كان الإنسان فيما مضى ينظر للطبيعة نظرة مُهيبة، بل ويُعد ظواهرها كالعواصف والأمطار علامات على رضى أو سخط الرب. وكان البعض ينقطع للتأمل؛ ليكتشف في النهاية أنه ضعيف جدا أمام هذه الطبيعة ؛ وبالتالي يزداد تمسكه بإلهه أيا كان. أما في عصرنا الحديث، بعد أن قامت العلوم بتفسير معظم الظواهر الطبيعية الحسية واللاحسية، برزت أسئلة مهمة حول علاقتنا بالطبيعة. هل مازالت نظرتنا لها كما كانت لدى أسلافنا؟، أم أن اكتشافات وتفسيرات العلوم الحديثة للطبيعة غيرت من تصوراتنا حولها؟، وهل هذه الاكتشافات المتوالية أفقدتنا تلك الهالة من التسليم الإيماني المطلق بالمقدرة الإلهية؟.
إن الإنسان بطبعه يميل إلى تضخيم وتهويل كل ماهو غامض عصي الفهم، أما عند تفسيره يبدو له الأمر سهلا يمكن التعاطي معه. وقد دأب علماء الطبيعة في اكتشاف أسرار العالم، بحيث جعلوا من الماء مجرد ذرة اكسجين، وذرتين من الهيدروجين، ومن الزلزال حركة واهتزاز للصفائح الأرضية، وهذه التفسيرات المنطقية جعلت علاقة الإنسان بالطبيعةعلاقة منفعة حتمية، لاتستحق التوقف عندها كثيرا، أو بمعنى آخر كانت نتيجتها “علمنة الروح”، وتفريغ مكونات الطبيعة من قدسيتها.
في الحقيقة، إن الإنسان جزء من الطبيعة، تفاعل معها عبر العصور بأشكال عدة؛ فالإنسان البدائي الأول استفاد منها بقدر امكانياته وقدراته المحدوده، وهي بدورها لم تبخل عليه بثلاثية (الماء والنار والهواء)، بل إنه عظّم الطبيعة للحد الذي لم يتورع فيه عن عبادة بعض مكوناتها كالنار، حيث تذكر بعض المصادر أن قابيل ابن آدم هو أول من عبد النار وتبعه بعدها أقوام كثيرون؛ فالدافع الوجداني للإيمان بأمر كهذا – برأيي- في المقام الأول هو الخوف. فالبشر جبلوا على تعظيم ماهو أكثر منهم قوة؛ إتقاء لشره وإحتماء به من شرور غيره. هذا التعظيم في أصله ليس سوى تشبث بالحياة من خلال عبادة مكون رئيسي فيها، وبدونه تختل الحياة على ظهر الأرض وتنتهي البشرية. أما الدافع الثاني، فهو الإمتنان الذي يُعبر عنه من خلال ممارسة بعض الطقوس والشعائر.
ولعل أكثر الفلاسفه الذين تناولوا موضوع الطبيعة وعلاقة الإنسان بها هو ديكارت، حيث انتقد في إحدى أطروحاته التعرف على الطبيعه نظريا، بل ودعا إلى تسخيرها لمصلحة الإنسان بحيث يُصبح سيدا عليها ومالكا لها. وقد يرى البعض “رأي ديكارت” على أنه دعوة للإستمرار في التقدم العلمي؛ للحصول على الإستفادة القصوى من الطبيعة، بينما يراه آخرون دعوة نحو استنزاف لامبرر للطبيعة وإخلال بحياة باقي الكائنات فيها خاصة إذا ما علمنا أن الإنسان لايشكل إلا نصف بالمئة من الكتلة الحيوية للكوكب الأزرق.
