في المقالة الأولى “الفلسفة والسياسة” من كتابه “بحوث غير مألوفة”؛ يعقد براتراند راسل مقارنة بين نمطين من التفكير الفلسفي هما: النمط العقائدي المثالي، والذي كان سائدا في المثالية الألمانية والماركسية الروسية والفاشية الأوروبية، والفيلسوف الأبرز في هذا النمط هو الألماني فريدريك هيجل، والنمط الثاني هو الفلسفة الليبرالية التجريبية السائدة بداية في بريطانيا، ومنها انتشرت في أمريكا ولاحقا الدول الغربية عموما، والفيلسوف الأبرز في هذا النمط هو الإنجليزي جون لوك. وينتصر راسل في نهاية المطاف لليبرالية التجريبية معتبرا أن الفلسفة التي يمكن أن تنتج سياسة تحقق أكبر قدر من السعادة والاستقرار هي تجريبية جون لوك، مع ضرورة الالتفات إلى أهمية أن تخلق هذه الفلسفة عقائد حميمية في القلب تعوض النقص الروحي الناجم من رفض المثالية الهيجلية.
تعود مقالات راسل في هذا الكتاب الذي نشرته لأول مرة باللغة العربية دار التكوين في 2009 إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي كان آخذا في التأجج، وشبح الحرب العالمية الثالثة التي تهدد الجنس البشري بأكمله كان حاضرا بقوة على المستوى العالمي. ومنذ ذلك الوقت، تغيرت أشياء كثيرة جدا على الصعيد العالمي؛ فالحروب الاستباقية الصغيرة أصبحت النمط الغالب في الصراع بين مختلف الأطراف، وأصبحت حربا نووية شاملة في المستقبل أقل احتمالا مما كان في منتصف القرن السابق. ومع انتصار النموذج الليبرالي الرأسمالي في أغلب دول العالم تقريبا، والاقتراب البطيء والتدريجي مما يشبه الحكومة العالمية، وظهور صراعات من نوع آخر؛ ليس بين جيوش دول؛ وإنما بين جيوش وجماعات متمردة، فإن هاجس التنافس بين فلسفة هيجل وفلسفة لوك والذي تحدث عنه راسل، لا يرد بقوة في تحديد أي فلسفة يمكن أن تمثل القاعدة النظرية لنموذج سياسي معين في الحكم، وعوضا عن ذلك فإن تدافعا آخر سيصنع الحراك الاجتماعي، والذي سيحدد أي فلسفة ممكنة للسياسة اليوم وفي منطقتنا على وجه التحديد.
في منطقة ملتهبة كمنطقتنا، والتي أصبحت اليوم الساحة الرئيسية للصراعات الدولية، يبدو أننا بحاجة ماسة أكثر من أي فترة ماضية إلى ردم الهوة الواسعة بين الفلسفة والسياسة بما يصنع تجربة فريدة خاصة بنا، ويمكن الانطلاق منها نحو إعادة إنتاج نموذج سياسي يعالج هذا الالتهاب الشديد، والذي يحرمنا من الاستثمار الفعال لتاريخنا العريق، وإمكانياتنا الهائلة والتقدم المعاصر. استوعبت هذه المنطقة في القديم أنظمة أفكار قريبة من تلك التي ينتهي إليها هيجل من قواعد كلية حاكمة على حركة التاريخ، وأخرى قريبة من تلك التي أسس لها لوك من تجريبية تصنع المعرفة التي نتصل من خلالها بالواقع. فالإنسان لدينا عنده الاستعداد النفسي لهضم كليات مثالية غير منفصلة عن الواقع المتغير. وما يحتاجه فعلا أن يكون هناك مستوى نظري يدمج كليات التاريخ الدينية والقومية مع نسبيات الحداثة؛ كل ذلك بما يعزز الصلات بين الممارسة السياسية والخلفيات الفلسفية؛ لفهم الإنسان والمجتمع والطبيعة.
إن فلسفة قادرة أن تمد الجسور باتجاه السياسة؛ يجب أن تتميز بثلاثة ميزات أساسية: الأولى: أن تجعل الفرد أكثر استعدادا وقدرة على الوعي بذاته وموقعه وغايته. والثانية: أن تعالج نموذجا يصهر فيه الفرد والجماعة، بحيث لا يطغى أحدها على الآخر. والثالثة: أن تقدم حلولا قابلة للتطبيق لمشاكل الإنسان المزمنة في هذه المنطقة. وأن سياسة يمكن أن تحقق لنا استقرارا ونموا وإنتاجا حضاريا، يجب أن يكون لها أساسا فلسفيا سليما ومتماسكا. ولا يخفى هنا أن البناء الفلسفي هو الأساس الذي يمكن أن ينتج سياسة عملية تحقق لنا المطلوب، ولا ريب أن الفلسفة لوحدها لا تصنع شيئا؛ إذ أن ترجمتها إلى مشاريع وأفكار حية هو الكفيل بتحقيق الممارسات السياسية المأمولة.
