مقدمة:
تعتبر المتاحف و التماثيل و اللوحات التي نراها تنتشر في الكثير من بقاع العالم المختلفة، جزءا ً ضروريا ً لتخليد الكثير من الانجازات، و الشخصيات، والمسارات، التي ساهمت بأشكال ٍ متعددة في تحريك و تغيير المسار التاريخي العام و الخاص على حد ٍسواء. فهي بمعنى من المعاني تمثل ذاكرة المكان، مكان الأحداث و الزمان، زمان وقوعها و تأثيرها المباشر وغير المباشر، و المسارات اللاحقة التي جرت فيها الأحداث بشكل عام.
في هذا المقال سيتم التطرق للبانثيون أو مقبرة العظماء في فرنسا – كنموذج– و طريقته في تخليد الذاكرة الفرنسية بشكل ٍخاص، و الإنسانية بشكل ٍعام، وهو ما يدعونا للتطرق والتفكير في الجهة المقابلة للذاكرة العُمانية كما هي معروضة للرأي العام والتساؤل حول طريقة قيام الخط الرسمي الوحيد بهذه المهمة في ظل وجود اختلافات طبيعية في المسار التاريخي العماني.
التخليد الصريح:
في البانثيون أو مقبرة العظماء بالجمهورية الفرنسية العريقة، نعثر على الكثير من النصب التذكارية والأضرحة والأسماء المنقوشة والتماثيل المنحوتة واللوحات الفنية المعقدة والمعُبّرة في نفس الوقت بين أرجاء هذا المكان المهُيب، والموغل في عُمق التاريخ الفرنسي الثوري من جميع النواحي الإنسانية والسياسية والفلسفية وغيرها.
ثمة الكثير من الأسماء التي نعرفها أو تلك التي لا نعرفها لفلاسفة وروائيين وعلماء فيزياء و غيرهم من مختلف العصور و المسارات، تجتمع تحت قبة هذا المبنى المدُهش باتساعه وجمالياته المختلفة.
تبعث لنا هذه الأسماء الكثيرة والمهمة مثل ضريح الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694م-1778م) والفيلسوف السويسري المولد جان جاك روسو (1721م-1778م) وكذلك للفيلسوف هنري برجسون (1859م -1941م)، بالإضافة لتلك التماثيل التي تعبر عن الصراع الكبير الذي وقع أثناء قيام الثورة الفرنسية (1798م-1799م)، والتي أدت لحدوث الكثير من التغييرات الفلسفية و الحقوقية والإنسانية والسياسية وغيرها، ليس على المستوى الفرنسي بل على المستوى العالمي أيضاً، وهي تبعث لنا بالعديد من الإشارات الصريحة و الضمنية على حد ٍ سواء؛ فمن الممكن القول في مقدمة هذه الإشارات بأن الجمهورية الفرنسية تفتخر بتاريخها المليء بالصراعات، و المُرصع بالانجازات المُختلفة والمستمرة، شأنها في ذلك شأن العديد و الكثير من الدول، التي تُخلد هذا الصراع بوصفه حلقة ضرورية وهامة في مسار التاريخ البشري بشكل ٍ عام. من الجهة الأخرى؛ فهي ترسل إشارات واضحة و صريحة للأجيال الفرنسية تحديدا ً، و لغيرها بشكل ٍعام بضرورة العمل الثوري في محاولة لتغيير العالم و عدم الاكتفاء بالوضع الحالي للبشرية من جميع النواحي، عن طريق إبراز وتخليد هذه النماذج التي ساهمت في نقل البشرية من موضع ٍلآخر. ذلك أن البانثيون لا يمُثل الذاكرة الفرنسية فقط، بل يمثل الذاكرة البشرية التي خرجت من إطارها الضيق و المحدود إلى الأفق الإنساني و الفلسفي الواسع و العريض، والذي ساهم – على سبيل المثال- بشكل ٍ كبير في الإقرار بحقوق الانسان تساميا ً فوق التصنيفات التقليدية الضيقة.
من نافل القول أن الكثير من اللوحات والتماثيل المعروضة هنا كانت في تلك الفترة تعتبر بمثابة أفكار فردية يعتنقها القليل من البشر فقط، و هو ما يعني بأنها كانت معُارضة للمجموع الذي يعتنق أفكارا ً مغايرة، الأمر الذي يمنحنا الحق بضرورة التفكير في وجود معارضة فعلية فكرية سياسية وغيرها لكل ما هو قائم بشكل ٍ مستمر؛ لضرورة ضخ الكثير من الدماء الجديدة في مختلف المسارات الحياتية.
التخليد الخجول :
في المقابل، مقابل هذا التخليد الصريح والإشارات المختلفة التي تصل للجميع، نجد أن الكثير من الدول تقف في الطرف المقابل؛ فهي تسعى عن طريق العديد من الإجراءات المنهجية المتُبعة الى طمس الكثير من عناصر هذه الذاكرة، تلك التي تشير الى إنجازات ٍ مختلفة حدثت في أزمنة سابقة وعصور متفاوتة؛ لتُستبدل بها ذاكرة انتقائية، ربما تختص بعائلة حاكمة معينة دون بقية الأسر الأخرى، وتخليد أسماء معينة في مقابل عدم ذكر بقية الأسماء.
