يصاحب تشكل الجماعة الوليدة عادة تيّاران يتنازعان حول الكيفية التي يجب أن تُدار بها الدفة في المسيرة الطويلة لهذه الجماعة؛ تيّار ينزع نحو ضرورة المحافظة على المكتسبات وتراث الآباء الأوائل المؤسسين كسبيل للحفاظ على وحدة الجماعة وتماسكها، وتيار ينزع نحو ضرورة التغيير وعدم التوقف عند أية قواعد عامة أو خاصة من شأنها أن تبطئ المسيرة، وتجمّد طموح الإنسان المتبدّل لتحقيق ذاته. ومن تصارع هذين التيارين تتطوّر المفاهيم والممارسات والفعاليات داخل المجتمع. وخلال ذلك تظهر أنماط معينة للفعل الاجتماعي؛ تحدّد معالم الفعل السياسي والثقافي والتفاعلات الداخلية؛ بحيث يصطبغ المجتمع وخلال مرحلة زمنية معينة بمجموعة من المميزات التي تميّزه عن غيره. وإلى هذا الحد؛ فإن الدولة تسير مسيرة طبيعية تتفاعل فيها السلطة مع النمطين المحافظ الإصلاحي، مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن السلطة بطبيعتها محافظة، فالنمط الإصلاحي بمجرد أن يحوز على السلطة؛ فإنه بعد مدة يصبح محافظا، وهكذا مع النمط المحافظ الذي ينتقل ليطالب بالإصلاح والتغيير. كما لو أن الإصلاح متعلق بالدرجة الأولى بفاقدي السلطة.
ويأخذنا هذا الحديث إلى الحالة غير الطبيعية والتي تصيب الجماعة بالجمود بحيث يتوقف الصراع بين تيارات المجتمع المحافظة والإصلاحية. وما يحصل في هكذا ظرف حضاري أن يتفق الطرفان على المشاركة في السلطة لصالحهما بحيث يبقون على السيطرة لئلا تفلت منهم وتنتقل إلى جهات أخرى، وهكذا يصبح كل من المحافظين والإصلاحيين في صف واحد في مواجهة خصم جديد يحاول أن يجد موطئ قدم له؛ ولكن لا يستطيع بسبب هذا التحالف الخفي الذي تجند له وسائل الإعلام والإنتاج للإبقاء عليه، وهنا يصبح الحديث عن مجتمع بلا معارضة.
عندما نتحدث عن مجتمع بلا معارضة؛ فنحن نشير إلى جهود المفكر الألماني الأمريكي النقدي هيربرت مركوزه الذي كان من أوائل الذين مارسوا النقد على المجتمع الصناعي في سيرورته نحو دمج كل نقد من شأنه أن يصنع التغيير؛ يدمجه ضمن ماكينة الإنتاج بما يحافظ على النظام القائم. فالسلطة الناعمة التي أفرزتها الليبرالية الصناعية استطاعت وبذكاء منقطع النظير أن تستوعب كل الصدمات بمرونتها المفرطة، بحيث أصبحت المعارضة مجرد شكل إضافي يجمل صورة الديمقراطية لا أكثر بدون أن يكون هناك نية عملية لإحداث التغيير في النظام القائم. فأنتجت الإنسان ذو البعد الواحد على حد تعبير مركوزه. وهو ذلك الإنسان الذي أصبح مجرد آلة تستهلك منتجات المجتمع الصناعي تحت ضغط سلطة المجتمع السياسية والإعلامية.
ما يفعله المجتمع الصناعي حسب مركوزه؛ أنه يُعلي من شأن التهديدات الخارجية للإبقاء على القوى المسيطرة على النظام، ويبرّر آلة العنف والحرب لفرض السلام، ويقمع الفرد من أجل زيادة التقدم والإنتاجية. كل ذلك يتم عبر القوة الهائلة الفكرية والمادية والتي يكتسبها المجتمع كنتيجة للتقدم الصناعي والتكنولوجي، فتصبح سيطرة المجتمع على الفرد أعظم، ويتم القضاء على التطور الحر للملكات والحاجات الإنسانية، ومن هنا يبدأ تخدير النقد. التقدم التقني؛ وفق كلام مركوزه؛ يرسخ دعائم نظام كامل من السيطرة والتنسيق، ويوجّه الحياة خالقا أشكالا للتقدم تبدو منسجمة بين السلطة والمعارضة. ولا يعود هناك مبرر للمعارضة والنقد، إذ يضع المجتمع الصناعي العراقيل في وجه التغير الاجتماعي، وتندمج قوى المعارضة في النظام القائم وتصبح الإرادة العامة هي المعبرة عن روح المجتمع، والتي ستسحق وراءها كل الأصوات الشاذة.
