لا تسعى هذه الورقة إلى ما هو أبعد من محاولة فهم واقع حال التحول المدني للمجتمع والدولة في سلطنة عُمان، وذلك عبر قراءة أهم خصائص الدولة العُمانية المعاصرة، وطرح بعض التساؤلات الضرورية حول قربها أو بعدها عن فكرة المدنية، مسارات هذه الفكرة، سماتها، وأهم تفاعلاتها. بالإضافة إلى رصد ممارسات بعض البنى الاجتماعية التقليدية كالقبيلة تجاه فكرة كهذه، وكيف كانت الاستجابة، لدعوة التمدن، إن حصلت، من قبل الأفراد والجماعات، وإلى أي مدى اشتغلت الدولة على تعزيز مفهوم المواطنة، كوعي وسلوك ممارسين، مع تبيان أبرز التحديات التي اعترضت هذا المسار. ويخلص الباحث إلى نتيجة مفادها أنَّ الدولة الحديثة القائمة في سلطنة عُمان، ما زالت تملك من الممكنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما يؤهلها لتطوير مدنية المجتمع والدولة بشكل أفضل بكثير من بقية دول المحيط الإقليمي، وأن الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير؛ لذا فإنه يرى أنَّ التسريع في تحول السُلطة الحالية من سُلطة تحكّم مباشر إلى سُلطة تداول وشراكة يُعد أبرز هذه الممكنات التي تُجذّر المدنية؛ عبر فصل حقيقي بين السلطات الثلاث التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. وأخيرًا، يتوصل الباحث إلى أنَّ الدولة المدنية ليست إلا ذلك الكل المتكامل والمتفاعل مع العناصر البشرية والطبيعية لتحرير المجتمع المدني من تناقضاته، والعمل معه، بصبر، وسعة أفق، على تفجير طاقاته وإمكاناته المادية والفكرية.
مقدمة
تَعرّض ولا يزال، مفهوما الدولة والمجتمع المدنيين لدى الإنسان العربي، لكثير من التشويه والاختزال في “كلاشيهات” سياسية سطحية أجادت السلطات الحاكمة، والعديد من التنظيمات والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحزبية معًا تجريف المعنى الواقعي، والطبيعي لهذين المفهومين. وسلطنة عُمان بسلطتها المركزية، والإنسان الذي يعيش تحت تأثير إدارتها ونفوذها، ليسا استثناءً من ذلك.
إنجازات الدولة وعلاقتها بالمجتمع
لقد حققت الدولة المعاصرة في عُمان تقدمًا ملموسًا لا يخفى على أحد، وأصبح ذلك التقدم واقعًا معيشًا يعترف ويفتخر به العُمانيون، خاصة في مجالات تطوير وتنمية المؤسسات والقوانين الناظمة والمسُيِّرة للحياة العصرية للإنسان والمجتمع. ومرد ذلك تدفق الثروة النفطية الوافرة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وتوفر قيادة واعية وحريصة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
هذا التقدم الذي أحرزته الدولة ولّد فهمًا مضللاً للسلطة الحاكمة برر لها التصرف والتحكم بالمجتمع المدني وتوجيه نشاطاته وتأطير تنظيماته؛ أي: اختراقه، وإعادة إنتاجه وفق مقاساتها وتطلعاتها، وقولبته في تماثليات وإطارات محددة، مما أفقده -أي: المجتمع المدني- أهم غاياته، ألا وهي تعدديته وتمايزاته بكل تناقضاتها وصراعاتها، وجدلياتها، والتي، هي بالأساس سر دينامية الإبداع والتغيير في المجتمعات.
فالمجتمع المدني، ليس إلَّا ذلك الطيف الواسع والمتنوع من التنظيمات المختلفة في أغراضها وأحجامها وهياكلها التنظيمية وأساليبها في التمويل والإدارة والأفكار. يمارس أعضاؤها طوعًا نشاطاتهم النابعة من إراداتهم الحُرة دون تدخلٍ من أحد. “والأصل في هذه المؤسسات أن تكون مستقلة عن [السلطة]، وأن تعمل خارج إطار تدخلها، سواء كشريك على قدم المساواة مع الدولة أو كمعارض للدولة وما تضعه من سياسات، من خلال ممارسة النقد الاجتماعي، والدفاع عن الحقوق والحريات السياسية والمدنية للناس، والمساهمة الفاعلة والعلنية في حشد وتعبئة الجهود من أجل التغيير الاجتماعي والتطوير السياسي والانفتاح الاقتصادي” (1).
