مؤخرا بينما كنت أقلب القنوات العربية، لفت نظري كلام الفنان المصري لطفي لبيب في لقاء حواري ردا على سؤال المذيعة حول علاقة الفن بالسياسة، حيث قال :”الفنانون هم جزء من الشعب الذي يجب أن يتحرك مع الأحداث. إن السياسة ليست حكرا على السياسيين، فهي تشاركنا الأكل والشرب وكل نواحي الحياة، بل هي شأن خاص بالنسبة لكل واحد منا”. وليس من قبيل الصدفة أن تُعد السياسة فن له قواعده وأصوله وتطوراته، وأن يتخذ الساسة نخبة من المحللين السياسيين لمشاورتهم في أي خطوة وأي تصريح؛ نظرا لدراستهم وخبرتهم الطويلة في المجال. ويكفيك كمواطن أن تفتح إذاعة أو قناة تلفزيونية حتى يطالعك المحللين السياسيين بشروحاتهم المسهبة حول الأوضاع الراهنة، وتوقعاتهم المستقبلية لما ستؤول إليه الأمور.
تعتبر نظرية (الفن للفن) التي ظهرت في القرن التاسع عشر الفن بكافة أشكاله غاية بحد ذاتها، وتعده جمالا مجردا لا يهدف إلى التعبير عن ذات الفنان، ولا مجتمعه ولايتقيد بأي حدود دينية أو اجتماعية. كما إن ليس من مهامه أن يكون معلما للأخلاق أو واعظا ومرشدا للناس. وعلى هذا الأساس فإن التسلية هي الهدف الأول والأخير عند اتباع هذه النظرية، ولعل هذا مايفسر ظهور مسرحيات خاليه من المضمون في تلك الفتره مثل مسرحية (سالومي) التي تجسد علاقة حب بين فتاة عذراء ويوحنا المعمدان. وعلى النقيض تشدد نظرية الإنعكاس للفنون على دور الفن في إلقاء الضوء على الواقع السياسي والاقتصادي للمجتمع، ويسخر أتباعها مثل (سارتر) من نظرية (الفن للفن) معتبرين أنه يستحيل فصل الفن بأي حال من الأحوال عن الواقع، وأن تأثير الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ستظهر في هذا الواقع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة وأنه يفترض بالفنان أن يكون حساسا تجاه قضايا المجتمع، وأن يضع في إعتباره أن التاريخ سيوثق أعماله الفنية سواء الغنائية أو التمثيلية أو السينمائية على أنها جزء من الحضارة.
لقد كشف الربيع العربي مدى أهمية اتحاد السياسة والفن خاصة في الأزمات؛ فإذا نظرنا إلى ثورة مصر -على سبيل المثال- فإن من الاجراءات التي اتخذتها حكومة الرئيس المخلوع حسني مبارك في بداية الثورة، أن قامت باستضافة الفنانين والأدباء في وسائل الإعلام الرسمية من أجل تهدئة الجماهير الغاضبة وحثهم على العودة لمنازلهم، وبالطبع واجهت هذه المخاطرة تيار الثورة الجارف مقابل وعود سخية بالمال والجاه. واستمر الإتكاء على عصا الفنانين وشعبيتهم إلى زمن الرئيس (السيسي)؛ حيث احتشدت مجموعة كبيرة من الفنانين المصريين في منابر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي؛ لتحسين صورة السيسي كرئيس مُنتخب حتى قبل إعلان ترشحه، بل امتد هذا التأييد إلى خارج مصر بطرق مباشرة أو غير مباشرة، من خلال تمرير أفكار معينه واللعب على أوتار الوطنية كما في أغنية (بشرة خير)، والتي وصل عدد متابعيها في اليوتيوب – في قناة الفنان وحده- إلى أكثر من 37 مليون شخص.
ناجي العلي: وهو الرسام الكاريكاتيري الفلسطيني الذي رسم أكثر من أربعين ألف كاريكاتير، والذي ابتكر شخصية (حنظله) الشهيرة كرمز للتعبير عن المعاناة الفلسطينية وخذلان العرب، كان رجلا معارضا ثائرا أو كما يقول عن نفسه: “متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها. أنا منحاز لمن هم (تحت)، المسأله هي أن نكون أو لا نكون، التحدي قائم والمسؤولية تاريخية “. وقد عبر في غالب كاريكاتيراته عن استيائه من بعض القيادات في السلطة الفلسطينية، ورسم كاركاتيرات تنقد بشكل لاذع بعض الحكومات العربية. وبسبب مواقفه الجريئة اكتسب ناجي شعبية كبيرة، وانتشرت رسوماته الفاضحه للسياسات الفاسدة في أرجاء العالم عامة ووطنه الأم خاصة، مما أدى إلى اغتياله في لندن عام 1997. في الحقيقة، الفنان لم يقم الفنان ناجي العلي بأكثر من إبداء رأيه كحق مكفول كأي انسان، ولكن لسوء الحظ تعارضت المصالح السياسية مع الانسان/ الفنان والتي قد تؤدي – في بلداننا العربية خاصة- إلى نتائج لا تحمد عقباها.
إن تداخل الفن والسياسة أمر طبيعي، ولكن أن تتحول هذه العلاقة إلى أمر سري يُدار في الخفاء، وتُمرر فيه الصفقات تحت الطاولة؛ فإن الأمر يدعو للريبة. وأن تحظى فنانة مشهورة مثلا بدعم من حزبها المسلح؛ فإن الأمر يثير العديد من الأسئلة. فما هي الفائدة التي يجنيها هؤلاء الساسة من دعم فنانين يبدون ظاهريا “لا ناقة لهم في السياسة ولا جمل؟”، وهل يقوم هؤلاء الساسه بإستخدام الفنانين والممثلين كوسطاء؟، أم أنهم مجرد واجهة للتفاخر أمام الخصوم؟. ما يثير الشفقة حقا أنه نظرا لتقلب السياسة وتغير المصالح، ينقلب السحر على الساحر؛ فتكون نهاية هؤلاء الفنانين الإغتيال أو الموت في ظروف غامضة.
على نفس الصعيد، أثارت رواية شيفرة دافنشي (لدان براون) الكثير من الضجة حول العالم، خاصة وأنها قدمت رسومات أشهر فناني العالم ليوناردوا دافنشي على أنها شيفرات لحركة سرية كان هو عضو هام فيها. بل أن الأمر وصل حد منع الرواية من التوزيع في بعض الدول العربية والغربية وأبرزها الفتيكان، الذي اعترض على محتويات الرواية لأنها -كما ذكر- تتناول علاقة المسيح بـمريم المجدلية بطريقة منافية لما هو مذكور بالكتب المقدسة، بالإضافة إلى كونها تصور البابوات على أنهم طلاب سلطة ومحبي كراسي أكثر من كونهم رجال دين . والأمر الذي يستدعي التوقف عنده هو حجم التخوف من تأثير رواية خيالية على أذهان القراء لدى من قاموا بمنع تداول الرواية. وتسأل العديدين حول صحة المعلومات التي أوردتها الرواية خاصة وأنها دعمت بأدلة وشروحات للوحات الفنية. هل كان براون ذكيا؛ ففضل تمرير وثائقه السرية عن طريقه روايته بدل ويكيليكس؟، أم أن الفن وإن كان خياليا قادر على اللعب بعقول القراء حد إرغامهم على تصديق أمور لم تحدث أصلا؟.