وإذا كان المجتمع الصناعي من النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين؛ حسب رأي مركوزه؛ مجتمعا ديناميكيا منتجا للأفكار وصانعا للتغيير؛ فإنه قد تحول بعد ذلك إلى مجتمع صامت يجرّم التغيير، حيث جرى دمج طبقتي البورجوازية والبروليتارية، وما عاد الصراع القديم بينهما يصنع أي حراك اجتماعي، فأصبحت هناك مصلحة قوية توحد خصوم الأمس بهدف الحفاظ على المؤسسات. وباختصار؛ التقدم التقني والصناعي يجعل المجتمع أقوى ويستطيع مواجهة الفردانية التي تهدده، فيحرص على أن يكون الأفراد يحملون روحا واحدة هي الروح الكلية للمجتمع. فلا تكون هناك أية معارضة عملية على أرض الواقع.
الخطورة في أن يكون المجتمع بلا معارضة تتجلى في الرؤية الأحادية التي ستوجّه المجتمع إلى مسار محدد يكون فيه الخلاص. وستختفي تلك الديناميكية التي هي ما يوصل المجتمع إلى بر الأمان وإلى الريادة، إذ تساعده على أن يبتكر حلولا عملية لمشاكله الكثيرة. الأحادية ستؤدي بالمجتمع إلى الركود الحضاري، إذ سيلعب النسق الاجتماعي دوره في تكبيل كل محاولة لإبداع رؤية جديدة تضيف مفهوما جديدا أو بعدا مخفيا إلى حركة المجتمع. والنسق الاجتماعي هنا يشير إلى التعاضد بين السلطة والمال داخل المجتمع. ما تقوم به المعارضة هو الحفاظ عليه والتأكد منه والتحفيز لديناميكية المجتمع المتمثلة في قدرته على تجاوز الأزمات والمنعطفات بما يجعله أقوى وأكثر حضورا وإبداعا وتأثيرا. لا يكون المجتمع فاعلا بدون وجود المعارضة، لأن الحراك الذي يصنع الفاعلية يأتي من التنافس وبذل أقصى ما في الوسع لإحراز القوة، فإذا اختفى التنافس قلّ القلق ومعه تنخفض قابلية الإنسان للإبداع والإنتاج.
مصطلح المعارضة سياسي بالدرجة الأولى وهو يشير إلى جماعة معينة تمارس الضغط على السلطة السياسية لصالح انتزاع بعض المكاسب؛ غير أن هذا المعنى مما يجب أن نلحّ على إعادة إنتاجه ليدل على مجمل العملية النقدية في المجتمع. فالنقد هو المفهوم الأشمل الذي سيمد أية معارضة سياسية بالمحتوى الفكري الذي يبرر استمراريتها ويجعل موقفها أقوى. النقد مقوم للاعوجاج، ومنور للطريق، وفاتح للآفاق. مفعول النقد أهم من مفعول المعارضة، ذلك أن المعارضة مع الزمن تتحول هي الأخرى إلى مؤسسة مثلها مثل النظام regime، وبالتالي يسهل استهدافها وإضعافها، أما النقد فهو الحركة الداخلية لكامل المجتمع، وهو الذي سينتج المعارضات المختلفة وجماعات الضغط. فالنقد مصنع الأفكار التي تتغذى عليها المعارضة، بل وحتى النظام نفسه؛ وخصوصا إذا كانت لديه تلك الروح المرنة التي تجعلها يستبق الأحداث فيستجيب للنقد بأن يصلح نفسه قبل أن يأتي طرف آخر ليصلحه بالقوة. وتقع الكارثة عندما يكون النقد نفسه هو المستهدف، وهذا ما يهتم به مركوزه ويسلط الضوء عليه؛ أي عندما يروِّض النظام الكلي بالمجتمع ماكينات النقد المتمثلة في العقول التي تنتج النقد، فإما أن يضمها تحت جناحه وتصبح وجها آخر له، أو يقصيها عن مسرح التأثير نهائيا بوسائله الرهيبة.