قبل الحديث عن الفلسفة، من المهم أن نعيد تعريفنا لها بحيث نستطيع أن نتخيل الصعوبات التي تحول دون توليد نموذج سياسي مبني على أساس فلسفي في المنطقة العربية. فيجب أن نعترف أن الجهود الفلسفية في المنطقة العربية لم تنتج قليلا أو كثيرا في تحريك الواقع وخلخلته. ويمكن أن نوجز هذه الصعوبات في ثلاثة نقاط أساسية: الأولى أن هذه الفلسفة تولد موجّهة للنخبة، فهي لا تصطبغ بصبغة جماهيرية. بمعنى آخر؛ هي غير قابلة لأن تنتج مشاريع وفعاليات للشارع؛ فالفلسفة منفصلة إلى حد كبير عن الشارع، وهي ليست حتى للسلطة؛ بحيث أنه حتى نموذج التغيير الهابط من الأعلى إلى الأسفل هو غير وارد. فالجدل الفلسفي العربي من جهة ما هو متواضع، ومن جهة أخرى يعيش في قوقعته الأكاديمية والنخبوية. الصعوبة الثانية هي أن الفلسفة لدينا – بحراكها وفعالياتها- أداة ليست لإحداث التغيير الشامل؛ بل للانتصار على الخصم والحصول على المكاسب، فالجزء الأكبر من الفلسفة العربية المعاصرة هي إما لإثبات الدين أو لنفيه، وإما لتعزيز الشعور القومي أو للحد منه. فهي فلسفة لا تخرج عن العالم المثالي سلبا أو إيجابا، وهناك قدر ضئيل جدا من الفلسفة الموجهة للإنسان ليكتشف نفسه. والصعوبة الثالثة هي في فلسفة التبرير والتخدير التي تؤدي عكس ما هو متوقع ومطلوب من الفلسفة؛ التبرير للواقع والتخدير للوعي. وهذه فلسفة تسبح مع تيار المجتمع تبرر له الوضع الراهن وتوهمه بالتفوق والقوة.
وهنا أؤكد أن أي تعريف للفلسفة يجب أن يجعل هذه الصعوبات والتحديات ضمن أولويات الممارِس لها. لأن الجزء الأكبر من هذه الصعوبات قادم من الدائرة الضيقة التي نضع الفلسفة فيها، بحيث إذا قيل لشخص ذو تعليم متوسط: ما هي الفلسفة؟؛ فالأرجح أنه لن يخرجها عن إطار بعض أقسام الجامعة والمكتب الذي يجلس عليه المتفلسف ليكتب. ولن يخطر في بال أحد أن خطيب الجمعة يمارس الفلسفة، والصحفي يمارس الفلسفة، وكذلك بالنسبة للمحامي والمعلم والفنان والسياسي من باب أولى. يجب أن يخرج تعريف الفلسفة من إطاره التقليدي الذي يحشر الفلسفة في المقدمات النظرية للمعرفة والوجود والعلم، بحيث تتوسع وتتمدد لتشمل المحاولات الفكرية الممنهجة والمنظمة لفهم الواقع وتغييره. فالتربية والوعظ والنقد الاجتماعي والإدارة والقضاء والممارسة السياسية؛ كل هذه النشاطات البشرية تنطوي على فعل فلسفي. وقد يُظَن أن هذا التوسع سيجعل من المفهوم مائعا ضبابيا، والحقيقة أنه سيكون أكثر قربا واحتكاكا بالفئات الناشطة في الواقع، بحيث عندما نتحدث لاحقا عن فلسفة تنتج سياسة فعّالة؛ فسيكون الكل على دراية بهذه الفلسفة وماهيتها التي تتوزّع وتدخل في حقول ومجالات كثيرة.
ليس من المهم أن يكون هناك برجا يعيش فيه الفيلسوف ويصدر منه الأحكام والتقييمات ويقدم الترجيحات والمقترحات، فالمهم هو أن يكون كل من يمارس عملا ما ويتعاطى مهنة معينة؛ أن يفكر فلسفيا وهو يقوم بمهمته. وعلى ذلك فتعريف التفكير الفلسفي أهم من تعريف الفلسفة، ذلك لأن من يفكر فلسفيا هو يمارس الفلسفة في نفس الوقت، ولكي يفعل ذلك فيجب أن يستوعب مجموعة من الشروط التي بدونها فإنه لا يفكر فلسفيا، وهذه الشروط هي: أن يستطيع أن يلاحظ نفسه وهو يفكر؛ فهل هو حر تماما وهو يفكر؟ وهل هناك مقدمات تسيطر على قراءته للواقع؟ وهل لديه اطمئنان لهذه المقدمات؟ وهل هو مستعجل في استنتاجاته وأحكامه أم متأني؟ وهل هو يسرف في التجريد أو التعميم لدرجة إغفال التفاصيل المهمة؟ إن قدرة الإنسان على ملاحظة نفسه، وهو يتناول مختلف المفاهيم والمتغيرات والمشاهدات يعني أنه يعي بأنه واع، فهو بذلك يفكر في التفكير نفسه. وشخص كهذا أقدر على التخلص من الضعف والقراءات الهزيلة للواقع المتشابك. الشرط الثاني أن يمتلك معايير سليمة وهو يزن الآراء والأفكار، وهذه المعايير يتم اكتسابها في الغالب من التخصص، أي من الاجتهاد والصبر والاطلاع والدراسة المتعمقة للحقل الذي يعمل عليه. الشرط الثالث أن ينتهي التفكير الفلسفي بمجموعة من القيم الملزمة للشخص والتي ستصبح جزء من رسالته في الحياة، فلا يكون ما يفعله عبثا أو يضطر أن ينافق ويجامل على حساب القيم التي توصل إليها.
