في دراسة نفسية اجتماعية قام بها الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الرائع: الإنسان المهدور، وضح فيها حجازي كيف يعيش الإنسان في وطن يهدر وعيه وفكره وطاقته وحقه في الحياة وحرية الرأي والتعبير؛ فالإنسان هو الكائن الوحيد على الارض الذي لا يقتصر وجوده على إشباع الغرائز الأساسية (غرائز الطعام والنوم و الجنس)، بل إن التجاوز خصيصة نفسية متأصلة فيه، بحيث يرغب دائما أن يتجاوز ما يضمن له البقاء حيا، إلى بناء مشروعه الوجودي الخاص به؛ فالإنسان يبحث دائما عن من يعترف به وبكيانه وقيمته، في محاولة منه لإثبات ذاته المستقلة. إنه يريد أن يُعترف به من قبل الآخرين، وأن يسعى لتحقيق أقصى إمكانياته العقلية والجسدية والنفسية، حتى يشعر بالرضا عن وجوده، وأن أية محاولة لتضييق خيارات الانسان وإمكانياته في الحياة، هي محاولة هدر له أكان واعيا بهذا الهدر أم لم يعي.
و(هدر) الشيء: أبطله، ويقال (هدر) الغلام: أراغ الكلام وهو صغير، ويقال: أهدر دمه، أي أباحه وأسقط القصاص فيه والدية، و(تهادر) القوم: أبطلوا دمائهم بينهم وأباحوها. (المعجم الوسيط).
والهدر له ألوان؛ فهو يشمل هدر الجسد والعقل والنفس. وهدر الإنسان يعني ” التنكر لإنسانيته، وعدم الاعتراف بقيمته وحصانته وكيانه وحقوقه” ( مصطفى حجازي).
ويعاني الإنسان في الوطن العربي من مثلث الموت الذي يعمل على تضييق الخناق عليه، ويساهم في هدر إنسانيته، أو كما يسميه الدكتور مصطفى حجازي “ثلاثي الهدر ” وهي : الاستبداد السياسي ( حكم البوليس والمخابرات)، والأصوليات والعصبيات.
فلطالما رفع المواطن العربي شعارات تطالب بالديمقراطية والحرية، وأسرف العديد من الكتاب في الحديث عن الحلم الديمقراطي والقفز إليه، دون إدراك أن المواطن العربي مغيب في وعيه وفكره، ليس فقط من قبل الأنظمة السياسية المستبدة فحسب بل أيضا من قبل الأصوليات والعصبيات التي تحكم المجتمع. والحق أن الاستبداد السياسي يستطيع التوسع ويجد تربته الخصبة في المجتمعات التي تزيد فيها الأصولية والعصبية؛ فهناك علاقة طردية بين النظام السياسي المستبد، والمجتمع الأصولي والعصبي . ولذلك أُفضل البدء في الحديث عن الأصوليات والعصبيات قبل التطرق إلى الحديث عن الاستبداد السياسي، وجميعها تتضافر لهدر فكر الانسان العربي وإنسانيته.
والأصولية الدينية التي يطرحها الكاتب هي حينما يتم تعطيل الفكر، وتسليم مطلق التفسير وتأويل النصوص الدينية لمجموعة من رجال الدين، تمارس سلطة احتكار الحقيقة لها وحدها. بحيث تصبح الحقيقة محتكرة في تفسير واحد وحركة واحدة وتوجه واحد، ومن الملاحظ أن الأصوليين لا يتبعون فكرة * وجود احتمالات عديدة* وتفاسير أخرى، وأن كل ما يتم بحثه ودراسته هو مقاربات ومحاولات فقط للاقتراب من الحقيقة والصواب وليس الحقيقة المطلقة ذاتها!. فهم لا يستطيعون التفريق بين (الحقيقة ذاتها) وبين (الرؤى والتفسيرات)، حيث تتسع مساحة الاختلاف والتعدد والتنوع، ويكون لهم مطلق التحريم والتحليل، وتستخدم في الأغلب طرق تخدير الفكر عن طريق الخطاب الديني الرنان المليء بالألفاظ القوية والمزخرفة التي تلهب خيال العامة والمفتقر للمعاني العميقة المواكبة لروح العصر. كما أن الأصوليين يميلون لتبني وتشجيع ثقافة الاجابات الجاهزة في مقابل طرح الأسئلة الفردية، ويكثرون من استخدام استراتيجية الثواب والعقاب الناجعة لإقناع الآخرين أو إخافتهم، وجعلهم يبتعدون عن ممارسة التفكير النقدي الذاتي؛ لذلك تجد البعض يخشون من طرح الأسئلة ومواجهة ذواتهم، خشية أن تتحطم أوهامهم أو خوفا من العقاب الإلهي المنتظر، وربما وصل بعضهم إلى مرحلة * الوسواس القهري* حيث يقوم الشخص بتكرار الفعل كالوضوء أكثر من مرة أو الصلاة أكثر من مرة. ويحاول أصحاب السلطة الدينية إيهام الناس أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى المستوى الفكري والديني الذي لديهم؛ لانهم غير متخصصين وغير دارسي علوم الفقه وغيرها، ويشيع في البيئة الأصولية الحنين للماضي وتقديسه، وجعله معيارا ثابتا للحق المطلق، حيث يتحول إتباع السلف شرطا لأجل النهضة دون تحديد من هم السلف المعنيين بذلك، وأي توجه ديني بالتحديد؟.