الحفاظ على النظام مسألة تثير نوعا من الإرباك الذي يجعل أية معارضة لا تحصل على الجماهيرية الكافية، بحيث وعبر آليات معينة تحدث عنها مركوزه؛ ينجح النظام في احتواء جزء من هذه المعارضة وإقصاء ما يستعصي على الاحتواء. وهذا الإرباك متعلق بشكل أساسي في الرغبة الفطرية للبشر في حب الهدوء والأمان والاستقرار، فبما أن النظام يوفر ذلك؛ فما الداعي للمعارضة؟! هذا من جهة، وفي الجهة المقابلة يتحول النظام من مفهومه التجريدي ليتمأسس داخل الدولة ويفرض ديمومته عليها بل ويحل محلها في أحيان كثيرة، ما يجعل طموح المعارضة في التغيير ضيقا وتائها في أزقة النظام المعقدة والمتشابكة. النظام يثير الإرباك من جهة أن المعارضة المتوجهة إلى إصلاح النظام يمكن سحب المشروعية من تحتها بوضعها في فوهة المدفع أمام المجتمع الذي لن يرحمها. فالنظام يستمد مشروعيته من مشروعية الدولة، وضعفه سينعكس تلقائيا على الدولة، فلا تستطيع المعارضة استمداد أية مشروعية عندما تركز على نقد النظام.
لهذا أجد أن استبدال مؤسسة المعارضة السياسية بحركية النقد الاجتماعية في غاية الأهمية، بحيث يحفّز النقدُ المجتمعَ ليبدع الوسائل والأساليب التي بها يجعل الدولة أكثر تمايزا وانفصالا عن النظام، ولا يخرج النظام عن كونه جهازا تنفيذيا أو مجموعة أجهزة تنفيذية تحقق مصالح المجتمع وآماله في الدولة. إن إحداث التغيير في المجتمع أهم بكثير من تغيير النظام، ومن هنا يكون النظام أكثر استجابة لطموحات المجتمع وحركيتّه. ولكن تبقى هناك مشكلة في غاية الأهمية ومن شأنها أن تشل قدرة المجتمع على الاستجابة للنقد وتحريك المفاهيم والأفكار داخله، ألا وهي ثنائية الوحدة والكثرة داخل المجتمع، وسأسلّط عليها الضوء في هذه المقالة، ولكن بعد أن أشير إلى نقطة مهمة يشير إليها هيربرت مركوزه وهي فكرة الانغلاق السياسي داخل المجتمع تحت وطأة مختلف أنواع الرقابة التي يفرضها النظام الكلي على المجتمع.
يتحدث مركوزه في كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” عن المجتمعات الصناعية والسائرة في طريقها لتكون صناعية، ويقصد به الإنسان مستلب الإرادة عن طريق إشباع حاجاته أو معظمها كونها حاجات مبرمجة وفق نظام الإنتاج. ويمكن بسهولة أن نعكس آراءه حتى على المجتمعات النامية التي تتبع النموذج الرأسمالي. إذا التزامن بين رأسمالية السوق وبيروقراطية الدولة يجعل أشكال السيطرة تتكرر في معظم المجتمعات سواء المتقدمة أو السائرة في طريق التقدم. فما الذي يحدث في هذه المجتمعات؟
يفرض الإنجاز الذي يحققه المجتمع الصناعي تمويه المقدمات حسب تعبير مركوزه، فلا يعود لتلك المبررات التي فجرت الطاقات وحركت الهمم في البداية ذلك الحضور مع تحقق الأهداف الأولى. فمركوزه يقرر أن مسائل الحريات والحقوق التي كانت هي الدافعة نحو التغيير؛ هذه المسائل يتم تفريغها من مضمونها حيث تتحول إلى مؤسسات وتنخرط بذلك في المجتمع. وهكذا تتجرد المعارضة القديمة من وظيفتها النقدية بعد أن يتم إشباع حاجات الأفراد شيئا فشيئا. بل إن مفهوم الحرية نفسه يتبدل ويتغير من المعنى الدال على العمل والكدح لأجل لقمة العيش إلى معنى أكثر توافقا مع الحاجات الفردية. فالإنسان لم يعد أسير عمل يستنزف كامل حياته، بل أصبح لديه متسع من الوقت يعيش مع نفسه، أي يخفف من ضغط الحاجات عليه. فالرقابة التي يفرضها المجتمع الصناعي ليست رقابة على العمل، وإنما رقابة على الحاجات، فالنظام هو الذي سيحدد ماذا يحتاج الأفراد، والنطاق الذي يستطيعون إشباع حاجاتهم فيه.
