في مقدمة سابقة لهذه السلسلة من المقالات تحدثنا عن التنمية والتقدم في السلطنة، وخلاصة قولنا أن التنمية الحقيقية وفق أسس علمية ثابتة ومعروفة ومقاسة دوليا، لا تأتي بالأحلام والأمنيات؛ ولكن وفق معايير محددة تُوضع وتُقاس في شتى المجالات السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية والبيئية والاقتصادية وغيرها، وحتى في مجال الحريات وحقوق الإنسان؛ فقد بدأت العديد من المنظمات والهيئات المعنية بهذه المجالات في وضع مقاييس محددة لمدى التقدم فيها، وهنا في هذا المقال، نتحدث عن واقع الأداء الإداري والمالي في السلطنة، وما يتعلق منها بقضايا الفساد، ثم نقترح بعض النقاط العامة لإمكانية تطويره وتحويره؛ ليقوم بدوره الفاعل في العمل والبناء وفق الأسس السليمة المُتعارف عليها بين الشعوب والدول الأكثر تقدما.
فبالنسبة للأداء الاداري العام للدولة، نلاحظ ضبابية وعدم وضوح الرؤية في طريقة الإدارة وأداء العمل بالنسبة لمؤسسات الدولة الرئيسية، كما أنها لا تخضع لهيكل اداري متماسك محدد ومنسجم ومتناسق، وبالإضافة إلى ذلك، يوجد العديد من مؤسسات الدولة المتشابهة في الأعمال والتخصصات، حيث توجد العديد من المؤسسات الرقابية والبيئية والاجتماعية والثقافية التي قد تتشابك الأعمال فيها، بالإضافة إلى أعداد كبيرة جدا من الشركات الحكومية التي تصل إلى اكثر من 56 شركة، حيث لا يوجد وضوح في آلية عملها ومراقبتها وتقييم آداءها ومحاسبتها. ولكي نضرب أمثلة على مثل هذه الاشكاليات؛ فإن مجلس الوزراء هو المعنّي بخطط العمل للوزارات ومتابعتها وتقييم برامجها، إلا أن كل ذلك غير واضح لدى العديد، فكيف يتم تقييم الوزارات والهيئات الحكومية ومدى التزامها ببرامجها وعملها، ومحاسبة جوانب التقصير فيها، حيث توجد وزارات تمر عليها الأعوام العديدة والسنين المديدة، وهي لا تقدم أي خدمات تُذكر، ولم تُحدث أية نقلة نوعية حقيقية في عملها سوى الجوانب الروتينية المعتادة، ولم يحدث أن تم محاسبتها ومسائلتها.
كما كيف يتم تقييم الشركات الخاصة وتحديد الجهات التي تختص بمتابعتها؟، حيث يوجد لدينا شركات خاصة بالسياحة تُدار من قبل مسؤولين في النفط والغاز، والأمثلة على ذلك كثير، وكيف يتم اختيار المسؤولين لهذه الوزارات؟، وما هي المعايير الفنية والعلمية والخبرات والكفاءات والقدرات التي تؤهل هؤلاء الاشخاص، لتعيينهم في مناصب قيادية في البلاد؟. إذ يوجد العديد من هؤلاء المسؤولين في الوزارات والهيئات والشركات الحكومية ممن ليس لديهم أية امكانات فنية وعلمية وخبرات وقدرات، ومع ذلك فإنهم لا يزالون يشغلون مناصب هامة وتخصصية، وتتطلب وجود كفاءات وطنية شابة قادرة على إحداث التغيير والتقدم المطلوب، هذا بالإضافة الى وجود كفاءات وطنية لديها الامكانات والقدرات والخبرات، إلا أنها لم يُتاح لها الفرصة للمساهمة الفاعلة والعمل والبناء. ورغم أن أسس اختيار القيادات الوطنية للمناصب القيادية لا تقوم وفق أسس مهنية علمية واضحة؛ إلا أنه حتى أسس التقييم والتحفيز للمناصب المتوسطة في جهاز الدولة لا تقوم على أسس علمية أيضا؛ فالاختيار لا يتم غالبا للأكفاء؛ بل هناك عوامل أخرى غير دقيقة وغير عادلة يتم بموجبها اختيار الاشخاص لهذه المناصب أو ترقيتهم إلى مناصب أفضل، ونادرا ما نرى تقدم موظفي أي مؤسسة من المؤسسات وفق تدرج العمل من المناصب البسيطة والمتوسطة إلى الوصول إلى أعلى سلم العمل في تلك المؤسسات، وغالبا ما يُجلب موظفين لهذه المناصب من خارج المؤسسة؛ ليصبحوا هم المسؤولين عنها رغم عدم خبرتهم وعلاقتهم وتخصصهم بها.
