تعتبر القضية الفلسطينية بالنسبة للأمة العربية خصوصا قضية مفصلية لا نقاش حولها، فهي قضية عروبة وتاريخ وجغرافيا، ولطالما صدحت بذلك بيانات مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية في الرخاء؛ لكن في الشدة والعزائم تتبخر هذه البيانات والقرارات لتُحفظ في أرشيف التاريخ ليغيب عنها أرشيف الواقع.
سأتحدث هنا عن القضية الفلسطينية كعماني يجمعني بها الإنسانية والدين والعروبة والتاريخ والجغرافيا واللغة، وهذه العوامل الرئيسية لا يجوز بحال من الأحوال أن تغيب عن السطح؛ لتبقى ثقافة هامشية لا قيمة لها.
مع العدوان الصهيوني الصارخ، والذي خرق جميع القوانين الدولية، والمواثيق العالمية، وتعدى جميع الرسالات السماوية، فلم يسلم من شره طفل ولا امرأة، ولا شيخ ولا جماد، ومع هذا قوبل ببرود عربي واضح وانبطاح عالمي ظاهر.
عمان كغيرها من دول العالم العربي والإسلامي، لا تعيش في المريخ لكي نقول إن الخبر يصل إليها مشوها، أو خلفه من يستغل الحوادث لمصالحه الذاتية. من باب مصائب قوم عند قوم فوائد؛ فالخبر يصل إلينا مباشرا صوتا وصورة، والألم نعيشه ونتجرعه طيلة الأسابيع الماضية، حتى كرهنا في حياتنا شيئا اسمه العيد، ويا ليت لو تأخر قليلا، وابتعد عنا هذا العام!
إنّ الضغط النفسي ليس هينا، والحكمة ليس الوقوف ضده بأي شكل من أشكال الوقوف، سواء كان بالشكل الصامت أو المتحرك، وإنما الحكمة دائما توظيف هذا الضغط في هذه القضية توظيفا عمليا منظما، حتى لا تتحول القضية إلى قضية أخرى تتجه ضد الوطن ذاته كُرها لتتجه إلى جماعات بعد ذلك لا يُحسب لها حساب.
الشارع العماني يتحرك
مع هذا السكوت والضغط النفسي كان الشارع العماني متحركا وفق المتاح له، وعلى رأس هذا النفضة العمانية: جمع التبرعات لإعانة أهل غزة؛ فقد جاد الكثيرون حتى بأعز ما يملكون، بل الأطفال جادوا بحصالاتهم، والنساء جدن بذهبهن وما يملكن من أساور وخواتم في مشهد تكافلي رائع وبديع سيخلده التاريخ عبرة لمن يأتي بعدهم بسنين.
في المقابل حاول البعض إصدار البيانات كما فعل النادي الثقافي، وكان لبعض الخطباء والأئمة دورهم في التذكير بهذه القضية وحرمة الدم، غير مبالين بتخويف الوزارة والتقيد بخطبتها التقليدية البعيدة عن القضية وواقع الحال.
كما أنّ العديد شارك في وقفة السفارة الفلسطينية التي رُخص لها لاعتبارات دبلوماسية!! إلا أنّ صوت الشارع العماني كان حاضرا وبقوة في وسائل التواصل الاجتماعية، وقد كان لقلمهم ومبدعيهم تصويرا وتجسيدا فنيا ودورا في خدمة هذه القضية، والمرحلة المفصلية في دعم المقاومة الفلسطينية، يسمون بذلك عن جميع الانتماءات الفكرية والمذهبية، والتي انصبت جميعا في خدمة القضية عدا أصوات لا قيمة لها ولا مكانة.
الصمت المقابل
ومع هذه الوقفة الشعبية المشرفة إلا أننا نجد صمتا عجيبا، قد يبرر من قبل جهات الاختصاص بتبريرات دبلوماسية، وكالعادة العمل في الخفاء إلا أننا لا نجد بحق مبررا لهذا الصمت في هذه القضية بقدر ما نجده مبررا مثلا في القضية السورية والعراقية والليبية وغيرها..
القضية الفلسطينية قضية مفصلية، وهي قضية الأمة العربية برمتها، وقبل ذلك هي قضية الإنسان، والأصل الوقوف مع هذا الإنسان، فكيف إذا كان يشترك معنا دينا ولغة وقومية وتاريخا وجغرافيا!