فالسلف أنفسهم كانوا فيما بينهم يختلفون وينقدون بعضهم البعض، ولديهم توجهات وتيارات مختلفة، وهم يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة. من هنا نجد أن الأصوليين يميلون إلى أسطرة الماضي وتجميد الحاضر، ويتبعون استراتيجية تشطير العالم إلى قوى خير تتمثل في طريقهم الوحيد الصحيح، وقوى شر لكل من يخالفهم، ولذلك لاريب في أن الانسان المغيب سيحتقر الآخرين ويزدريهم ويلغيهم لأنهم يمثلون (طريق الشيطان) ورمزية الشر، دون محاولة منه في أن يعرفهم أو يستفيد من خبراتهم وأفكارهم، حيث يتقوقع الإنسان في دائرة مغلقة نتيجة تشبعه بالفكر المؤامراتي والذي يتحول إلى بارانويا نفسية في بعض الأحيان، حينما يشعر أن الآخرين حتما يهددونه ويريدون زعزعة كيانه وسلطته واستقراره.
ويزداد الأمر سوءا حينما تمارس الأصولية دورها بجانب العصبيات. والعصبية نسبة إلى العصبة، وهي وفق تعريف الجابري: “جماعة الأقارب المرتبطين ببعض والمتلازمين ببعض”.
حيث أن الفرد يجد لديه روابط مادية ومعنوية مشتركة في الآخر مما يجعله يشكل معها لحمة واحدة. وهي لا تشمل فقط عصبية النسب والقربى؛ بل تمتد إلى القبيلة أو الطائفة أو العقيدة أو حتى العصبية السياسية. وهي نظام مغلق يميل إلى التكرار والمحافظة على ما هو موجود مسبقا، وإعادة إنتاجه بنفس الصياغة دون تجديد أو نقد أو تغيير، كما أنها قائمة على مبدأ القوة والفوقية، أي أن القوي وصاحب السلطة هو من يملك (الحسب والنسب والجاه)، وهو الذي يفرض شروطه وليس على مبدأ الكفاءة الذاتية أو مرجعية الفرد ذاته، بل أن التماهي مع مرجعية العصبية سواء أكانت قبيلة أم طائفة، هو الذي يجعل الفرد في مأمن وسلام وقبول من قبل أفرادها، وإلا الطرد من الجماعة ومواجهة ضريبة الاختلاف عنها.
ولا يقتصر دور العصبيات القبلية والطائفية عند هذا الحد، بل نجدها العامل المحرك في المؤسسات وأجهزة الادارة في العديد من الجهات. يقول الدكتور مصطفى حجازي “ينادي المسؤولون بحكم المؤسسات وحكم القانون ونظم الإدارة الحديثة ومعلوماتها إلى أنهم يتصرفون انطلاقا من مرجعيات العصبيات التقليدية. في كل إدارة عامة هناك هيكل تنظيمي رسمي يتبع الأسس العلمية في الادارة، إلا أن القوة المحركة لازلت تنبع من المؤسسة العصبية، وهيكلياتها التقليدية”ّ.
وفي ظل الأصوليات والعصبيات، يهدر فكر الإنسان ووعيه، وقد أوضح بيكون في كتابه “الاورجانون الجديد” بعض الأوهام التي تشيع لدى البشر وهي أوهام القبيلة، وأوهام الكهف وأوهام المسرح، وأخيرا أوهام السوق، وتشيع هذه الأوهام لدى كل المجتمعات لكنها تختلف في الدرجة فقط من مجتمع لآخر بناء على مدى درجة وعي أفراده.