دعوى ضرورة الانشغال بالإنتاج وديمومته وزيادته ستكون على حساب الوقت الحر الذي يمارس فيه الإنسان ثقافته وفكره والترفيه عن نفسه، وهكذا يميل المجتمع الصناعي إلى النزعة الكلية الاستبدادية عن طريق تحكمه في الحاجات باسم مصلحة عامة وهمية. وهي نزعة تتمظهر في شكل نظام نوعي للإنتاج والتوزيع يتوافق مع تعدد الأحزاب والصحف ومع فصل السلطات وفق رأي مركوزه، وتصبح السلطة السياسية أداة التعبير والتنفيذ لماكينة الإنتاج بالمجتمع الذي سيتم النظر إليه ككتلة واحدة يجب أن يتوافق وينتظم وفق حركة الإنتاج ونظامه. ويجب بالتالي مراقبة الأفراد للتأكد من أن عجلة الإنتاج لن تتوقف أو تتباطأ. فمركوزه يرى أن النتيجة المترتبة على التقدم ليس سيطرة المجتمع على الطبيعة وحسب بل وعلى الإنسان نفسه. إذ تعيد حركة التصنيع توجيه الحاجات وتضييقها وتوجيهها بما يمتص كل الخيارات والحلول البديلة ويذيب أي معارضة على أرض الواقع أو محاولة لجر الإنسان باتجاه نفسه، فهو يظل يناضل من أجل أن يعيش.
باسم العمل والأجر اليومي والأسرة يتم ابتزاز الإنسان لئلا يتمرد على نظام الإنتاج القائم، ولا طريق للمجد يمكن المشي فيه إلا بما يسمح به النظام الكلي، فوحده من يمنح المجد والجاه، بل وحتى إذا قرر إنسان أن يتمرد؛ فيجب عليه أن يتمرد ضمن النظام، فمعارضته يجب أن يباركها النظام وإلا فيجب أن تموت. المجتمع الصناعي هو مجتمع تعبئة الشاملة الناتج من امتزاج مجتمع الرفاه مع مجتمع الحرب كما يقول مركوزه، فقد قضي على العوامل المهددة وجرى السيطرة على عناصر الاضطراب. وفي ظل نظام من التحالفات العسكرية والاتفاقيات الاقتصادية؛ تتلاشى الفروق بين العمال والفنيين وبين النقابيين وأرباب العمل، وتغدو الرغبات لدى مختلف الطبقات متماثلة، ويتحد المتعارضين، وتتفاهم الأحزاب المتنافسة وتتقارب في السياسة الخارجية إذ تتشابه الفعاليات والبرامج الانتخابية. كل ذلك على حساب الفئات الاجتماعية التي يقف النظام على ظهرها. تتواطأ مصالح رأس المال مع النقابات حيث تتحالف النقابات مع المشاريع لتشكيل جماعة ضغط للحصول على عقود أكثر حتى لو كانت عدوة لهم كعقود التسليح والصواريخ. وهكذا فالرأسمالية توفر العقلانية التقنية للإنتاج ثم تستخدمها استخداما لاعقلانيا.
إن هذا الغرق والاستهلاك المفرط للأفراد في عجلة الإنتاج هو الشكل الجديد للرقابة في النظام الرأسمالي، وهي رقابة تتمظهر في صورة أخلاقية؛ لأنها تحافظ على التفوق وتحارب عوامل الضعف، وهكذا يصبح من المبرر جدا إغلاق صحيفة ومنع اجتماع نقابة والتضييق على فعالية تنويرية. إن النظام الإنتاجي يحول الإنسان إلى آلة، والرأسمالية المتقدمة وإن كانت خففت التعب العضلي ولكن استبدلته بالتعب الذهني. كما إن العمل التعاوني يخلق بيئة إيجابية بين أعضاء الفريق الواحد، مما يقلل من تأثير اضطهاد نظام الانتاج لهم. وهكذا تغير الصيرورة الميكانيكية الحرية في الصميم لتصبح حركة إيقاعية لاشعورية على حد تعبير مركوزه.
ومركوزه يرى أن التغير الذي حصل في النظام الانتاجي والذي تبدى في انسجام المهن والوظائف وتغير نظرة الإنسان للآلة بوصفها جزء لا ينفصل عن الجهد البشري ما جعل من الصعوبة قياس العمل بالقطعة مثلا أو بالساعات وتبعه تغير نظام الدفع. لم يعد هناك شعور بوجود طبقة خاصة بالعمال، بل انخرط العمل في المجتمع الرأسمالي وأصبحت هناك علاقة أكثر حميمية بين العمال والمصنع. ملاك رأس المال كذلك تغير دورهم في ظل النظام الآلي، فما عادوا يمارسون دور الوكيل المسئول الذي يقف على رأس العمال ليقرعهم ويراقبهم ويضغط عليهم. بل يتحولون إلى بيروقراطيين يختفون تحت الهرمية وتسلسل العمل، وهكذا لا يجد الحرمان والحقد من هدف يتوجه إليه. وهكذا تختفي العبودية واللامساواة تحت الغطاء التكنولوجي. ومع أن النظام التكنولوجي قلل من تعب العامل ومنحه أوقات حرية يمارس فيها رغباته ولم تعد الرقابة عليه متصلة بالتهديد والقسوة؛ إلا أن العبودية لم تتغير بسبب أن النظام ما يزال يعامل الإنسان كأداة وشيء.