ثمة من يُحاجج بأن الدولة المدنية ابتداع غربي لا يناسب الثقافة العُمانية، ولا الظروف الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية التي يعيشها الإنسان في عُمان، وتجيد التعامل معها الدولة القائمة حاليًا، وأن الخصوصية العُمانية تُحتّم علينا نظامًا يكفينا، ويُلبي احتياجاتنا على مستوى السياسة، والاقتصاد، والثقافة.
بيد أن جوهر الدولة المدنية، بعيدًا عن كل الاختلاف والتعدد في آليات وتطبيقات التنفيذ، ليس أكثر من تلك القيم الإنسانية الكلّية، الناظمة لأسس التعايش؛ كالعدالة الاجتماعية، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، والتداول السلمي والآمن للسلطة وفق إرادة الشعب، وحفظ الحقوق، والتربية على القيام بالواجبات، وصون الحريات العامة للبشر، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفصل السلطات لتتعاون بندية، وحرية تكوين التنظيمات السياسية، وغير السياسية وإتاحة الفرصة لها للمشاركة في صناعة القرار، لكي لا تنفرد فئة أو فرد بها، واحترام التعدد الفكري والإثني والعرقي والطائفي، والتكافؤ في الفرص، وتعزيز رابطة المواطنة، ومكافحة الفساد وفق آليات رقابية ومحاسبية نزيهة وشفافة. في المجمل، هي مطالب وتطلعات أي إنسان من أجل حياة كريمة، على أية أرض، وتحت إدارة أية دولة.
فهم الدولة وواقع المجتمع
إن الدولة، كمفهوم، وكممارسة، عند المواطن العُماني، يعاني بالمثل، من لَبْس واختلاط مع مفاهيم كالحكومة، والسُلطة الحاكمة بذراعيها البارزين: التنفيذي والأمني. وهذا مردّه سيطرة الأخيرة، أي: السُلطة طوال العقود الخمسة الأخيرة، على تفاصيل المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في البلاد؛ حيث فصّلت هذه السلطة المؤسسات وفق احتياجاتها وبحسب قدراتها، قربت من تريد وأقصت من تشاء؛ فغدت الدولة هي الحكومة، والحكومة هي الجهاز الراشد الذي لا يُخطئ، وإن فعل، فعلى المجتمع أن يتغاضى عن ذلك، لأنه يعيش في أمن وأمان وسلام واستقرار.
كما غُيبت عن المجتمع -عن طريق التعليم والإعلام- فكرة أن الشعب هو صاحب السيادة العليا على مؤسساته التنفيذية والتشريعية والقضائية. الأمر الذي يحتاج، في قادم الأيام لجهد كبير، وحفر عميق، وتفكيك صبور من جانب المجتمع ليبحث عن مساحاته الطبيعية وعلاقته المتوازنة مع السُلطة التي تحكمه.
ما حدث لم يكن إلا تكرارًا لمفهوم الدولة -غير المستقر أصلاً- في الثقافة العربية، والتي تتذرع السُلطات الحاكمة فيها بجميع الوسائل القانونية لضبط الفرد والجماعة. بمعنى أنها تتحكم في المناهج التعليمية، وطرائق التفكير والتعبير والتربية، وتحدد شكل التنظيمات واللقاءات والاجتماعات، وتعمل على توجيهها لخدمة مصالحها، وليس بالضرورة مصالح الفرد والمجتمع، لأنها لا ترى فيهما إلا ذاتها؛ تلك الذات الخاصة ببقاء ووجود السُلطة لا أكثر.
إن هذه السُلطة/الدولة ترتكز على عامل وجودي تروج له وتشتغل لأجله باستماتة؛ ألا وهو تخويف الناس دائمًا من أن زوالها، أو تغيرها، أو تبدلها من سُلطة تحكّم وضبط إلى سُلطة تداول وتشارك يعني انحلال الوحدة الوطنية، وتفكك منظومات المجتمع الساكنة الراضية وتناثرها.