إن الحداثه برأسماليتها جعلت منا كائنات مادية مستهلكة، لايكاد الواحد منا في مشيه السريع إلى عمله يرفع رأسه متأملا لون السماء أو اصفرار خيوط الشمس الأولى، وحتى تلك الأوقات التي نقتنصها من وقتنا للتنزه، قلما نذهب فيها للطبيعة المجردة التي لم نتدخل فيها بتحسين وعمران. ومن المفيد الاعتراف أن الحداثة أكسبتنا تلك الأيديولوجية التي تصنفنا على أننا الكائن الأقوى في الطبيعة والوصي الأول لها، بل أننا نتشدق بإهتمامنا بالطبيعة من خلال شعارات مُظللة تنادي بها جمعيات حماية البيئة، ونزعم أنه أمر نابع من تطبيقنا لقاعدة (لاضرر ولا ضرار)؛ بينما الدافع الحقيقي لهذا الإهتمام هو رغبتنا في الحفاظ على مصالحنا في الطبيعة. هذه النظرة الفوقية قد تكون تكونت لدى الإنسان كونه الكائن الوحيد العاقل الذي استطاع أن يرّوض الطبيعة لصالحه؛ لكن “هل هذا عذر مقبول يعلل بعض الممارسات الظالمة في حق الطبيعة من قبل مجتمع التمدن البشري كمخلفات الإشعاعات النوويه والتلوث بكافة أشكاله؟”. خاصة وأن ضرر هذه الأوتونوميا البشرية طال كثيرا من كائنات البر والبحر، ودفعت دون ذنب كلفته الباهظة بالإنقراض أوالنفوق أوالموت.
إن البيئة ليست مجرد أداة جامدة للإنتفاع المادي، بل أن لها تأثير كبير في طباع الإنسان وسلوكه، ولها تدخل كبير في تشكيل هوية الإنسان وذاته، وليس أبلغ وصفا من عبارة هيدغر: “المكان هو نمط كينونتنا، وليس نعتا خارجيا لنا “؛ أي أن المكان هو ما يجعلنا “مانحن عليه”؛ فهو المسبب والدافع، وكمثال بالغ الوضوح نجد أن سكان المناطق الصحروايه الجافة يميلون إلى الغلظة والشدة، وعلى النقيض تثبت الدراسات أن سكان المناطق الباردة يميلون إلى التأني والبرود في أحيان كثيرة. ولعل جميعنا يتذكر قصة علي بن الجهم البدوي الذي مدح الخليفة المتوكل بأبيات مطلعها: “أنت كالكلب في حفظك للود…و كالتيس في قراع الخطوب”
وعندها أمر الخليفة بأن يوضع الجهني في بيت محفوف بالأشجار على شاطئ دجله؛ ليتهذب خلقه ويطيب كلمه، وعاد بعدها بمدة لينشد أمام المتوكل رائعته المشهورة: “عيون المها بين الرصافة و الجسر…جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري”
ولا أدري أي قصيدة سينشدها الجهني لو أنه عاش بين ظهرانيها اليوم؛ فلعله سيألف أبيات يلهمه بها جهاز ذكي أو إختراع عبقري!
وعلى جانب أخر، ظهر في العصر الحديث ولدى المسلمين ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن، وهو علم يربط الإكتشافات العلميه للطبيعة بأدلتها من القرأن، كطريقة لتأكيد أن هذا القرآن هو كلام الله الصالح لكل زمان ومكان. هذا العلم أثار وما يزال الكثير من الجدل خاصة وأن الكثيرين اتهموا علمائه بأنهم بالغوا في تحميل القرآن مالايحتمل من التأويلات. إن هذا العلم –برأيي- هو محاولة العلماء لتقديم الدين بطريقه عصرية ومتجدده وإحياء التأمل كعبادة أصيلة في الإسلام، انطلاقا من قوله تعالى “قل سيروا في الأرض” . فهل سيعمق هذا العلم علاقتنا مع الطبيعة بما يزيد من إيماننا ويحقق وجودنا كخلفاء على هذه الأرض؟. أم أن الحداثة ستقصي كل محاولة لإضفاء الروحانيه على العلم؟.