إن القيم التي يلتزم بها الإنسان كنتاج من تفكيره الفلسفي هي التي تفتح الطريق للفلسفة لتتحول إلى مشروع عملي يغير الواقع. فمسؤولية التغيير ستكون نتيجة طبيعية للتفكير الفلسفي، ويصبح كل صاحب مهنة قادر على إنتاج قيمه التي تصنع شخصيته المميزة له، ومن المشاركة في هذه القيم وتبادلها وتداولها يولد المشروع الفلسفي؛ ليس كمشروع تنظيري صرف على غرار مشاريع المفكرين الكونيين التي تظل خاصة بمن يفهم لغتهم، بل كممارسة عملية جماعية لمجموعة من القيم الإنسانية التي يتوصل إليها الأفراد كنتيجة لحرية التفكير الفلسفي المنهجي والمنظم. فمثلا؛ الاحتجاج السلمي على الاعتقال التعسفي الذي تقوم به السلطة هو نوع من الإلتزام النابع من تجربة طويلة من التفكير الفلسفي المنظم. وبالمثل فإن تحوّل الكتابة الصحفية إلى ممارسة احترافية لقضايا وهموم الشارع؛ هو مثال آخر على مشروع فلسفي يسهم في تغيير الواقع إلى الأفضل. تتحوّل الفلسفة بذلك إلى خبز يأكله الجميع بشكل يومي.
تهيئ الفلسفة الأجواء والمناخ للفرد لكي يرتقي في وعيه عن نفسه وما حوله، وهي إذا لم تفعل ذلك فلا طائل منها. ذلك أن الفلسفة في تعريفها التقليدي وهو حب الحكمة؛ تتناول بالدرجة الأولى ما الذي لا يعرفه الإنسان، وما إن يفكر في ذلك ويجمع الشواهد، حتى يبدأ في إعادة تقييم وتقويم ذاته وموقعه. ما يقوم به الإنسان فعلا عندما يخرج من دائرة التقليد هو أنه يعتمد على نفسه أكثر في فهم العالم المحيط به، ويشعر بخطورة المهمة التي يقوم بها والمسؤولية التي تترتب عليها، وهذا ما يدفعه ليكون أكثر حذرا ويحاول أن يبحث عمن يشبهه في الهمّ أو هو يشبه من. وعندما يبحث عمّن يشبهه؛ فإنه يقرأ ليتأكد أن موقفه قوي، وتكون لديه بضاعة ويريد لها سوقا، فهو سيكتب وينشر ليحقق صيتا ومجدا بمد الجسور هنا وهناك، أما عندما يبحث “هو يشبه من”؛ فإنه يقرأ ليعرف نفسه، فهو يبحث عن البضاعة، ويميل ليكون صامتا، وإذا كتب فيكتب باسم مستعار أو يكتب في أواخر عمره، ويميل للزهد ويتصوف حتى في أفكاره. وبين هذين الدافعين يتردد الشخص المكتفي بذكائه.
الفلسفة تمدّ من يتصل بها بشبكة من الآراء والأفكار والتصوّرات التي يستطيع الفرد من خلالها الانطلاق نحو فهم هذا الوجود، وهو في ذلك شأنه شأن كل من يبدأ في حقل جديد؛ إذ يبدأ مقلّدا ومتعثرا وبطيئا، ولكن تختلف الفلسفة عن الحقول الأخرى كالعلم والدين والتاريخ في أنها تكشف للإنسان في كل مرة حقيقة معينة عن نفسه وعن الآخر، فهو إذا كان مقلدا فيها فإنه يقلد عن وعي، ويستطيع أن يقدّر مسارا فيها أو مسارات يمكن أن يسلكها كلما تقدم فيها أكثر. إن الفلسفة يجب أن تعرف الإنسان بذاته، وتعينه كي يزيل المغبشات التي تراكمت عليه دون وعيه، فتحرره من الوعي الزائف الذي يظهر في صورة أيديولوجيا تارة، وفي تارة أخرى في صورة استلاب أو اغتراب تحت وطأة المطلقات التي يسيطر بها المجتمع على الفرد، فهي تحرره من كل ذلك، وفي نفس الوقت يكتسب وبشكل تلقائي مسؤولية الحرية التي يحصل عليها. إذ يشعر بالوحدة والغربة أكثر من السابق، وأنه لكي ينجو فيجب أن يقدم شيئا للحياة لتكون أفضل، وبذلك فقط يستفيد من الحرية والاستقلالية التي يكتسبها نتيجة تفكيره الفلسفي.