ولعلَّ أمثلة راهنة كالعراق واليمن وسوريا والصومال تُغذي هذا الطرح الذي تتبناه السُلطة في عُمان عبر أطروحات خطابها الإعلامي والأمني، والذي يلقى آذانًا مُصغية من الناس، فهم، بلا تردد، لا يمكن لهم المساومة على أو حتى المجادلة في الواقع المرير الذي يعانيه الإنسان في تلكم الدول.
إن أبرز ما يُميز المجتمع المدني العُماني المعاصر السيطرة الكاملة للسُلطة الحاكمة عليه. رغم أن التاريخ العُماني ثري بنماذج مشرقة لأفكار ومنظومات ومبادرات استطاع هذا المجتمع من خلالها أن ينظّم بها نفسه، ويسد فراغات الإدارة المركزية في أحلك ظروفه الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. مثل منظومات الري بالغة الدقة والتنظيم (الأفلاج)، وسنن البحر والبادية الراسخة في تقاليد أهل المهن والأعمال، ونظام الأسواق وتوزيع السلع في غير أوقات الرخاء، ومصفوفات الوقف المتنوعة والممتدة لأقصى قرية في البلاد. وحتى التكوينات الاجتماعية التقليدية كالقبيلة، والجماعة المذهبية، وتجار المدن والولايات، كلها أمثلة تؤكد على أن هذا المجتمع كان يمتلك إرادته الحرة في إدارة وتنظيم مصالحه المعقدة بقوانين ولوائح قُدّت من رحم التجربة والخبرة البشرية في التعامل مع الحياة والطبيعة، بأخطائها ونجاحاتها، وذلك دون الرجوع أو الحاجة لسيطرة مركزية تقولب هذه الأفكار والمنظومات في قالب واحد لا يحقق إلا التماثل والسيطرة.
المدنيّة: الفكرة والممارسة
ساد الاعتقاد لدى السُلطة الحاكمة بأنَّ من حقها، بل وواجبها التدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة المجتمع الفكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، فأباحت لنفسها اختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته باعتبارها امتدادًا لأجهزة الدولة فأصابت الدولة المدنية في مقتل، هذا إذا ما افترضنا أنها لم تتقصد أصلاً إجهاض ميلاد دولة مدنية، تصون وتحمي وتمارس تلك القيم الإنسانية سالفة الذكر.
في الميدان، جرّمت السلطة نشوء الأحزاب السياسية، وحرّمت قيام الحركات الاجتماعية، والسياسية غير الموالية لها، وقمعت التنظيمات النقابية، والعمَّالية، وغيرها منذ سبعينيات القرن الماضي، ولم تسمح لها إلا في العام 2006، وبشكل مقنن، تحت إشراف وزارة القوى العاملة (2) . كما فرضت رقابتها المباشرة على الجمعيات المهنية من خلال قانون يحصي كل شاردة وواردة لأنشطة وفعاليات واجتماعات هذه الجمعيات (3).
حدث كل هذا الاختراق الواضح لجميع مؤسسات المجتمع المدني بالتوازي مع فرض القبضة الحديدية على مناهج التعليم في المدارس والكليات والجامعات، بل إنَّ منصب وزير التربية والتعليم شغله لفترة ليست بالقصيرة نائب رئيس الاستخبارات (المكتب السلطاني). كما بسطت السُلطة رقابتها الخانقة على وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وضربت حق التجمع السلمي ومنعت المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والتضامنية والإضرابات. كذلك اخترقت المؤسسة الدينية وأخضعتها مباشرة لوزارة الأوقاف، وتحكمت بمؤسسة الإفتاء بتعيينها مُفتيًا عامًا للبلاد، بل إنها تقرر نوعية الخطب التي ينبغي على الأئمة أن يلقوها في المساجد، ناهيك عن المراقبة والتحكم المباشر في جهود العمل الخيري من تكوين المبادرات إلى جمع التبرعات.