إن نتيجة ذلك كله هو الانغلاق الذي يأتي من الميكنة المفروضة على المجتمع حيث تتفاعل كل العناصر فيه كالتروس ضمن ماكينة إنتاج ضخمة. فالبيروقراطيات تحرص على دمج الإنسان والحريات ضمن النظام والدولة مانعة كل تطور يؤدي إلى تغير نوعي. والأرجح أنها لن تتمكن من ذلك أمام إرادة الحياة والرغبة في رفع المستوى المعيشي. ومن هنا تظهر الحاجة الماسة للتركيز على الدور الذي يلعبه النقد في الانتقال بالجماعة من تناسق الوحدة إلى تناسق الكثرة، حيث يصبح النظام أكثر كفاءة مع تعدد الأبعاد في الفرد.
هناك نقلة تاريخية معينة يمكن أن يمر بها المجتمع تتحول فيه مسألة الحفاظ على النظام والانسجام الداخلي من تناسق الوحدة إلى تناسق الكثرة. فالجماعة في بداية تشكلها تتسم بدرجة عالية من التماثل والتناغم، إذ تدفع المهددات التي تكون كثيرة في البداية إلى تلاحم وترابط الأفراد بدافع البقاء، فيقل الشطط والتمرد تحت وطأة الخوف على الوجود، فيتنازل الأفراد عن بعض حاجاتهم لصالح قوة الجماعة. ومع رسوخ الجماعة وتفوقها تتناقص المهددات الخارجية بشكل دراماتيكي، فيزول المبرر القديم الذي يدفع الأفراد للتنازل عن حاجاتهم، فتبرز إلى السطح متطلبات جديدة يجب إشباعها وتلبيتها، وإلا فستتحول إلى عوامل خلخلة وهدم وثورة. في هذه المرحلة التاريخية تظهر الحاجة الماسة للنقلة الحضارية من مجتمع يعيش بداياته إلى مجتمع يعيش مرحلته الواقعية، وبهذه النقلة فقط سيستطيع أن يستمر في الوجود بأقل الخسائر. ولفهم ما يمكن أن يحصل نحتاج أن نفهم كيف يتكون تناسق الوحدة وكيف يتكون تناسق الكثرة ثم يمكننا أن نتحدث عن ظروف وشروط الانتقال من الوحدة إلى الكثرة.
تتفاعل المشاعر الإنسانية فيما بينها وفق أنماط خاضعة للظروف التاريخية المحيطة، فتزداد الألفة والروابط عندما يكون هناك عمل مشترك يتطلب توزيع منظم للأدوار والجهود، إذ تدفع رغبة الإنجاز داخل الجماعة للحصول على رضاها؛ تدفع الفرد ليكون أقرب من باقي الأفراد وعلى تماس واتصال قوي معهم، فيحتاج لتحمل عبء من معين عن الجماعة يكون مسؤولا عنه أمامهم. وفي ضوء هذه الألفة والمشاعر الإيجابية يتحقق للجماعة وحدة شعورية تذيب الفروقات التي قد تقع بين فترة وفترة، فيكون حل المشاكل وفض الخصومات سريع جدا، ولا يجد الأفراد متسعا من الوقت تتطور فيه حاجاتهم نحو قضايا ومتطلبات جديدة، فالكل مشغول بالقضايا المصيرية والكبيرة للجماعة التي تعيش مرحلة إثبات الذات.
وإلى جنب هذه المشاعر؛ تكون مصادر المعرفة التأسيسية عاملا مهما في تحقيق الانسجام والاتحاد، حيث تكون هذه المصادر بداية محدودة وتنتج الحد الأدنى من المعرفة الضرورية لبقاء الجماعة واستمراريتها، ولا ترد كثيرا مسائل الرفاهية وكماليات الحياة. التساؤلات المتداولة في أروقة المجتمع تكون بسيطة وأساسية ولا تتطلب غوصا في الأعماق ولا توسعا في البحث والتنقيب. وعادة ما تتسم الإجابات بدرجة عالية من الثبات والإطلاق إما لكونها من تراث الآباء المؤسسين أو من نصوص دينية تأسيسية. وهكذا تعمل نوعية الأسئلة المطروحة على تقليل مصادر المعرفة المتطلبة، ومنها يكون الانسجام والتناسق بين الأفراد عال جدا. حاجات الجماعة قليلة، وبالتالي تلبيتها لا يتطلب تشعبات كثيرة ولا كثرة احتمالات ومسالك للإشباع، وهكذا تكون الأرضية غير مؤاتية للتمرد والخروج على الجماعة.