مفهوم النجاة لدى الطارق لأبواب الفلسفة ليس مفهوما فرديا، فهو لن ينجو بمفرده أبدا؛ فالنجاة لديه تكون لمجموع الجنس البشري. لهذا فهو عندما يهتم بتقديم شيء للحياة؛ فإنما لانشغاله بالنجاة الجماعية. يجب أن ينجو الجميع، ورسالته في الحياة ستكون هي أن يسهم في تحقيق هذه النجاة. وهذا الشعور المكتسب لا يتحقق إلا إذا كان كائنا مستقلا في تفكيره، والذي هو من أهم شروط التفكير الفلسفي. إن الفلسفة تحسّن من تواصل الإنسان مع عالمه، وبهذا التواصل يتحقق التوازن بين الفرد والجماعة؛ والذي هو موضوع مهم من موضوعات الفلسفة. أي؛ كيف يتحقق التوازن بين الفرد والجماعة؟
أكثر موضوعات الفلسفة ناظرة إلى هذه المشكلة الشائكة؛ أي علاقة ممكنة يمكن أن يتفاعل بها الفرد مع محيطه؟ وإذا كان الفلاسفة لا ينتجون تصورا واحدا حول شكل هذه العلاقة، فإن هذه المسألة من الأهمية بمكان أن كامل النظام السياسي يمكن أن يتأسس عليها، وهذا ما يطرحه راسل في محاضرته التي انطلقتُ منها. فراسل؛ كما تقدم؛ يطرح إشكالية الصراع بين فلسفتين أوروبيتين واللتان صنعتا معظم المشهد السياسي الأوروبي المعاصر. وما يهمنا نحن هو كيف نستفيد من نتائج ذلك الصراع في تطوير تجربة عربية خاصة متميزة بعدما أثبت التغريب فشله تماما، كما تثبت الأسلمة فشلها بنفس القدر.
يؤكد راسل في مقالته على أن الفلسفة التي تحتقر نفسها هي الجديرة بتوليد النموذج السياسي الأفضل. بمعنى آخر؛ أن الإفراط في التنظير للواقع ينتج فلسفة صارمة تبذر بذور الفشل في أية نظرية سياسية قد تنتجها. فهو يتحدث عن علاقة باهتة بين الفلسفة والسياسة في بريطانيا على العكس من أوروبا، بل ويذكر تميز البريطانيين باحتقارهم للفلسفة، وهذا الاحتقار سبيل لتخلص الفلسفة من أية مثالية قد تشوبها. وهذا يفسر سبب سبق التنوير الإنجليزي على مثيله الفرنسي ومن بعده الألماني. الفلسفة وفق رأي راسل: وسيط بين الدين والعلم، بين المعتقد والتجربة، بين المعطى الكلي والمعطى الجزئي، وفي هذا المعنى ترمي الفلسفة إلى إنتاج الفضائل من جهة وإلى تحديد كيف نصل إلى المعرفة من جهة أخرى. وفي محاولاتها للتوفيق بين الكلي والجزئي؛ فإنها تنتهي بتقديم تصورات متكاملة أخلاقيا ومعرفيا، وهذا ما يزعج السلطة القائمة التي تحاول احتكار الفضيلة بفصلها عن المعرفة. لهذا فعمل الفيلسوف ينافس عمل السياسي في تحديد أفضل طريق يمكن أن يعيشه الناس.
وفي محاولته لتحديد الأسباب التي جعلت الفلسفة الإنجليزية متميزة؛ يشير راسل إلى الهوس لدى الفلاسفة الألمان في محاولتهم لعقلنة المطلق في وجه الشكوكيين، هذا الذي أدى إلى استغراق الفلسفة الأوروبية في الصراع مع النزعات الشكية لإثبات المطلق، فالفلسفة تصاب بالجمود عندما تكون مجرد ردة فعل تجاه رافضي المطلق. في الوقت الذي كان جون لوك وديفيد هيوم يحاولون التشكيك في المعرفة البشرية ونفي المطلق عنها رغم انخراطهم بالسياسة كمحافظين تحت ذريعة الإهمال والتجاوز لمسألة التشكيك في علاقة عالم المثال بعالم المادة. فالفضيلة التي يتصارع عليها الفيلسوف والسياسي في أوروبا؛ لم تكن كذلك في بريطانيا التي اهتمت الفلسفة فيها بتحرير الإنسان من استبداده بالمطلق لا بالمطلق الذي يستبد به.