ولا يختلف الجانب الثقافي عن الجوانب النقابية، والاقتصادية، والدينية والاجتماعية؛ فالسُلطة لم تصرح بإنشاء جمعية خاصة للكتّاب والأدباء في البلاد إلا في العام 2006، وما زالت تمنع المبادرات الثقافية الحرة، وتلاحق كل من يُعد ويُنظّم صالونًا حواريًا أو جلسة نقاشية تتناول كتابًا أو فكرة في المقاهي والأماكن العامة .(4)
عن القبائل البديلة:
في المقابل من ذلك أوجدت السُلطة قوىً اجتماعية جديدة/قديمة، كالقبائل البديلة التي تقوم مقام القديمة دون أن تلغيها، مهمتها تضامنية مساندة وداعمة. والمقصود هنا بالقوى الاجتماعية المتضامنة، أو القبائل البديلة: هي التي يتاح لها التعبير عن نفسها ضمن مؤسسة الحكم، وبواسطة رؤوساء معينين أو محددين تعترف بهم السلطة(5). ولا تأخذ هذه القوى صفة المؤسسية على الميدان، بل تتعامل معها السلطة كأفراد، تعرف متى تلجأ إليهم، وكيف توجههم. ومن أمثلة ذلك:
شيوخ القبائل:
وهم الذين تتعامل معهم الحكومة على المستوى المحلي وتدير شؤونهم وتعييناتهم وتصنيفاتهم ومنح امتيازاتهم عن طريق وزارة الداخلية. بعد أن عملت السُلطة “على تحجيم القبيلة وتقليص دورها السياسي وأهميتها، وجعلها خاضعة لها بوسائل مختلفة. فالنمو الذي حققته مؤسسات الدولة أضعف من شأن القبيلة وأهميتها في حياة الفرد الذي لم يعد معتمدًا عليها لضمان أمنه وتدبير شؤون حياته” (6).
التجار:
وهم كبار التجار ورؤساء العائلات التجارية، كما تمثلهم عادة غرفة التجارة والصناعة. بالإضافة للوزراء والتنفيذيين السابقين، وتجار إقامات العمالة الأجنبية، وملاك العقارات والأراضي الذين أثْرَوا من امتيازات قربهم من السلطة، واستفادوا من احتكارها للقوة والثروة ومن رشى ومحسوبيات أصحاب النفوذ طوال العقود الأربعة الماضية.
شيوخ المذاهب:
وهم عادة الأسماء البارزة في المذاهب الثلاثة: الإباضية والسنة والشيعة؛ حيث توجههم السُلطة للسيطرة على أتباع مذاهبهم في أوقات الصراع الاجتماعي والأزمات الاقتصادية.
مجالس إدارات الجمعيات المهنية:
والتي هي نتاج لقانون وضعته السُلطة المركزية منذ فترة طويلة ولم تستجب، حتى اللحظة لدعوات تعديله حسب متطلبات العصر وأهله.
إن النتيجة السلبية للاحتكار الفعَّال لمصادر الثروة والسُلطة في أي مجتمع، وإن أظهر استقرارًا وسكونًا ودعة، على المدى المتوسط والبعيد، هو الركود الاجتماعي والهشاشة الاقتصادية، وانسداد الأفق السياسي، واستبدال علاقة المواطنة بعلاقات مُساكنة هشة، تحركها المصالح، ويسيرها الخوف والرجاء، وتلعب عوامل العصبية القبلية والفئوية والطائفية والمذهبية، دورًا حاسمًا في التقريب والإقصاء من دوائر الثروة والسُلطة، أكثر مما تؤثر عوامل الكفاءة والجدارة والعصامية. كل ما ينجزه هذا الاحتكار، للأسف، هو التجميد القسري للقوى الاجتماعية في تقسيمات مفتعلة تهدف إلى المحافظة على ترتيبات وتوازنات آنية، وعلاقات اجتماعية مزيفة، ومتحكم بها من قبل سلطة متغولة، في الأغلب أمنية، بحكم القوة والغلبة، وتشاركها من وراء حجاب أوليغاركية (7) رأسمالية صغيرة جدًا ومتضامنة، لا هم لهما إلا الحفاظ على الوضع القائم (Status Quo) مهما استنزف ذلك من موارد البلاد المادية، وهدر للطاقات البشرية، وتفويت لفرص الإبداع الخلاَّق لأجل تنمية إنسانية مستدامة.
