إذا كانت استطلاعات الرأي العام بارومتر الديمقراطية؛ فإن نتائجها هي البوصلة التي تحدد لصانع القرار قواعد اختياره، وتعد استطلاعات الرأي – في كثير من الدول المتقدمة – واجهة أساسية وأداة هامة من أدوات الإصلاح الحقيقي في مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فلم يعد الأمر – كالسابق – مقتصراً على البرامج التلفزيونية والإذاعية لاستقاء أراء الجمهور، بل امتد ليشمل مراكز متخصصة لاستطلاع الرأي قائمة على مناهج علمية رصينة تلتزم الشفافية والمصداقية في عملها.
مازلت السلطنة – كغيرها من دول المنطقة العربية – تعاني من ندرة وجود مراكز متخصصة لعمل استطلاعات الرأي العام مثل معهد “جالوب” لاستطلاعات الرأي الذي اشتهر بدقة نتائجه، وإن بدأت محاولات عديدة في السنوات الأخيرة لتطوير هذه الأداة الهامة إلا أنها تبقى – في معظمها- اجتهادات قائمة تتم من خلال بعض مؤسسات البحوث والاستشارات من جهة، أو تعد من قبل باحثين مستقلين على مواقع التواصل الاجتماعي من جهة أخرى.
ما دفعني إلى كتابة هذا الموضوع هي حالة الشد والجذب التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي بعد طرح قضايا محلية أو دولية تمس الوطن والمواطن في المقام الأول – آخرها توجه الحكومة لرفع الدعم عن المحروقات، ورفض السلطنة الانضمام إلى الاتحاد الخليجي.
عندما اعتزمت الحكومة اعادة النظر في السعر المحلي للوقود في ظل اتساع نطاق تهريب الديزل خارج السلطنة، تفاعل مجلس الشورى مع الأمر حيث أعلنت اللجنة الاقتصادية بالمجلس عدم تأييدها لرفع الدعم الحكومي عن المحروقات لما سيترتب عليه من أثار على المواطن، وتأتي هنا أهمية استطلاع الرأي العام الذي يدعم تلك التوجهات أم لا ويوفر نتائج استرشادية مهمة لصناع القرار قائمة على حقائق واضحة لجميع الأطراف.
وقد جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في يونيو من هذا العام حول اقتصاد السلطنة: أن على عُمان الحد من نمو الإنفاق إضافة إلى تعزيز إيراداتها غير النفطية في المدى المتوسط لكي يبقى وضعها المالي مستداماً ، الأمر الذي حدى بالحكومة هذا العام إلى تبني العديد من الخطط الإصلاحية مثل التوجه نحو خصخصة الشركات الحكومية، والتخطيط لانشاء المدينة الطبية بصلالة لتعزيز قطاع السياحة العلاجية، والمضي في انشاء مدينة الدقم الصناعية، كما امتدت الاصلاحات الاقتصادية لتشمل الرواتب ونظام التقاعد في السلطنة.
إن مثل هذه التحولات الهامة في الاقتصاد المحلي بحاجة إلى دراسات تحليلية قائمة على الاحصاءات واستطلاعات الرأي لتحقيق الفائدة القصوى منها.كما أن غياب استطلاعات الرأي العام في ظل هذه التغيرات الهامة يخلق بيئة خصبة لنمو الإشاعات والمعلومات المغلوطة، أضف إلى ذلك النمو المتزايد لأنشطة المراكز العالمية لاستقراء ما يفكر به المواطن في كل دولة على حدة في مختلف القضايا دون وجود تنافسية حقيقية من قبل المؤسسات المحلية مما يفتح المجال أمام استطلاعات رأي قد تكون موجهة من جهة أو غير دقيقة من جهة أخرى.
نعم هناك اختلافات في مناهج الاستطلاعات وطرق قياسها ، وحتى في موضوعيتها ، ويمكننا تجاوز ذلك عن طريق خلق ثقافة استطلاع الرأي العام في مجتمعنا المحلي ودفع أفراده للمشاركة من خلال التعرف على أرائه فى تحديد الأولويات، وفى اقتراح الحلول ، وهو الدور المنوط على الإعلام بمؤسساته المختلفة أن يقوم به في الفترة القادمة تزامناً مع تفعيل مركز التدريب الإعلامي التابع لوزراة الإعلام، والذي نأمل أن يكون لدراسات الرأي العام نصيباً من برامجه، مستعيناً كذلك بتجارب السلطنة الناجحة في مجال استخدام برامج الفرز الألي للأرقام والبيانات، ونشرها في زمن قياسي كالبرنامج المستخدم من قبل وزارة الداخلية في انتخابات المجلس البلدي عام 2012م.
لذا نحن بحاجة إلى بناء ثقافة مجتمعية تتقبَّل فكرة استطلاع الرأي، وتشجع الأفراد على المشاركة الإيجابية في كافة القضايا المطروحة، والعمل على مزيد من التواصل بين المجتمع والحكومة في ظل التغيرات المتسارعة التي تشهدها المنطقة بصورة عامة، ولا يتأتى ذلك إلا بمولد مراكز للاستطلاع والبحث كالمراكز التي تصلنا نتائج دراساتها بصورة مستمرة ” جالوب” و “بيو” و “يوجوف سراج “.
نحن بحاجة إلى “جالوب” عماني تكون رسالته الأساسية النهوض باستطلاعات وبحوث الرأي العام المحلية لتكون العدسات التي يرى صناع السياسات والقرارات من خلالها كل شيء. نحن بحاجة إلى “جالوب” متخصص في عمل دراسات مسحية واستطلاعات رأي قائمة على ميثاق أخلاقي ومهني رصين لتقييم وتحليل الرأي العام.
جالوب العماني – الذي نتمناه – مثالا للاستقلالية لا تفرض عليه قيود تحد من نشاطاته أو تؤثر على انتاجه المعرفي وأن يكون نموذجاً للشفافية والتواصل بين المسؤول والمواطن في جميع المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تهم الوطن والمواطن .