ما يريد أن يقوله راسل هو أنه كلما أفرط المجتمع في المثالية كلما كان شموليا أكثر، ومع الشمولية يزداد قمع الفرد لصالح الحفاظ على مثالية المجتمع. المثالية تتجسد في الخطاب وفي أنماط التفاعل والعلاقات وفي الحذر الشديد والتذمر من التغيير وتعددية التصورات والأطروحات التي ينظر إليها كتهديد لوحدة المجتمع، فالعدو الأشد لمثالية أية مجتمع هو التعددية، لأنها تلزم بمشروعية كل المرجعيات التي تستند إليها مختلف التصورات السائدة والمتداولة. لا مفر من أن التعددية هي المصير الأمثل لتحقيق الإنسان لنفسه في المجتمع، ومع هذا التحقيق يكتسب المجتمع استقرارا ديناميكيا يستطيع أن يحدث نفسه بنفسه مهما تغيرت الظروف وتبدلت الأحوال. على العكس مع المثالية؛ والتي كثيرا ما تصبح فيها أية متغيرات بسيطة كما لو أنها صدمات من العيار الثقيل تقتضي ردات فعل تتّسم بالعنف والقسوة، وهذا ما يفسّر دموية الثورات والحروب الأهلية في أوروبا مقارنة مع الصراعات الداخلية التي صاحبت تشكّل الدولة البريطانية.
يتناول راسل فلسفة هيجل كذروة المثالية في الفلسفة الألمانية، فهيجل لدى راسل ينطلق من الصورة النهائية للعالم في تحديد القانون الشامل للسعادة والفضيلة، فهو يرفض الحس والتجربة المصاحبة للعلم لأنها تتناقض مع هذه الغائية في العالم التي يشعر بها كل إنسان. هيجل يؤكد أن المطلق لا يفكر إلا في ذاته، وبالتالي الحرية لدى الكائنات المحدودة هي في الطاعة والتسليم لهذا المطلق الذي ليس له غاية سوى نفسه. الحقيقة بذلك لا تصبح تلك الفكرة الخاضعة للتجربة، بل هي الفكرة المطلقة التي غايتها هو نفسها فقط والتي تضم كل صفاتها في وحدتها، وبالتالي لا وجود للحقيقة إلا في الفكر ولا يمكن التعامل معها إلا بالفكر. ومن هنا كان الموقف السياسي لهيجل هو تمجيد السلطة المطلقة وتأليه الدولة في تعاملها مع الرعية.
فكرة الجدلية التي ابتدعها هيجل تنطلق من نفس المنطق الغائي الذي يلتزم بها هيجل في رؤيته للعالم، فهو يفسر التناقضات المتصارعة في الواقع بصراع الأفكار التي تتالى وتصحح نفسها بالتجريد وصولا إلى الفكرة المطلقة، والتاريخ بذلك يتقدم وفق خطة منطقية تنتهي إلى مطلقات تمثل نهاية التاريخ. هذه الجدلية سيستخدمها هيجل لاحقا لتبرير الاستبداد في الدولة البروسية وشمولية الحكم لدى نابليون، وما الماركسية السوفيتية والنازية الألمانية إلا نتاجا لفلسفة هيجل. ويمكن قياس تجارب الأحزاب القومية العربية والأحزاب الدينية وفق فلسفة هيجل هذه، فهي أحزاب تنطلق من غائية العالم التي يجب أن يخضع لها الشعب شاء أم أبى وفق منطق “ما أريكم إلا ما أرى”.
النقيض للمثالية هو الليبرالية التجريبية كما يقول راسل، فشكوكية جون لوك تعمل كنقيض للحكم المطلق، فالتسامح والحرية يتاح أكثر مع الشك في المعرفة، إذ يكون الناس أكثر احتمالا وتقديرا للخطأ في معارفهم ومواقفهم وهم يعالجون آراء بعضهم البعض. الليبرالية التي ترعرعت وازدهرت في بريطانيا تقوم على أساس أن يعيش الواحد ويدع الآخرين يعيشوا أيضا. والجوهر في النظرة الليبرالية لا يقوم على ماهية المعتقدات ولكن كيف يجري الاعتقاد فيها. وبدلا أن تكون مقبولة مذهبيا ولاهوتيا؛ تكون مقبولة تجريبيا، أي تنفع الناس.
اعتمدت الليبرالية كممارسة سياسية في الحكم؛ على الفلسفة التجريبية، حيث يكون العلم هو المعيار الذي يفرق بين العقيدة السياسية والعقيدة الدينية، فالمعتقد الذي لا يمكن أن يتغير لا يعتبر علميا وبالتالي لا يمكن اعتباره مدخلا في النظرية السياسية. الممارسة الليبرالية بذلك تعتمد على النظرة العلمية كخلفية معرفية لها. ومع ذلك فالليبرالية ترفض الفوضى والشكوكية المطلقة وتؤمن بأنه يجب الحفاظ على المعتقد الديني الذي يعبر عن الفطرة الغائية في الإنسان، لهذا يقرر راسل بأن النظرة التجريبية للعالم تأتي في الوسط بين الشكوكية والعقائدية، والشك عند التجريبيين هي مسألة درجة؛ ففي حين يكون ضئيلا جدا في الرياضيات وحقائق الإدراك الحسي اليومي؛ فإنه يتزايد في المعرفة الاستنباطية والتجريبية.
