جرت العادة حين الخوض في مواضيع تتعلق بـ الجنسية ، وعلاقة المواطن ببلده، أن يتم الاعتماد على نصوص قانونية، وتقديم تفسيرات حقوقية، تتماشى مع أي وضع، أو تتعارض معه، رغبة في تقديم صورة متكاملة وقانونية حول هذه المواضيع وتأصيلها. لكن سأعتمد هنا على رأيي الخاص وحده، بعيدا عن وجهات نظر القانونيين أو الحقوقيين، وسوف أتناول المرسوم 38/2014 كمواطن عادي ينتمي لهذه الأرض، وتمتد جذوره فيها إلى عمق لا حصر لتناهيه.
الجنسية موضوع واضح جدا، واضح في انتماء الإنسان لأي أرض؛ فلا مقاييس “تصفه”، ولا أدوات من الممكن استخدامها لقياس مدى “أحقيته” من عدمها. وواضح عدم أحقية أي طرف في “فك” هذا الارتباط، وواضح عدم إمكانية أي وثيقة أن تكون محل “إثبات” أو “نفي” لهذا الارتباط. ومن هنا لن أعتمد على أي سند قانوني دولي أو محلي في حديثي عن هذا المرسوم.
أولا: صدور المرسوم في هذا التوقيت بالذات، وفي الوقت الذي يتم فيه تناقل أخبار كثيرة لم تثبت صحتها حتى الآن، حول صحة السلطان قابوس وأنباء عن إصابته بمرض خطير، يرجح على أنه “سرطان الأمعاء”، مما يعني أن المرسوم معني بمرحلة لاحقة، يتم الإعداد لها بقوانين أمنية “حازمة”، لا تعطي لأي فرد عماني -سواء انتمى إلى عائلة البوسعيد “آل سعيد”، أو كان مواطنا عاديا- أي مجال ليعارض أي قرارات تصدر، أو أن يعارض اسم “السلطان” القادم؛ فمهما كان شكل التفسيرات والتوضيحات التي صاحبت وبصورة غير رسمية صدور المرسوم، إلا أننا وحين نتحدث عن “جنسية” فهذا يعني أننا نتحدث عن “علو كعب” الخيار الأمني أمام أيّ إشكالات تواجه السلطة!، وهو ما تعودناه فعلا منذ 2011م، وهو العام الذي ساهم فيه الحراك الاحتجاجي إلى ترجمة “دور المؤسسة الأمنية” على الواقع، بعدما كانت مجرد تكهنات.
ثانيا: تطرق المرسوم إلى ثلاثة مجالات متمثلة في (الفقد، والإسقاط، والسحب)، في إشارة واضحة إلى مدى السعي نحو “الحل الأمني”؛ لتدارك أي وضع أو تداع لأي أزمة، ولذلك أتى “الفقد” متعلقا بفقدان أي عمانيّ لجنسيته تلقائيا في حالة اكتسابه أي جنسية أخرى، و”لإسقاط” العقاب المباشر لأي نشاط “سياسي مدني وحقوقي، معارض أو “فاضح” لأي انتهاكات تتعمدها السلطة، و”السحب” لأي عماني اكتسب “الجنسية” لاحقا.
ثالثا، تجاهل مجلسي “الشورى” و”الدولة” المناط بهما السلطة التشريعية (الشكلية) في عمان، وهذا التجاهل وإن كان متوقعا في وضع كهذا، إلا أنه كان مُهينا للمؤسستين -إن لم يكن صفعة لإيقاظهما من حلم التشريعية-؛ وذلك بسبب قيام العديد من أعضائها ومنذ فترة طويلة بامتداح “العافية البرلمانية” التي عليها البلاد، والديمقراطية التي تشهدها، رغم مطالبة هؤلاء الأعضاء أنفسهم بمزيد من الصلاحيات تُمكن “الشورى” من أن يكون “برلمانا” حقيقيا، وليس مجرد شكليات.
ومسألة التجاهل تؤكد بما لا يدع للشك، أن المرسوم 38/2014 خطوة أمنية بحتة. وبالتالي فإنها تدحض كل التفسيرات والتأويلات اللارسمية التي صاحبته.
رابعا: تجاهل القضاء عبر تخصيص مادة في الفصل الأول من قانون الجنسية المفسر للمرسوم، وهي المادة 4:”لاتختص المحاكم بالنظر في مسائل الجنسية والمنازعات المتعلقة بها”.
إن عدم وجود أي نص أو مادة لتفسير عدم السماح للقضاء في التدخل في هكذا أمر، يؤكد كذلك أن هناك نية مبيتة للتحرك الإجرائي اتجاه سحب الجنسيات، وأن هذا التحرك من الطبيعي أن يكون سياسيا بطبيعته، الهدف منه “عقابي” لا أكثر.