تعمل المقدمات المعرفية كأطر عامة تقلل من فرص البحث عن مصادر جديدة للمعرفة، فلا تنمو الحاجة لهذا البحث في ظل تسالم الجماعة على هذه المقدمات، وهذه المقدمات لم يتسن الوقت بعد لفحصها واختبارها، فما تزال مقنعة للأعمّ الأغلب إن لم يكن للكل. وفي الغالب تأتي هذه المقدمات من الظروف الانتقالية من مرحلة التشرذم وعدم الاستقرار وربما الحرب والنزاع إلى مرحلة الاتحاد وحل الخصومات وتقديم الجماعة على الفرد، وفي هكذا ظروف تتسم المعرفة بالظرفية والتعميمات السريعة والقفز على التفاصيل وإهمالها وتفوق المعرفة العملية على النظرية؛ أي الأخلاقيات والجماليات والتفاعلات على النظريات والتصديقات المركبة. في ظل هذه المعرفة يكون حضور الكليات التاريخية قويا ويتم العمل بأكثر قوانين المنطق بساطة وأولية لبناء النظام المعرفي للجماعة الوليدة، وكل ذلك يقلل من الفروقات البينية لصالح الصورة الكلية الجميلة للجماعة وهي تتجاوز مشاكلها القديمة لتصنع وجودا جديدا ومعه أمل جديد بالأرض والمستقبل والأبناء.
وأخيرا يمكن فهم نسق الوحدة في الجماعة من خلال ملاحظة المنهج المصاحب لتشكلها، والمنهج هنا هو مجموع الأعراف والاتفاقات الضمنية أو الصريحة والقوانين الكلية التي في ظلها يتم فحص واختبار الأفكار الجديدة والفرضيات الناجمة من تطور حاجات أفراد الجماعة. يتضح المنهج لدى الجماعة في الطريقة التي يتم اختيار السلطة واتخاذ القرارات فيها، وفي نماذج وطرق التربية وتأهيل الكوادر التي ستخدم الجماعة وتعزز استمراريتها، وفي آلية توليد القوانين الضابطة للتعاملات والتفاعلات. ولعل أهم ميزة في المنهج بالجماعة المتناغمة والمنسجمة هي بساطته وقلة الحالات والاحتمالات التي يتناولها ويعالجها. فلا يكاد يخرج عن إطار الأعراف والقيم المؤسسة والتي لخصها الآباء المؤسسون، فهو منهج أقل وضوحا وصرامة وهو بذلك أكثر استيعابا للفروقات، ولا يرد كثيرا في عمليات توليد الأفكار، إذ غالبا ما يكون حركة انسيابية طبيعية لا تتطلب مزيد تنظير وتقليب للمدخلات والمعطيات التي هي الأخرى تتسم بعدم التعقيد.
إن هكذا منهج يكون على درجة عالية من المرونة والميوعة، ويعتمد على مجموعة من القيم والمسلمات التي يقبلها الأفراد ويتفاعل معها تلقائيا، لذا لا يأخذ حل الخصومات وقتا طويلا ويتم استيعابها بسرعة قبل أن تتفاقم، ويكون لحضور القائد والرئيس جوا روحانيا يتواضع له الأفراد الذين يقبلون بسلطته عليهم كأب حنون. وهكذا تذوب الاختلافات بسرعة لصالح الوحدة التي تتجدد وتكون حاضرة بقوة في أدبيات التربية والإعلام وإعداد الجند، وخصوصا في المنعطفات الخطيرة للجماعة والحالات الاستثنائية التي يتم خلالها استدعاء لحظات التأسيس القديمة لتكون حالة عامة يتلبس بها الأفراد الجدد الذين لم يعيشوا لحظات البناء الأولى.
مع مرور الزمن تكتسب الجماعة صفة الكيان المؤسساتي، فبعد أن تكون قد تجاوزت بنجاح صدمات الولادة وتعثراتها؛ تدخل في مرحلة تاريخية جديدة، وهي مرحلة تتعقد فيها المطالب وتكثر التساؤلات وتتعدد مصادر المعرفة ولا يعود لدى الأجيال الجديدة نفس الروح المتقدة والمبدعة التي كانت لدى المؤسسين، وتأخذ أنماط ومناهج التفكير شكل تجمعات وتيارات داخل الجماعة الكبيرة، فيصبح الخلاف أكثر وضوحا وحدة وأصعب في الاحتواء بالآليات القديمة التقليدية، وتظهر هنا الحاجة الملحة لتناسق الكثرة حتى تستمر الجماعة كوحدة متماسكة واضحة الحدود والمعالم عندما تتفاعل مع الجماعات الأخرى، وتتبادل التأثر والتأثير معها.