إن المثالية تتطلب تشويها للحقائق اليومية لصالح تلك النظرية الشاملة التي تفسر العالم، والديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا في ظل مجتمع يواجه مشاكله ومتغيراته اليومية كما هي، فلا يتخفى وراء الشعارات البراقة والمثاليات الفارغة، ولا يدفن أخطاءه تحت التراب. ومع أن راسل يعترف بأن الطرائق المذهبية التي لا ترتكز على دعامة تجريبية كالماركسية والفاشية تمتاز بإنتاج درجة كبيرة من التناسق الاجتماعي، ولكن ذلك يكون على حساب تعذيب أجزاء مهمة من السكان، إذ أن العقائد التي تنتهي إليها المثالية تتطلب سلطة أكثر مما تطلب فكرا ذكيا كمصدر للرأي، وتتطلب العدائية والتعذيب لغير المؤمنين، وبالتالي ليس أمام أنصار العقائد المتخاصمة سوى الحرب لتحقيق أهدافهم وذلك لأن الحجة والحوار غير معترف به كوسيلة للوصول إلى الحقيقة. وفي نهاية المقال؛ يقرر راسل نتيجته القاضية بأن الليبرالية التجريبية هي الفلسفة الوحيدة حاليا لمن يريد برهانا علميا على عقائده وفي نفس الوقت يرغب في السعادة البشرية. ويجب على هذه الليبرالية أن تقتنع اقتناعا تاما بأن العقائد التجريبية يجب أن تكون لها حميمية في القلب وعميقة، وأن تقتنع بقيمة الحرية والتحرر العلمي والاحتمال المتبادل بين الناس.
بعد ذلك أعود للسؤال الشائك الذي تطرحه الفلسفة حول أي علاقة ممكنة بين الفرد والمجتمع؛ وأقول إن الحقيقة التي يملكها المجموع هي بطبيعتها أقوى وأوسع من الحقائق الجزئية التي ينتجها الأفراد منفصلين، وهي وإن كانت أهم وتعبر عن روح الجماعة بدرجة أعلى؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون مطلقة. بمعنى آخر؛ لا يوجد نموذج واحد ثابت ونهائي سيحقق السعادة والاستقرار للأبد، وما يعزز ذلك هو تلك الحقائق الجزئية التي تنبع من خصوصيات التجارب الفردية لأعضاء الجماعة. كما لو أن الحقيقة الكلية تشكل صمام أمان يضمن الحد الأدنى من الاستقرار والهدوء، وفي نفس الوقت تكون النزعات الفردية بمثابة التحديث المستمر الذي يقع على هذه الحقيقة. لهذا فإن كون الإنسان قادر أن يحقق ذاته في المجتمع يعني أنه قادر أن يستوعب ويتقبل روح المجتمع في نفس الوقت الذي يتفاعل مع هذه الروح فيحفظ كينونته بهذه الروح من جهة، وفي نفس الوقت يمارس صيرورته مع هذه الروح.
هذا لا يمنع من أن يكون هناك تصادم، ولكنه سيكون تصادما طبيعيا ومنسجما مع حركة الناس، وليس ناتجا من فلسفة قهرية تمارسها سلطة تظن أنها تحتكر الحقيقة. ومن شأن التصادم الطبيعي أن يثري تجربة المجتمع ويجعله رائدا بين المجتمعات دون أن يتخلى عن روحه العامة التي تمثلها تجربة الآباء والأجداد والثقافة العامة التي تراكمت وأصبحت هي لغة المجتمع وهويته. وبهذا الوصف سيكون هكذا تصور أقرب للفلسفة الليبرالية التجريبية التي تحدث عنها راسل، غير أن الفرق الذي يجب ملاحظته هو أن هوية المجتمع الكلية يسهم التصوّر المثالي الذي خلفه الأسلاف في تشكيلها المساهمة الأكبر ولكنها ليست الوحيدة.
إن الدافع الأقوى للتفكير الفلسفي هو رغبة المفكِّر في حل التناقضات الكثيرة التي يشاهدها ويحتك بها، فهو ينطلق من الواقع وينتهي إلى الواقع. يبدأ من مجموعة مشاهدات وأفكار متصارعة لينتهي بمجموعة تحليلات ونتائج تجمع بين هذه المتناقضات وتصنع أنماطا ونماذج للعلاقات والتفاعلات بينها، وهي إلى هذا الحد تظل حبيسة الكتب والحوارات البينية، وتبدأ تتحول إلى واقع عندما يقوم الفيلسوف بترجمة هذه الأنماط إلى قيم وأخلاقيات وأحكام جمالية، فهذه القيم تتحول إلى سلوك وممارسة ينتهجها الفيلسوف في حياته اليومية، ويدعو إليها في الحقل الذي ينشط فيه، وشيئا فشيئا تتشكل جماعة تتبنى هذه القيم وتترجمها إلى مشاريع وفعاليات تعبر عن التصوّرات التي ينتهي إليها الفيلسوف كأفضل طريقة يمكن أن يعيش بها الإنسان.