ثم إنّ عمان لها دورها الحضاري والتاريخي، ولا يمكن أن يهمش هذا الدور لتكون على السطح اليوم، فلابد أن يكون لها كلمتها، وأن يعود لها بعدها العربي والإسلامي والإنساني.
والأصل احتواء القضية، ليس كمحيط عماني بل كمحيط عربي، وهذه فرصة كبيرة لعودة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، بعد ما حطمتها معاهدات السلام ومفاوضات الكراسي والكلام!
لم نجد موقفا رسميا واضحا -لا في المستوى الخارجي المتمثل في وزارة الخارجية، ولا المستوى الديني المتمثل في وزارة الأوقاف، ولا في المستوى الإعلامي-، ففي المستوى الخارجي لم نجد ثمة تصريح استنكاري، أو موقف ضاغط كغيره من المواقف العربية عدا دولة قطر الشقيقة عربيا، كما أنّ الخطاب الديني في الخطب والأعياد كان بعيدا عن الواقع بل وشبه ميت، أو كان في الحقيقة أقرب ما يكون بالموت السريري، وفي الإعلام كذلك عدا ما تنشره نشرات الأخبار والصحف من بعض المقتطفات الإخبارية.
ولعل ما سجله برنامج سؤال أهل الذكر في بعض حلقاته ولو لدقائق موقفا استثنائيا في الخروج من هذا الصمت العجيب!. ثم إنّ مهرجان صلالة ذاته لم يحترم الحالة ولو بتخفيف بهجته، أو على الأقل إشعال هذه القضية وتخصيص بعض ريع المهرجان لتعمير غزة ومعالجة مرضاها، وليس للتسليح إن كنا نخاف من تسليح المقاومة. نعم هناك بعض الجهات الخيرية والرسمية التي أعلنت دعمها للقضية الفلسطينية في غزة، وهذا جهد يشكرون عليه، وعمل مبرور نبيل.
وقفة احتجاج لفتح معبر رفح
ما حدث مساء الأحد 3/8/ 2014م من وقف مستغرب لمظاهرة احتجاجية مطالبة بفتح معبر رفع ووقف الدم الفلسطيني، جعل الشارع في موقف سلبي من هذا التصرف، وأثار العديد من التساؤلات، فضلا عن صعوبة الحصول على تصريح لهذه القضية ولو لوقفة بسيطة، مما يرجع بالدور العماني الرسمي إلى الوراء، وأخشى أن يصنف بفعله هذا أن يكون شريكا كغيره من الدول العربية في إهدار الدم الفلسطيني.
ثم إنّ الأصل تشجيع هذه الوقفات حول هذه القضية، وأن يتبناها الموقف الرسمي، وأن تُدعم الشعوب بذلك، ليكون هناك من التلاقح بين الفريقين، وهذا يزيد في الثقة المتبادلة لاحقا.
حقيقة ما كنا نتوقع هذا السكوت ولا هذا المنع أبدا، ومن دولة كعمان، مما يجعلنا في المطالبة بمحاولة إعادة جدولة الحقائب الوزارية وأصحاب القرار، وتشكيل حكومة وزارية جديدة تعي ما يدور حولنا، وتكون قريبة من الشارع ومتلاحقة معه، مع إصلاح واسع في هذه الحقيبة قانونيا وعمليا.
الخلاصة
ما قامت به المقاومة من انتصارات كشفت العديد من الأوراق، وجعلت الشعوب العربية في كفة وحكوماتهم في كفة أخرى، وأصبحت العودة إلى الماضي لا قيمة لها؛ فاليوم الانتصارات لا تصنعها الحكومات بقدر ما تصنعها الشعوب، وفلسطين رائحة نصرها أصبحت تفوح في الأفق، ولكن ليس على يد جيوش الحكومات وجامعاتهم، بل على يد الشعوب المخلصة لقضيتها القومية العربية والإنسانية.
ثم إننا نرجو من الشارع العماني أن يواصل المسيرة قلما ومالا وثقافيا وفنيا وخطابيا لدعم القضية الفلسطينية، ليكون لهم سجلهم الحافل والمشرف في الأجيال القادمة، والله خير ناصر ومعين.