في تناسق الكثرة يصبح الدور الأكبر في تنظيم التفاعلات والحركة داخل الجماعة الكبيرة للاتفاقات والتعهدات المبرمة والقابلة للتحديث ولكنها ملزمة لجميع الأطراف. الصياغة القانونية لهذه الاتفاقات مع ما ينجم عنها من صعوبات وتعقيدات؛ تظل هي الخيار الأقل ضررا لضمان عدم تضارب المصالح وتصارع الإرادات الفاعلة. ويتم الإلتفات أكثر إلى إشباع الحاجات الفردية عبر احترام الحريات ومراعاة الحقوق للأفراد، ويتم هذا الإشباع عبر توفير الأجواء الطبيعية لنمو الحاجات فلا تكون هناك تدخلات بالقوة لفرض أجواء معينة أو الانتصار لحاجات مهينة مقابل اضطهاد حاجات أخرى. الدور الذي تلعبه السلطة في تناسق الكثرة ليس في التوفيق بين المصالح وضمان عدم تضارب المصالح؛ بل في التأكد من كل فرد قادر على أن يحقق ذاته.
المعرفة في ظل تناسق الكثرة تتسم بالتعقيد وكثرة المصادر التي يجب أن تقابل كثرة الأسئلة وتشعب الحاجات، وهذا أمر طبيعي في ظل فراغ الإنسان من هم لقمة العيش والخوف من الغوائل والمميتات. يكتسب الإنسان صفة الرخاء وترتقي ذائقته ويجنح إلى نشاطات كانت تعد من الترف والكماليات الزائدة لدى الأجيال السابقة، كل ذلك يجعله يحتك بمكونات جديدة ومعها تتولد لديه تساؤلات جديدة وهموم جديدة؛ ما يقتضي به البحث عن مصادر جديدة للمعرفة. وهكذا تكتسب المعرفة صفة التعقيد والتعددية، ولا مفر هنا من القبول بكل المصادر ومحاولة التنسيق بينها بحيث يتم توليد مناهج متعددة للتعامل مع مصادر المعرفة المتزايدة. وهكذا يتم التخفيف من حدة التعقيد عبر تقسيم المعارف وتصنيفها وتشجيع وتحفيز التخصص والفصل بين المجالات، وتتفرع العلوم والوظائف تبعا لتعدد اهتمامات الأفراد داخل الجماعة وتنمو المناهج لتقابل الحاجة إلى الموثوقية والمصداقية في الأفكار والمعارف المتناقضة.
التربية في تناسق الكثرة تنحو لمراعاة الفروقات التي تنشأ بين مختلف التيارات داخل الجماعة، بحيث يتم ضمان أن المشتركات التأسيسية لا تتعارض مع الحاجة الفعلية للإفراد أن يحققوا أنفسهم بأن يتاح لهم بناء المدارس والمؤسسات التعليمية بما يحافظ على تمايزهم. تبقى تلك المشتركات حاضرة ولا يتم التنازل عنها تحت أي ظرف من الظروف لأنها هي المبرر والقاعدة التي تقف عليها الخصوصيات، فهي الطبقة الأسمك التي تقف فوقها طبقة الخصوصيات للتجمعات الصغيرة. في تناسق الكثرة تكون الغاية من التربية ليست في الحفاظ على وحدة الجماعة بقدر ما هي في أن الجماعة قادرة على استيعاب كل أو معظم الاختلافات والتوجهات داخلها، فليست هناك مستويات تفضيل بين التيارات والمناهج وإنما تحقيق وتأكيد. تتدخل سلطة المجموع في الحالات التي تنزع إحدى التيارات نحو تفضيل نفسها وتقديم الآخر بصفته في درجة أدنى ومستوى أقل، وهو تدخل لضمان أن روح الجماعة حاضرة في التربية. وهكذا مع كل أشكال التعليم والتدريب وإعداد الكوادر.