في المدنية المشكوك فيها
عَلُق بمدنية الدولة والمجتمع، كمفهوم وممارسة، حزمة من التشويهات. وقد ساهم الطرفان، السُلطة والمشتغلين بالعمل المدني، على تكريس هذه اللازمات العامة، المسكوت عن نقدها، والتمحيص فيها، والمراجعة لعواقبها. فأصابتهما بالتراجع، وعطّلت قدرتهما على المشاركة بفاعلية، أهمها:
المدنية في مواجهة التنظيمات التقليدية
صُوِرت المدنية على أنها خطر داهم يتربص بتكوينات المجتمع التقليدية كالقبيلة وجماعات المصالح الدينية والاقتصادية المختلفة، والتي هي بمثابة عناصر أساسية في المنظومة الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية للبلاد، ماضيًا وحاضرًا. وهذا، بطبيعة الحال، غير ممكن؛ فالمدنية لا تُلغي بالضرورة، ولا تُقصي الأفكار، ولا المكونات ولا الأوعية التي خبرها الإنسان، واطمأن لنتائجها عبر الزمن. ففي الغرب لم يتم هذا الإقصاء، بل حلّ محله حوار وتعايش وفهم واسع، استطاع أن ينقل ولاءات هذه التكوينات التقليدية المتعددة والمتصارعة إلى ولاء واحد للدولة، وإلى مفهوم موحد مورس سلوكًا عبر المواطنة، وإلى تكوينات وظيفية بديلة لا علاقة لها بروابط الدم والنسب والمصاهرة، حتّمها تطور عناصر المشاركة في النتاج والإدارة كالاتحادات والنقابات والأحزاب.
المدنية في مواجهة الدين
وجدت فكرة مدنية المجتمع والدولة نفسها فجأة في معركة شرسة في مقابل الدين. هذه المعركة استهلكت طاقات أفرادها والعاملين فيها، بل خسرت الكثير منهم نصرة للدين على حساب تطويرهما وتحسين أدائهما من الداخل. بالطبع، لا يمكن تحييد تأثير صراع المجتمع المدني في الغرب مع الكنيسة، إلا أن دينًا كالإسلام استوعب فكرة المدنية، وحث عليها، وبنى على إثرها إرثًا لا يمكن أن تخطئه عين المنصف، خاصة فيما يتعلق بالتراث الهائل من الاجتماع، والتجارة، والفنون، والعمارة، والوقف، والتطوع والمشاركة في أعمال الخير العام.
المجتمع المدني ضد الدولة
يطول الشرح في تحليل الجدل بين المجتمع المدني والدولة وتاريخ العلاقة بينهما، إلا أنه من الثابت بالتجربة، أن لا وجود لمجتمع مدني إلا في إطار الدولة، كما لا أهمية لمجتمع مدني فاعل في ظل دولة هشة وتسلطية. في المقابل، لا قيمة لدولة في موازين القوة والاستقرار إلا بوجود مجتمع مدني متنوع، حيوي، ناقد، ومراقب بوعي ويقظة لممارسات أجهزة الدولة المختلفة. إنَّ ما حصل في سلطنة عُمان، ربما لظروف تتعلق بمخاضات ولادة الدولة الحديثة وصراعها مع التيارات السياسية، خاصة اليسارية والماركسية منذ نهاية ستينات وحتى منتصف سبعينات القرن العشرين، أفقدها الثقة في المجتمع وتكويناته. وأصيبت السُلطة الحاكمة في الدولة العُمانية المعاصرة بهاجس السيطرة على كل حركات وسكنات هذا المجتمع وأفراده، مما أشاع هذه الضدية المُعطِّلة والمفوِتة لفرص بناء دولة مدنية أكثر اتزانًا.