إن المشاكل التي تنغّص على الإنسان حياته هي أكثر ما يجتذب الفيلسوف وتثيره ليتناولها بالنظر والتحليل والملاحقة، والغاية التي يرسمها لنفسه هي إيجاد حلول قابلة للتطبيق لهذه المشاكل، وبدون ذلك فإن نظر الفيلسوف لا يقدم قليلا أو كثيرا يمكن أن ينفع الناس. ومن هنا تتصل الفلسفة بالسياسة؛ إذ ترفدها بالأطر النظرية لحلول عملية يمكن للسياسي أن يتبناها في إدارته لشؤون الناس ومواردهم. السلطة التي يمتلكها الفيلسوف هي سلطة القيم والأخلاقيات التي ينتجها، وهذه تنقصها سلطة السياسي التي سيطبقها.
إن قطيعة بين السياسة والفلسفة يجعل السياسة تسير في طريق بدون دليل، تتبع الأمزجة وتقلبات المصالح الفئوية الضيقة، وتكون الممارسة السياسية في ذلك حكرا على فئة معينة. تتجلى هذه القطيعة في تواضع الامتداد الشعبي للسياسة في المجتمع، وفي الأخطاء السياسية التي لا تجد من يتحمل مسؤوليتها، وفي الأفق الضيق وتناقض القرارات وتبدّلها السريع وعدم وجود رؤية واضحة للقرار السياسي. إن الفلسفة لا ترفد السياسة فقط بالنظرية؛ بل بالكادر البشري الذي يتبنى قيم النظرية وأخلاقياتها، وإذا ما كانت الفلسفة لا تنتج ذلك؛ فستظل القطيعة مستمرة. ولا يتأتى للفلسفة أن تزوّد السياسة بالمحترفين إذا لم تكن متداولة وشائعة ضمن الحراك المجتمعي، فالقطيعة بين الفلسفة والسياسة التي أركز عليها ليست على مستوى النخبة وقمة الهرم؛ بل على مستوى القاعدة الجماهيرية. فالشعب الذي يتناول الفلسفة ويتفاعل معها سيكون أقدر على المشاركة السياسية والتأثير على السلطة بالشكل الذي يجعل الممارسة السياسية تنطلق من قواعد المجتمع المتمثلة في الأفكار والفعاليات والتجمعات المدنية.
إن الفلسفات التي تشكل قاعدة معرفية وأخلاقية للعمل السياسي هي تلك التي تعيش بين الناس، ويتم تداولها في جلساتهم وندواتهم وحواراتهم، تكون دائما موضوعا من موضوعات الصحافة والإعلام والسينما والفن والأدب وكافة أنواع الخطاب داخل المجتمع. لكي تتحول الفلسفة إلى ظاهرة اجتماعية وطابع عام يصطبغ به المجتمع؛ يجب أن تكون هناك حركة أدبية وفنية تتناول قضايا الفلسفة بما يخلق تفاعل وتدافع بين مختلف الرؤى والاتجاهات، وبهذا الجدل ستنضج تصورات فلسفية أكثر فاعلية وشعبية، مع ضرورة الالتفات إلى أن الفلسفة الفاعلة هي تلك التي تساعد الإنسان على اكتشاف نفسه ضمن محيطه، وبه يكتشف المجتمع موقعه ضمن محيطه أيضا. وهذا التفاعل هو الذي سيصنع مع تجذّره؛ التجربة الخاصة بالمجتمع.
بما أن طرفي السياسة هما الحاكم والمحكوم؛ فإن ردم الهوة بين الفلسفة والسياسة يعني اختصار المسافة بين الفلسفة والشعب، وهذه تلقائيا ستؤدي إلى اختصار المسافة بين الفلسفة والحكم، لأن الشعب سيكون هو العمق والامتداد للممارسة السياسية لدى الحاكم، والتجربة هنا ستكون تجربة الشعب، وعندما أقول تجربة خاصة؛ لا أقصد بها الانبتات من الوسط المحيط، ولا الانفصال عن التجارب المجاورة، وإنما أن نقدم للإنسانية نموذج معين للتفاعل بين الفلسفة والسياسة، نموذج يمكن أن يعاد استنساخه وتخصيصه في مناطق أخرى من العالم. وهذا النموذج لا يتم بناؤه من الصفر، إذ هو الآخر نتاج لتجارب كثيرة يتم إعادة إنتاجها وفق خصوصية المجتمع، مع ضرورة الالتفات إلى أن الفلسفة والسياسة تولدان معا وتتفاعلان معا وتسهم كل واحدة في تشكيل الأخرى في نفس الوقت، والمقصود من تقدّم الفلسفة على السياسة هو تقدم في المرتبة لا في الزمن. فالبناء الفلسفي والبناء السياسي عمليا هما شيء واحد، وهو الممارسة السياسية المنطلقة من فلسفة شعبية متقدمة.