التعبير عن روح الجماعة يظل شائكا ومربكا؛ إذ يقع التحدي في مدى انكشاف هذه الروح وتجليها لدى مختلف مكونات الجماعة، فروح الجماعة مفردة غارقة في الإبهام كونها صلة بين مطلقات اللحظات التأسيسية وبين موضوعات الواقع المتحاورة والمتجددة. وهذا الغموض يعود إلى بساطتها الشديدة في ظل واقع شائك، كالطفل وهو يختبئ خلف والده الواقف قبالة جيش جرار، فالأمان لديه بسيط جدا بالرغم من كل التعقيدات التي يشاهدها ولا يستطيع فهمها. روح الجماعة هي الوعي المشترك بين الأفراد، والذي سيشمل النظام الكلي الذي يتصل الأفراد عبره ببعضهم البعض، فالتاريخ واللغة والدين والأرض والذاكرة الجمعية والتحديات كلها تشكل مولدات تنتج هذا الوعي المشترك، وعلى ذلك فهذه الروح محايدة ﻷبعد الحدود، فهي نتاج تراكم كل هذه المولدات على مدى زمن ليس بالقصير، أي أن روح الجماعة هي وعي مجموع الأفراد بأنهم يشكلون جماعة، وبالتالي تمثيل هذه الروح لا يتحقق بتجزئة المشاعر وتقسيمها، بل باعتبارها كلا واحدا بسيطا جدا. فهو مجموع الشعور العام الذي لا يوجد متحدث باسمه ولا يحتاج لمن يدافع عنه ولا يتأثر بالتقطعات والتجاذبات القادمة من خصوصيات الأفراد. بمعنى آخر؛ لو حصل أن تمرد فرد وخرج على هذا الشعور ناقما عليه؛ فإن هذا الوعي المشترك سيستوعب هذا النزق ويذيبه فيه بالاستعانة بالآليات الكثيرة للبقاء كالحوارات والتفاهمات وتوزيع الأدوار والدفاع المشترك والإنتاج التعاوني وفي أحيان معينة بالتأهيل والتوجيه.
الشيء المميز هنا أن تناسق الكثرة يستثمر الروح الكلية أولا في الحفاظ على خصوصيات الأفراد وثانيا في التأكد أن هذه الخصوصية متولدة فعلا من مشترك الجماعة؛ فإذا كانت ليست كذلك، فيجري توجيهها لتتناغم مع المشترك. وكلمة توجيه هنا تنظر إلى كيفية تجذير وتأصيل مولدات الوعي المشترك في الأفراد قبل أن يفكروا في ممارسة خصوصياتهم. فتناسق الكثرة لا يصطدم بالروح الكلية للجماعة ولا بالخصوصيات الناتجة عنها، وينظر فعلا إلى أن الوعي المشترك قابل للتحديث والتطور بحيث في كل مرحلة تاريخية يتم الإضافة والطرح في مولدات هذا الوعي، وبما يسمح بالتطور الطبيعي للحاجات وتلبيتها. وصفة التوجيه نحو المشترك تأخذ بعين الاعتبار قدرة المشترك على استقبال واستيعاب عوامل الرفض له لكي يستطيع التأثير عليها. بمعنى آخر تتأرجح الخصوصية المتمردة بين الصدام والتوجيه وبين التأثر والتأثير، ويكون الجو العام لهذا التأرجح محفزا للمحاولة والخطأ ومفتوحا على الاحتمالات العديدة واختيار أكثرها نفعا أو وأقلها ضررا.
لا يمكن أن تكون الأساليب وأنماط الحياة القديمة صالحة في تناسق الكثرة، إذ أن قابلية مشتركات الجماعة كالتاريخ واللغة والموقف الديني للتحديث؛ تتحدد في ظل وجود رغد في العيش وضعف في تأثير المهددات على وجود الجماعة. فالنقلة التي أشرت إليها فيما سبق من تناسق الوحدة إلى تناسق الكثرة تتحدد بالظرف الحضاري والمرحلة التاريخية في تطور وعي الجماعة، فتضخم الجماعة وتمددها على الأرض، وتعقد مطالب الأفراد وهمومهم، والوفرة الحاصلة في أسباب العيش ووسائله، واختلاف الأمزجة وتنوعها، كل هذه عوامل تستدعي معرفة أي مرحلة تاريخية تعيشها الجماعة. الأزمة تقع عندما لا تعي الجماعة مرحلتها التاريخية التي تحدد أشكال الإرادة السياسية الناقلة للوعي العام الكلي من تناسق الوحدة إلى تناسق الكثرة. وهي أزمة تتمظهر في أنماط السيطرة التقليدية غير القادرة على الاستجابة للتطور الحاصل لدى الأفراد. يحصل هناك نوع من الشرخ والانفصال بين الوعي العام الذي يتطور وينمو؛ وبين الطليعة المسيطرة على زمام الأمور والتي ترفض تحديث أساليبها وأدواتها الإدارية والإعلامية والأمنية والتعليمية لتقابل الوعي المتطور.