المجتمع المدني كخطر على الأمن والاستقرار
انشغلت السُلطة في البلاد بفكرة الشك والارتياب من نشاط وحراك المجتمع المدني، وأصبحت تنظر إلى أية حركة أو رأي أو إشارة تصدر من المجتمع المدني، بجماعاته وأفراده، على أنها معارضة سياسية تهدد أركان الدولة، وتقوض السلم الاجتماعي والأمن الوطني؛ مما أنتج عزوفًا كبيرًا لدى شرائح واسعة من المواطنين من الانخراط في عملية تطوير الدولة المدنية بمفهومها الواسع والعمل على توسيع مشاركة أطرافها في مسارات تنمية البلاد. لقد ضخّمت السُلطة هذا التصور حتى عاد بنتائج عكسية عليها، وليس أدل على ذلك من: الخلافات العبثية التي تشلّ جُلّ جمعيات النفع العام اليوم حتى عن القيام بمهامها الدنيا تجاه أعضائها وقطاعاتها الصغيرة، والتقليد والرتابة ونسخ ذات الممارسات في المؤسسات الرسمية، والتكرار في الوجوه والأفكار لمعظم أعمال هذه الجمعيات. هذا ناهيك عن النَفَس القصير، وخيبة الرجاء البارزة التي يعاني منها أعضاء هذه الجمعيات، والتي تدفعهم سريعًا لهجر هذه المؤسسات والتخلي عنها لانسداد الأفق، والتضييق المتواصل، والخوف على السلامة الشخصية.
المجتمع المدني كأداة خارجية
أجادت السُلطة في ربط المجتمع المدني بفزّاعة الأجندات الخارجية؛ مما أثر جذريًا على فكرة الاطمئنان والتوازن التي يوفرها العمل المدني للناشطين فيه؛ الأمر الذي دفع غالبية المتحمسين للعمل المدني نحو السكون والمراقبة من بعد، خوفًا، ورَهبًا من اتهامهم بتهمة التخابر والتآمر على الوطن. ومن خالف ذلك منهم نالته سهام التشويه وتلطيخ السمعة بالعمالة، وتم اغتياله إعلاميًا واجتماعيًا عبر وسائل الاعلام التي تسيطر عليها السُلطة وتوجهها. في المقابل، استغلت السُلطة بذكاء ترخيصها لكثير من السفارات الأجنبية، والبرامج الدولية للتعاون وتبادل الخبرات والمعارف والعلوم، والتي هي قديمة ومقبولة ومفهومة ومرخصة، وتحت ناظريها، استغلتها إذًا، لتصوير هذه النشاطات على أنها مدخل “مشبوه” لزعزعة الأمن، إذا ما كان المستفيد مؤسسات المجتمع المدني. في الوقت الذي لم تفوّت، هي ذاتها، أي: السلطة الكثير من هذه البرامج لخدمة موظفيها، واستفادت منها لحساب المؤسسات الحكومية والرسمية، في تناقض بيّن لا يُفهم منه إلا السيطرة المطلقة وضرب فكرة المجتمع المدني المستقل.
التحديات
تعترض مدنية الدولة والمجتمع في عُمان اليوم الكثير من التحديات، والتي يمكن اعتبارها طبيعية، وفق ظروف نشأتهما (الدولة والمجتمع)، وعلاقتهما بالسُلطة. هذه التحديات محفزة لهما للتطوير والنضج، متى ما أدرك المجتمع والدولة، وحللاها، وعَمِلا على نقدها وفهمها في إطار صيرورتها الاجتماعية، والثقافية، والسياسية. نذكر منها:
التحكم المباشر لأجهزة الدولة التنفيذية (الأمنية) بالمؤسسات المدنية
ليس من مصلحة السُلطة، على المدى المتوسط والطويل، إفساد المجتمع المدني بالسيطرة عليه ومحاصرته بتوزيع المنافع المادية، وتربية الانتهازية، وتكريس وهم أن العمل الاجتماعي وسيلة للصعود والترقي للمناصب العليا. كما ليس هناك من جدوى في استمرار إدانة قيم الاستقلالية، والاختلاف، والفردية في إدارة وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني (8)؛ لأن النتيجة من ذلك هي الركود الاجتماعي، وتأخر أو تشويه نمو الدولة المدنية، وضياع مكتسباتها، وتنمية الفساد، وتحويله لمؤسسة نافذة ومتغولة، تأتي على أي تقدم مهما بدا مستقرًا وآمنًا. إن دواعي الحفاظ على الوضع القائم، والاستماتة في تكريسه تعطي مؤشرات مُضللة للدولة والمجتمع عن حقيقة الأمان والاستقرار “الراسخ”، وتجارب ثورة الربيع والحركات الاحتجاجية التي اجتاحت الوطن العربي مؤخرًا أبلغ دليل على ذلك.