تتجسد طرق التخليد الخجول كما يمارسه النظام السياسي العُماني في تسمية أسماء المدارس ببعض الأسماء التاريخية العمانية، متجاهلة بذلك إنشاء متاحف أو تماثيل أو خلق طرق أخرى تتناسب مع الوضع الثقافي للسلطنة، الأمر الذي يجعلنا أمام اتجاه من ضمن اتجاهات أخرى نستطيع عن طريقها التوغل في فهم تفكير النظام السياسي العُماني في الذاكرة الجمعية المتسعة.
إذا كانت المتاحف طريقة من طرق عرض و تخليد الذاكرة الجماعية؛ فإننا نجد أن النظام العُماني قد ساهم ببتر وحذف الكثير من الأجزاء المكونة للتاريخ والتفكير العُمانييّن، واللذين ساهما بدورهما في تشكيل التاريخ العماني المعُاصر، حيث نجد لدينا بعض المتاحف القليلة التي تركز على التاريخ الجزئي لبعض المكونات الطبيعية كما هو الحال في متحف التاريخ الطبيعي، أو متحف تاريخ القوات المسلحة، بالإضافة لبعض المتاحف الفنية التي تبنتها بعض الشخصيات والأسماء البرجوازية في البلاد؛ بهدف إيصال الكثير من الرسائل الشخصية والخاصة.
إننا بكل أسف لا نجد متاحف للعلماء، أو معارض شخصية لهم، أو لتلك الشخصيات السياسية و الثورية التي ساهمت في الكثير من الأحداث التي صنعت التاريخ العماني، بغض النظر عن اتفاق السلطة الحالية مع منطلقاتهم أوعدمها؛ فتلك الأحداث و الأفكار ليست مُلكا ً لنظام سياسي معين، بل هي شأن عمومي ومن حق جميع المواطنين معرفته، و الإطلاع عليه، وهو ما يعني أن هذا الحق تاريخي في الأساس و ليس سياسيا ً ولا يمكنه أن يكون كذلك؛ لكونه يرتبط بحق المعرفة الأنطولوجية التي يحملها الإنسان معه منذ مولده، وباعتباره ليس منحة من السلطة السياسية لأحد.
ثمة الكثير من الإغراء والتحفيز تمارسه المتاحف والنقوش والتماثيل المعروضة في مختلف الأماكن العمومية في المدن الكبيرة أو خارجها؛ فهي تقوم بتحفيز الرائي لها – المحلي بشكل خاص-؛ للبحث عن هذه الشخصية و انجازاتها، وخلفيتها التاريخية وسياقها العام الذي أدى لظهورها، والتنقيب ربما في الكثير من أعمالها، و التعمق فيها لفهم أهمية هذه الشخصية، و هو ما ينمي الى حد ٍ كبير الحس الوطني التاريخي و يعمق الرغبة في القيام بالكثير من الانجازات المختلفة أو المشابهة لها. إنها بمعنى من المعاني تكون بديلا ً عن السوبر ستار الرياضي و الفني و الوعظي و غيرها، مع الاحترام لكل منها؛ لتعني الالتفات لما هو جوهري و عميق في تغيير المجتمعات من زاوية فكرية لأخرى.
في حين يستطيع الزائر على المستوى غير محلي تكوين فكرة عمومية عن الكثير من الأحداث التي وقعت، بما يسمح لها بتكوين فكرة متوازنة عن الوضع المعاصر بعيدا ً عن العتاد الرسمي الذي يقدم صورة غير متوازنة، وغير موضوعية للكثير من هذه المكونات.
خاتمة :
ثمة أكثر من طريقة لتخليد التاريخ و الاحتفاظ به أو نشره للرأي العام، وبعض هذه الطرق خجولة و انتقائية لحد كبير و مبالغ فيه؛ فهي تضع المتابع لها في صورة “أن لا وجود لشخصيات تاريخية، أو وطنية غيرها”؛ في حين أن التاريخ الفعلي زاخر بالكثير من هذه الشخصيات المختلفة. وفي المقابل نجد أن التخليد الصريح هو محاولة لوضع الجميع في مكان واحد، و تحت سقف واحد بوصفهم ينتمون لتاريخ الدولة المشترك، وذلك عن طريق وضع الكثير من العلامات والرموز الدالة على إنجازاتهم، و ضرورة إيصالها للرأي العام.
ينتشر التخليد الخجول والانتقائي تحت الأنظمة السياسية الأحادية، تلك التي لا ترى من الوضع السياسي و التاريخي على حد ٍ سواء إلا ما يناسبها و يتوافق مع رؤيتها الايدلوجية، والتي تقتضي بنزع “صفة المنفعة العامة” عن جميع ما عداها؛ فهي بهذا المعنى تمارس الوصاية على التفكير و تكوين الآراء بحرية تامة، عن طريق انتقاء و تجزئة التاريخ العمومي و الواسع.
جميل ما تطرق له المقال من موضوع. ولي في طريقة حفظ التاريخ العماني لرئي الكاتب شيء من عدم الاتفاق. بالنظر للاعتبارات الثقافية والدينية للعمانين لابد من تكييف طرق حفظ وعرض التاريخ العماني مع هذه الاعتبارات كونها تلعب دور بارز في مقومات الإنسان العماني الأصيل. وما ذكره الكاتب في اتخاذ طريقة فرنسا لتاريخها تجربة يستفاد منها فيما لا يتنافى مع تلك الاعتبارات. إما في الوقوف على تخليد الخجول لتاريخ عمان فاتفق.