وفي الجانب المالي، فإن أهم المعضلات التي تواجه الدولة هو غياب الشفافية في التعريف بالدخل العام للدولة بجميع تفاصيله وفيما يُصرف بالتفصيل، ونحن نعلم جميعا أن معظم دخل البلاد من النفط والغاز (85%)، ولكن ما هي العوائد السنوية منه بالتحديد؟، وكيف يتم صرف هذه المبالغ على جميع الجهات؟، وهل تتناسب المصروفات مع الإنتاج الخاص بتلك المؤسسات؟، كما أنه لا تزال الشركات التي تعمل في مجال النفط يتم التعاقد معها وفق نسب خاصة لتلك الشركات تصل الى 40% تقريبا من الإنتاج، وهذه مبالغ كبيرة جدا مقارنة بأسعار النفط المرتفعة والكميات الكبيرة للإنتاج، كما ان المؤسسات الاقتصادية التي تعمل على تنمية القطاع الاقتصادي غالبا ما تتحدث عن تنويع مصادر الدخل، ومع ذلك فإنه خلال الأربعون عاما الماضية لم تتغير نسبة الاعتماد على النفط والغاز عن 84-86%، ورغم المبالغ الهائلة التي تُصرف على القطاعات الأخرى مثل الزراعة والأسماك والسياحة والصناعة وغيرها؛ إلا أن كل ذلك ليس له دور يُذكر في تعزيز جوانب الاقتصاد الوطني وتنويعه، كما أن الشركات الحكومية التي تعمل في المجال الاقتصادي، والتي يُصرف عليها أيضا عشرات ومئات الملايين، لم تُحدث أي تقدم يُذكر في مجال التنويع الاقتصادي. والجانب الآخر المهم هو انتشار الفساد في القطاعات النفطية وغير النفطية من اختلاسات ورشاوي ومشاريع غير مجدية اقتصاديا ومشاريع وهمية ومحسوبيات ومنح وغيرها، وهي ظاهرة تحتاج إلى مزيد من التركيز في مسبباتها وأثرها على مقدرات البلاد وموارده الحيوية وطاقاته، والمحاسبة والرقابة فيها والتدقيق يجب ألا يشمل جانبا دون آخر أو مسؤولا دون آخر؛ بل من المفترض أن تشمل كل أنحاء البلاد وكل عمل وكل مشروع وكل شخص مهما كانت مكانته أو وظيفته.
ولعل أهم الجوانب التي نقترحها في هذا الإطار، إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بجميع مؤسساته من وزارات وهيئات وشركات، بحيث يتناسب مع عدد وعمل هذه المؤسسات، ويتناسق مع الامكانيات الفعلية للبلاد واحتياجاتها، وينبغي أن يشمل ذلك تعيين مجلس للوزراء، ورؤساء للهيئات والشركات من الكفاءات الوطنية الشابة ذات الخبرة والقدرة والتخصص في مجال العمل لإحداث نقلة نوعية، وإنتاج مبدع ومتقدم، بحيث يتم اختيار هذه الكفاءات بكل شفافية وحيادية، وبمعايير علمية فنية بحته بالإضافة إلى تطوير برنامج واضح لتقييم أداء المسؤولين في تلك المؤسسات ومراقبة العمل فيها، ومكافئة المجيدين ومحاسبة المقصرين، وفي الجوانب المالية لابد من الشفافية في تحديد وعرض الإمكانات المادية للبلاد بكل شفافية وطرق صرفها بكل وضوح، وتقييم أداء المؤسسات الاقتصادية وتأميم قطاع النفط، ووضع برامج عملية حقيقية لتحقيق التنويع الاقتصادي خاصة في مجال الأمن الغذائي والسياحة والتصنيع وغيرها، ووضع آليات محددة لاختيار الأشخاص للعمل في مثل هذه المؤسسات يتصفون بالكفاءة والأمانة بالإضافة إلى وضع آليات صارمة للمتابعة والرقابة والتقييم.