غياب الخطاب التربوي والإعلامي الواعي بأهمية مدنية الدولة والمجتمع
هنا تتضح الحاجة للبناء من الأساس، فالمجتمع المدني الفاعل هو الذي يؤمن بذاته، ويدرك هذه الذات الجمعية حق الإدراك؛ مقومات قوتها، ونقاط ضعفها، من دون مبالغات أو تضليل. ويعمل المجتمع المدني بعد ذلك على تطوير أدواته في أجواء مطمئنة، بعيدة عن الخوف والوعيد. والدولة التي ترنو لمدنيتها تبدأ بالعناية بمناهج التعليم التي تربي الناشئة على مبادئها النبيلة، وتسمح لهم بممارستها واقعًا، كما تكفل حق حرية التفكير والتعبير والضمير عبر الحوارات والنقاشات المنفتحة في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، لا أن تلاحق وتستجوب وتعتقل كل ذي رأي مختلف عن السائد الاجتماعي والسياسي.
تردد الطبقة الوسطى والمهنيين والمثقفين في الاستثمار الفعلي في المجتمع المدني
لا يمكن لمجتمع مدني يعوّل عليه أن يستمر والفئة الأكثر استقرارًا وأوسع معرفةً، في أي مجتمع، كالطبقة الوسطى، والمثقفين، والعمَّال تعزف عن المساهمة الفاعلة فيه. إنَّ بناء مدنية الدولة والمجتمع عملية تراكمية مُركّبة تحتاج إلى كل أطياف المجتمع، بتعقد تناقضاتها، وتشابك مصالحها؛ إذ إنها تستثمر كل معاني التوتر والصراع والتقدم والانتكاس لدى تلك الأطياف. هذا مع احتياجها، بالضرورة، لعامل الزمن حتى تتبلور على شكل مرضٍ للأطراف الفاعلة فيه. هذه الفئات، أكثر من غيرها، تملك القدرة والخبرة والمصلحة لدفع المجتمع المدني نحو نضجه.
شيطنة الخطاب الديني للمدنية وربطه لها بتيار التغريب والدعوة إلى الانحلال عن قيم المجتمع
لا شك أن الدين مكون مهم للضمير الأخلاقي الفردي والجماعي. من هنا تكمن أهمية الفهم الواسع للمبادئ الإنسانية الكلية والتي هي أرضية مشتركة بين الدين والمجتمع المدني في جميع الثقافات البشرية؛ فليس من مصلحة الخطاب الديني شيطنة العمل المدني، ولا من صالح المجتمع المدني إقصاء المتدينين. بل إن من المهم البحث عن المشتركات المجدية، والفاعلة، والتي تحترم مرجعيات كل طرف، بلا تطرف أو غلو، ليطور المجتمع أدواته وفق مقتضيات العصر، وليس التعلق بتمثلات ذهنية لا أساس لها في الواقع، حتى في الأزمنة الغابرة التي يعُدها البعض نقطة الارتكاز والمقارنة. والأمر ذاته ينطبق على من لا يتبنَّ معارك وصراعات في أمكنة مغايرة في الظروف والمساقات كانت تمر بمراحل تطور ذهني وأخلاقي معين لا علاقة لها بإنسان ومكان عُمان المعاصر.
غياب النقد الذاتي للمؤسسات المدنية القائمة
إن التشظي الذي تعيشه هذه المؤسسات بفعل ظروف النشأة والمخاض لا يعفيها حتمًا من ممارسة النقد الذاتي، العلني، على ممارسات وقواعد السلوك والتحرك الميداني، في مجالات التخطيط، والتحشيد، والانتخابات، والإدارة وتوسيع التفاعل مع القواعد الاجتماعية. وحتى مؤسسات الدولة القائمة لا يمكنها القيام بالحد الأدنى من مهامها الوظيفية بلا نقد ذاتي، أو من دون قبولها للنقد المشروع طالما أن الهدف هو تطوير مدنية المجتمع والدولة.
