاج الزراعي فانه قلّ كذلك من 1,387 ألف طن عام 2011م الى 1,247 الف طن عام 2012، بينما لم يُشر التقرير إلى هذا الجانب.
كما أن التقرير لم يُوضح مدى التطور في الإنتاج الحيواني، عدا المقارنة بين 2009 و2012، ولكن الواقع أن الإنتاج الحيواني بالنسبة للحوم الحمراء كان على النحو الآتي: 2010: 24 الف طن، 2011: 24,5 الف طن، 2012: 24,9 الف طن، والألبان على النحو الآتي: 2010: 70 طن، 2011: 70 طن، 2012: 72 طن، لحوم الدواجن: 2010: الف 42 الف طن، 2011: 41,4 الف طن، 2012: 41,8 الف طن. بينما حقق إنتاج البيض ارتفاعا ملحوظا من 183 مليون بيضه عام 2010، الى 236 مليون بيضه عام 2012م. والملاحظ هنا، أن الإنتاج الحيواني – وبشكل عام- لم يحقق زيادة في الإنتاج منذ عام 2010م (عد إنتاج البيض)، وكذلك بالنسبة للإنتاج النباتي أيضا، حيث قل الإنتاج فيه خلال العامين 2011-2012. وبشكل عام فإن مساهمة الزراعة والاسماك في الناتج المحلي الاجمالي للأنشطة غير النفطية انخفضت من 2,2% عام 2001م إلى 1,2% عام 2011م (انظر كتاب الاحصاء السنوي2012 م، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات).
كما أن الإنتاج الزراعي لم يتغير منذ عام 1995، فالإنتاج الزراعي عام 1995 كان 1,182 الف طن، وفي عام 2001م كان 1,277 الف طن، والآن أصبح 1,247 الف طن.
والملاحظ على الأمثلة التي ذكرناها من التقريرين (تقرير التنمية البشرية الوطني 2012، وتقرير وزارة الزراعة والثروة السمكية لعام 2012م)، أن هناك انتقائية في اختيار سنوات المقارنة والأرقام التي يتم عرضها، وتلك التي يتم اغفالها وطريقة الحساب التي يتم تغييرها من حين لأخر، لأثبات تقدما ما.
ولم نقصد من خلال عرضنا السابق، تحليل واقع التنمية البشرية في السلطنة، أو واقع الزراعة والثروة السمكية، فهذا يحتاج إلى مساحة أكبر من التحليل الشامل؛ ولكن قصدنا ذكر بعض الأمثلة والتي خلاصتها: أن التنمية البشرية لا تتم من خلال الأماني والأحلام، ولا من خلال تجميل الأرقام، فنحن منذ أكثر من خمسة عشر عاما لم نحقق تقدما يذكر في مؤشر التنمية البشرية، كما أن كثيرا من دول العالم سبقتنا في هذا المجال؛ وذلك بسبب توقفنا أو بطئ تقدمنا، بينما حققت الدول الأخرى طفرات حقيقية ملموسة في مجالات التنمية المختلفة، وكذلك بالنسبة لقطاع الزراعة والثروة السمكية والحيوانية؛ فالتقدم في هذه المجالات محدود جدا ويكاد يكون متوقفا في بعض الجوانب، بينما يشهد العالم طفرات هائلة في مجالات زيادة الإنتاج ونوعيته، وحفظ واستغلال الموارد المائية المحدودة، وتطوير تقنيات الانتاج، والاستثمار الواعي للمساحات الزراعية وزيادة طاقة الإنتاج فيها للطلب العالمي والمحلي المتزايد للغذاء، ولتحقيق الأمن الغذائي والمائي وللمساهمة الفاعلة في تعزيز الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وتوفير فرص العمل.
وهنا نود التأكيد مرة أخرى، أن اعداد التقارير الوطنية يجب أن يصب في إتجاه تحديد نقاط الضعف والقوة، وسد الثغرات وتقوية القدرات، لا إبراز الإنجازات، واخفاء الاخفاقات، فمن الطبيعي على أي جهة تعمل بجد من أجل التنمية والتقدم، ووفق منهج سليم ورؤية واضحة، أن تواجهها بعض العقبات والصعوبات والتحديات؛ ولكن ابراز جميع تلك النقاط في التقارير ووضع الحلول لتجاوز السلبيات وفق برامج وخطط ورؤى واضحة، هو الذي سيؤدي في النهاية إلى تجاوز العقبات، وتحقيق التنمية الحقيقة التي تسير إلى الأمام بخطى ثابتة مدروسة. كما أن هذا الجهد مهما قامت به الجهات الرسمية المختصة بكل حيادية وشفافية، فإنه قد يواجه بعض الإخفاقات في بعض الجوانب؛ لذا لا بد أن تشاركها فيه مؤسسات المجتمع المدني، وذلك بإنشاء مراكز الدراسات والأبحاث والاحصاءات الاستراتيجية المدنية التي تعتمد عليها كثير من الدول المتقدمة في رسم سياساتها ووضع استراتيجياتها وخططها، وتقيّم الوضع العام بشكل محايد في جميع الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وتشارك في وضع التوصيات والتخطيط وصنع القرار. وبما أننا نفتقد لمثل هذه المراكز، فإنه لا بد من التفكير في انشاءها في القريب العاجل.
- المصادر: تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة: 1990-2013م، تقريري التنمية البشرية الوطنية 2002، 2012، كتب الاحصاء السنوي للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات: 1990-2012، التعداد الزراعي: 1992-1993، التعداد الزراعي 2004-2005، كتب الاحصاء الزراعي والسمكي 1990-2012م.