يأتي كتاب (الإنسان من أجل ذاته) لعالم النفس والفيلسوف “إريك فروم” ليجسد نظرة فروم الخاصة في فلسفة الأخلاق الإنسانية، ويحتوي الكتاب على خمسة فصول أساسية. يبدأ الكاتب في بداية الفصل الأول، بتوضيح (المشكلة) التي بنى عليها فصول هذا الكتاب.
حيث تطرق فيه بالحديث عن الثقافة الغربية وما تميزت به في القرون القليلة الماضية بروح الفخر والتفاؤل بقدرة العقل لفهم الطبيعة والسيطرة عليها، وتحقيق سعادة أكبر عدد ممكن من الناس، ومع ذلك فإن الإنسان الحديث رغم تمكنه من خلق أدوات حديثة لتأمين حياته المادية، وقدرته على توظيف الطبيعة في خدمته وسيادته عليها، إلا أنه مازال يشعر بالقلق، وحيرته تزداد وكأن ما يفعله مجرد عبث لا معنى له، وفقدَ الغاية من وجوده، فبينما أصبح الإنسان سيد الطبيعة، غدا عبد الآلة التي بنتها يداه، وأفضى ذلك إلى وجود أزمة إنسانية معاصرة حقيقية على مستوى الحالة الوجودية.
وجاءت أفكار التنوير لتخبر الإنسان بأنه قادر أن يثق بعقله في سن المعايير الأخلاقية الصحيحة دون الحاجة إلى الوحي أو السلطة الدينية (سلطة الكنيسة) لمعرفة الخير والشر. والنتيجة هي قبول الموقف النسبوي ضد المطلقية.
فالاولى: ( المطلقية ) يرى أصحابها أن المعايير الأخلاقية لكي تكون صحيحة يجب أن تكون ” مطلقة”، ومن ثم فإن قضاياها الأخلاقية صحيحة وقطعية وأبدية، لا تسمح بإعادة النظر إليها مهما مر من الزمن. وهي – الأخلاق المطلقة – سبب الكثير من الحروب والنزعات التدميرية ، وأساس ظهور الثقافة الأصولية والثقافة الإمبريالية. ومثال على الثقافة الإمبريالية :الإيمان المطلق بتفوق جنس على آخر مما يبرر الاحتلال والاستغلال والإرهاب.
وعلى النقيض من ( المطلقية ) ظهرت ” النسبوية “، التي تزعم أنه لا وجود لمعايير صحيحة مستقلة تحدد ما الذي يجعل الاعتقاد عقليا، وليس هناك سبب موضوعي لإيثار أية مجموعة من المعايير. فكل شئ نسبي، فما تعتقده أنه خير لك فهو ليس إلزاميا للآخر أن يعتقد به، فقد يكون شرا له وما تراه واجبا في ثقافتك ليس بالضرورة أن يكون واجبا في ثقافتي. فليس هناك مجالا للتقاطع تتلاقى فيه الاتجاهات المختلفة.
ولكن النسبوية تناقض ذاتها، فعلى سبيل المثال ما قاله ميشيل فوكو والذي كان ضد الشمولية الأخلاقية ” إن البحث عن شكل أخلاقي من شأنه أن يكون مقبولا من كل شخص بمعنى يخضع له كل شخص يبدو كارثيا ” ولكنه حينما جوبه بضرورة وجود معايير عامة تبنى عليها حقوق الإنسان ، فقد وقف إلى جانب حقوق الإنسان.
وفي مواجهة *المطلقية* التي تمثلها الإمبريالية والأصولية و *النسبوية* التي تؤدي إلى الانتهازية وعدم الاكتراث ، ظهر في فلسفة الأخلاق تيار( الشمولية النسبية ) والتي تبحث في المعايير التي تتخطى الثقافات الخاصة وتتعامل جوهريا مع الحياة وسلامة كل البشر.
والمثال الأبرز على الشمولية النسبية هي ( حقوق الانسان) فالمعايير التي تبنى عليها حقوق الانسان شمولية مثل حقوق السلامة الشخصية ، والحريات المدنية، وحق الطفل والمرأة وغيرها ،لولكنها خاضعة للمراجعة والتنقيح عبر التاريخ.
ويعرف فروم فلسفة الأخلاق الشاملة بأنها “معايير السلوك التي هدفها نمو الإنسان وتفتحه”. ولكن لكي يعرف الإنسان ما هو جيد أو ردئ بالنسبة له، عليه أن يعرف طبيعة الإنسان، ففلسفة الأخلاق الإنسانية مبنية على معرفة طبيعة الإنسان.
لقد كان مأمولا من علم النفس الحديث – ولاسيما التحليل النفسي – أن يكون دافعا من أقوى الدوافع إلى تطور فلسفة الأخلاق الإنسانية، لكن يأسف فروم على التحليل النفسي قد اكتفى بتوضيح أن الاحكام والمعايير الأخلاقية إنما هي تعبيرات معقلنة عن الرغبات والمخاوف غير العقلية واللاشعورية على الأغلب، لذلك ليس لها ادعاء بالصحة الموضوعية .وبالتالي لم يزد معرفتنا بمسألة كيف ينبغي أن يعيش الإنسان، وماذا عليه أن يفعل؟ وخاصة أن البشر يشتركون جميعا في رغبتهم بمعرفة معنى الحياة وغايتها والهدف من وجودهم، والمعايير التي ينبغي أن يعيشوا عليها.
كما نرى في هذا الفصل، يعد إريك فروم من المناصرين لفكرة ربط علم النفس بمشكلات الفلسفة وخاصة فلسفة الأخلاق، فيقول ” لقد كتبت هذا الكتاب بقصد أن أؤكد على صحة فلسفة الأخلاق الإنسانية، وإن أظهر أن معرفتنا بالطبيعة الإنسانية لا تفضي إلى نسبوية الأخلاقية بل على العكس، إلى الاقتناع بأن مصادر المعايير بالنسبة إلى السلوك الأخلاقي موجودة في طبيعة الإنسان ذاتها، وأن المعايير الأخلاقية قائمة على الخصائص الصميمية في الإنسان، وأن انتهاكها يؤدي إلى التحطم الانفعالي والفعلي.