إن ممارسة النقد الذاتي ضمانة لتطوير الأدوات، وشحذ الإرادات تجاه الاستقلال عن بيروقراطية الدولة المتشابهة والمتماثلة والجامدة. وهذا، بالضرورة والتوازي أيضًا، عامل مُحفز لأساتذة علم الاجتماع، والسياسة، والاقصاد السياسي، والإعلام، والإدارة، ومراكز البحث العلمي والجامعات على العمل والنحت العلمي والموضوعي في مسيرة مدنية الدولة والمجتمع، سواء على المستوى النظري أو الميداني، وعدم الاكتفاء برواية السُلطة حول المجتمع المدني، بل التشكك فيها ورفضها بالنقد والتشخيص، إذ إن المجتمع المدني ليس فكرة جامدة، ولا قالبًا ثابتًا، ولا منتجًا غريبًا بمقدورنا مقاطعته ومنعه من دخول البلاد، إنه الإنسان بكل تناقضاته ومدركاته العقلية والوجدانية، منتظمة بشكل حر، وقابلة للتطوير والتفاعل.
خاتمة
إن الدولة الحديثة القائمة في سلطنة عُمان، ما زالت تملك من الممكنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما يؤهلها لتطوير مدنية المجتمع والدولة بشكل أفضل بكثير من بقية دول المحيط الإقليمي. فالنفط ما زال في الحدود الآمنة للتدفق في العقدين القادمين القادمين على أقل تقدير، والهِبة السكانية في صالح المستقبل، نظرًا لأن الشباب يشكّلون ثلاثة أرباع السكان تقريبًا، والناس متعايشون ومنسجمون مع قيادة يُجمعون عليها ويُقدّرون لها ما أنجزته للدولة والمجتمع، إلا أن الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير؛ لذا فإن التسريع في تحول السلطة الحالية من سلطة تحكّم مباشر إلى سلطة تداول وشراكة يُعد أبرز هذه الممكنات التي تُجذّر المدنية؛ عبر فصل حقيقي بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وتكافئها لتتعاون بندّية وثقة فيما بينها، وتعزيز ممارسات الرقابة على المال العام، والمحاسبة في الإدارة العمومية، مع ضرورة صون حق حرية التفكير والتعبير، وحق اجتماع الناس وتنظيم شؤونهم.
بكلمة واحدة، نستطيع القول بأنَّ الدولة المدنية ليست إلا ذلك الكل المتكامل والمتفاعل مع العناصر البشرية والطبيعية لتحرير المجتمع المدني من تناقضاته، والاشتغال معه، بصبر، وسعة أفق، على تفجير طاقاته وإمكاناته المادية والفكرية. وإلا فإنَّ بديل القمع والقهر، والذي، وإن بدا مضمونًا لعقود، لن يستطيع الصمود أمام عواصف التغيرات الاجتماعية وأنساق الفهم والوعي الإنساني المتسارع في التطور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- تقرير التنمية البشرية، وزارة الاقتصاد الوطني، سلطنة عُمان، 2003، ص180.
2- صدر مرسوم سلطاني رقم 74/2006 قضى بتعديل قانون العمل العماني، وإنشاء نقابات عمال السلطنة.
3- قانون الجمعيات الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 14/2000.
4- لمزيد من التفاصيل انظر المقالة التوثيقية لسليمان المعمري، الصالونات الثقافية ولعبة القط والفأر، مجلة الفلق الإلكترونية
5- حلل خلدون النقيب وبشكل مُفصّل حال مجتمعات الخليج من أطروحة الحالة الطبيعية مرورًا بالدولة الريعية وانتهاءً بالدولة التسلطية، انظر: خلدون النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي محور المجتمع والدولة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط3، 2008.
6- بسمة مبارك سعيد، التجربة الدستورية في عُمان، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2013، ص67.
7- الأوليغاركية Oligarchy يُقصد به حُكم القلة صاحبة الثروة والتي تستخدم المنصب السياسي لتحقيق مصالحها الشخصية. انظر موسوعة العلوم السياسية، جامعة الكويت،1994، ص266. كذلك لمعرفة المزيد عن احتكار هذه الفئة في عمان، انظر، مقالة تفصيلية بعنوان “ويكيليكس: هيكل الاقتصاد العُماني بين قبضة الأوليجاركية وبين الحكومة“، مجلة الفلق الإلكترونية
8- انظر في هذا السياق مقالة المدون أحمد المعيني، تعليقًا على خطاب وزير الأوقاف في مجلس الدولة يصف الفردانية علي أنها خطر على المجتمع