خامسا: المادة 20 في الفصل الرابع تعطي انطباعا مبدئيا أن المرسوم لم يصدر أو لم يتم الإضافة والتغيير فيه على المرسوم السابق (3/1983) إلا لهذه المادة، وهي عبارة عن نصوص تفسيرية/إجرائية لوضعية “إسقاط” الجنسية وكيفية العقاب. وأتت المادة في نقاطها الــثلاث فضفاضة غير متبوعة بعبارات أو نصوص تفسيرية، فمثلا:
– عبارة “الانتماء لجماعات أو انتماءات أو عقائد”، من السهل جدا توسيعها لتشمل أي نشاط حقوقي وقانوني واجتماعي وسياسي، ويحمل توجهات مخالفة “لخطط الحكومة” أو مؤسساتها، وهو أمر أصبح طبيعي جدا بعد موجة الحركات الاحتجاجية في 2011، والأصوات التي استمرت في معارضتها لعمل الحكومة وبعض قوانينها وملفات الفساد المتحفظ عليها.
– عبارة “العمل لحساب الدول الأجنبية”، فيها خطر كبير على الصحفيين والإعلاميين والحقوقيين بصورة عامة، وطريقة العقاب والثواب بمنطق “العصا والجزرة” تمثلت في شرطية التخلي عن العمل طالما طلبت الحكومة ذلك.
ومبدأ الثواب والعقاب يثبت نفسه كخيار آخر لأي عماني، في آخر نص في هذه المادة: “يجوز رد الجنسية إذا زالت أسباب الإسقاط”، وهذا ما يعني أن المسألة تتعلق “بنشاط” ضد المؤسسة الرسمية فقط؛ ولكن المادة أتت لتتحدث عن “عمان”، كما تم ذكر ذلك في كل نقاط المادة 20 – “تضر بمصلحة عمان” “طلب الحكومة العمانية” “ضد مصلحة عمان”-، وهذا الدمج الـ “غير عفوي” بين كيان إداري وظيفي كالحكومة أو النظام بأكمله، وبين الدولة أو البلد، فيه خطر مرتبط بالنصوص الفضفاضة التي سبق أن ذكرتها.
لا يحق لأي كائن كان أن يسحب الجنسية عن أي عماني مهما كانت الدرجة الوظيفية لهذا الشخص؛ فالقوانين والعقوبات التي تتبع أي انتهاك أو جريمة كافية وبصورة لا تدع مجالا للشك إلى عقوبة أي شخص طالما “انتهك القانون” دون الحاجة إلى اللعب على وتر “الانتماء”، ولكن المرسوم أتى سياسيا بحتا مستندا على توصيات أمنية؛ لأجل تمهيد الطريق لمرحلة قادمة عبر تذليل أي عقبات وصعوبات في المرحلة الحالية، مستفيدا من الوضع “الأمني العالمي” الذي تمرّ به المنطقة ككل، متعللا أن المرسوم في بعض جوانبه يخص كل مواطن يشترك في أنظمة إرهابية؛ ولكن ذلك لم يتم ذكره نصا في المرسوم.
كما أن المرسوم لم يتطرق مطلقا لقضايا نهب المال العام، وسرقة ثروات الوطن وخيانة المسؤولية، وهي مسألة أكثر أهمية وحساسية حين يتعلق الأمر بخيانة الأمانة المنوطة بأي مسؤول، فكيف يعاقب النظام أبناءه!!
صدور المرسوم بحد ذاته خيبة، من ناحية المضمون الذي أتى به، ومن ناحية الجهة التي صدر منها!.
ذلك أن الخيار الأمني، ما كان يُعرف عن بلد كــعمان سابقا، ورغم انتقادات العديد من القانونيين والأكاديميين والكتّاب العمانيين لخطوة سحب الجنسيات التي شهدتها الكويت قريبا، إلا أن هؤلاء التزموا الصمت حيال هذا المرسوم، بل حتى أعضاء “الشورى” و”الدولة” لم نسمع لهم صوتا ولم نقرأ لهم حرفا. وكما أن يصدر مرسوما من “السلطان” بعد 44 عاما، بهذا الشكل المخيف؛ فمن الطبيعي أن يتبعه الكثير من التكهنات حول حقيقة إذا ما صدر المرسوم من السلطان نفسه وسط “معمعة” الإشاعات المتعلقه بعلاجه وصحته، وما إذا كان المرسوم مصدره طرف آخر، هو طرف أمنيّ أكثر من كونه وطنيّ.