قدّم براتراند راسل الفلسفة التجريبية الإنجليزية على ما سواها واعتبرها الأقرب للطبيعة البشرية، ولو عدنا إلى جذور هذه الفلسفة فسنجد أن بداياتها الأولى ظهرت مع الدعوة للتسامح الديني، فإنجلترا منذ حوالي منتصف القرن السابع عشر (حوالي 1650م) تخلصت تقريبا من العنف الديني، ومن التسامح الديني بدأ الساسة الانجليز والفلاسفة المحظيّون لديهم مثل جون لوك يشيّدون تجربة انجليزية خاصة تعاضدت فيها الفلسفة مع السياسة، وكانت النتيجة أن العالم كله تأثر بهذا السبق المهم، فالثورة الفرنسية مدينة للإصلاح السياسي الإنجليزي، والديمقراطية الأمريكية مدينة لفلسفة جون لوك، وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية استمدت وقودها من مبادئ النظام السياسي الإنجليزي. وهذا الاندماج بين الفلسفة والسياسة هو الذي جعل التجربة الإنجليزية عميقة ومتجذرة ولم تتراجع، فالعمق الفكري كان حاضرا بقوة في الأدب والفن والعلم بل وفي الدين نفسه.
هذا لا يعني أن التجريبية الإنجليزية كانت كاملة، بل طرأت عليها عيوب كثيرة، فقد تحوّلت مع الإنجازات السياسية والاقتصادية الضخمة لبريطانيا إلى أيديولوجيا استعمارية أعادت إحياء الثنائية القديمة المتحضر والهمجي، كما لو أن الإحساس بالتفوق يرفع الجدران بينه وبين ما سواه. وإذا كان من الانصاف أن يحسب للإنجليز أنهم لم يرتكبوا في مستعمراتهم ما فعله الأسبان والفرنسيون في مستعمراتهم من مذابح وإبادات جماعية؛ إلا أن النموذج الليبرالي فتح الباب على مصراعيه لاستغلال خيرات الشعوب المستعمرة وتأجيج الخلافات الداخلية بينها لإبقائها في صراع مستمر لصالح المستعمر، فالعامل الأخلاقي الذي تولد مع الليبرالية التجريبية كان عرضة للتشويه والتجيير لصالح استمرار التفوق البريطاني، وهذا ما عزز النزعة المثالية الماركسية والنازية التي وجدت مبررا أخلاقيا في مواجهة الذرائعية البريطانية ومعها الأمريكية.
إن فلسفة متقدمة أذابت في طياتها عذابات الإنسان وخبراته الطويلة من شأنها أن تركز على مساعدته لكي يخلص نفسه من هذا البؤس. وهذه الفلسفة يجب أن تلتفت إلى حاجات الإنسان كلها؛ الثابتة منها والمتغيرة. حاجته إلى المطلق المثالي المتسم بالثبات، وحاجته إلى العدل والاستقرار والسعادة وتحقيق الذات؛ وهي حاجات متغيرة. هذه الفلسفة يجب أن تأخذ في الحسبان حاجة الإنسان للإحساس بانفصال معتقده عنه، وفي نفس الوقت سعيه الدؤوب وراء المنفعة المرتبطة بالمتغيرات اليومية. إن المطلق والمتغير كلهما يفعلان في الإنسان ويحددان له كيف يجب أن يعيش، وإذا غفلت الفلسفة عن هذه الحقيقة فالنتيجة على الأرجح هو عدم استقرار وجنوح نحو التطرف إما باتجاه المنفعة أو باتجاه المطلق. ولا بد من أن ثورة معينة نتوقع أن تقع على المدى البعيد كنتيجة لهذا الإفراط هنا والتفريط هناك، والحسنة التي تحسب للفلسفة الليبرالية هو قدرتها على تحديث نفسها بنفسها نتيجة ضبطها للمطلق الذي من طبيعته أن يُجمّد من يتصل به.
وأخير يمكن إيجاز القول بأن السياسة يجب أن تستند إلى فلسفة شعبية عملية، وهذه الفلسفة يجب أن تأخذ في الاعتبار الهوية الجمعية للمجتمع وفي نفس الوقت تناقضات الواقع القادمة من اختلاف وتفاوت دوافع الأفراد وحاجاتهم، بمعنى أن تعتبر من كليات المجتمع مصدر إلهام يمدها بالقوة وبالحضور دون المساس بخصوصيات الأفراد لأنها هي الضمانة في أن تكون هذه الكليات محدّثة إلى آخر ما توصل إليه العصر من مكونات فكرية وثقافية وصناعية. وعموم هذه الفلسفة تهتم بالفرد ثم بالجماعة ثم بشكل السلطة والنظام والدولة. ويمكن الاستناد إلى الليبرالية التجريبية الإنجليزية كأفضل مقاربة للواقع يمكن الانطلاق منها نحو البناء الفلسفي ومعه السياسي وفي نفس الوقت يأخذ في الحسبان الظروف التاريخية التي أوصلت المجتمع إلى ما أوصلته إليه، فلا يلغيها تحت داعي التحديث؛ وإلا فعلى الأرجح لن تفعل شيئا.