فأوهام القبيلة هي تلك الأوهام التي لدينا كبشر من تحيزات غير موضوعية؛ فالإنسان كائن متحيز لما يميل إليه ويحبه، ويحب القفز إلى العموميات والمبادئ الكلية، دون الولوج إلى الجزئيات وعناء الجهد والبحث، وأوهام الكهف وهي مدى تأثير البيئة والثقافة على وعي الإنسان وفكره، وأوهام المسرح وهي التي تتمثل بتقديس وأسطرة السلف، وأخيرا أوهام السوق وتعني مدى تأثير اللغة وعدم الدقة العلمية في استخدام الألفاظ أثناء الحوارات والنقاشات ومساهمتها في انتشار وتعزيز العديد من الاوهام.
في ظل كل ذلك، يهدر وعي الإنسان وقدرته على التحليل وأن يكون مرجعية ذاته، وقد أوضحت الدراسات والبحوث العلمية أن غياب أو ندرة المثيرات والإثارات الخارجية مثل الحوارات والنقاش والجدل في بيئة ما، يعمل على ترقيق قشرة الدماغ البشري، وبالتالي يحدث تدهور في الكفاءة الذهنية لدى الفرد، على عكس البيئة التي تشجع الحوار والتفكير والنقاشات المفتوحة، حيث أنه كلما زادت المعلومات زادت عدد الشبكات العصبية في الدماغ.
وحينما تزاح السلطة المرجعية للفرد ليتلقفها النظام الأصولي بالتحريم والمنع وصلاحيات احتكار الحقيقة له وحده، والنظام العصبي القائم على مبدأ الفوقية لأسباب تضافرت بمحض الصدفة كالنسب والحسب، وليس بمبدأ الكفاءة الحقيقية للفرد، فإنه لا يتبقى للإنسان المغيب سوى ممارسة التفكير في الجزء المسمى بالهيبوتلاموس، المسؤول عن ضبط الوظائف الغريزية كالأكل والنوم والجنس والانفعال، ويتم تعطيل الكثير من وظائف الدماغ الأخرى.
ولا يقتصر الأمر على الأصولية والعصبية في العالم العربي، بل أن رأس المثلث يحكي لنا استبداد من نوع آخر، أنهك الإنسان العربي وهو الحكم البوليسي والأنظمة السياسية المستبدة؛ حيث يستبعد المواطن من المشاركة الحقيقية في صناعة القرار، ويحتكر الوطن من قبل فرد واحد، ومجموعة صغيرة تتحكم بثرواته وخيراته، ويعيش الفرد وكأن حقوقه، هي منة من الحاكم وسلطته، وليس حقا طبيعيا له؛ فيصبح شرط الحصول على هذه الحقوق الحفاظ على أمنها وليس أمن الوطن، والحفاظ على دوام استمراريتها في الكراسي وإن ارتكبت الأخطاء.
“وبينما أن السلطة والحكم في البلاد المتقدمة هما عمليات وإجراءات وليستا مآلا، تكون السلطة العصبية الاستبدادية هي المآل والمنتهى الذي يهدر من أجل الحفاظ عليه: البشر والموارد، بل وحتى الكيان ذاته” (مصطفى حجازي).
ومن الملاحظ أنه كلما زاد عدد الأجهزة الامنية في بلد ما؛ كلما كان أمن البلد ليس مستقرا، كما يحلو للسلطة أن توهم الجماهير عكس ذلك. وتتبع الأنظمة السياسية المستبدة وسائل عديدة لإحكام قبضتها، من بينها الترويض وهو مرتبط بترويض الحيوانات لاستئناسها، من حيث تدريب الحيوانات على أن تسلك سلوكا غرائزيا معينا بعد محاولات عديدة من قبل المدرب، ويعتبر الاقتران الشرطي في المدرسة السلوكية والذي قام به العالم بافلوف، مثالا جيدا على ذلك، حيث يقترن صوت الجرس دائما بإحضار الطعام وحينها يبدأ الكلب بالاستجابة عن طريق إفراز اللعاب كلما سمع صوت الجرس! وكأن الجرس أصبح مؤشرا على إحضار الطعام.
وتستخدم السلطة السياسية المستبدة ذات الاستراتيجية؛ حيث يرتبط سلوك ما يهدد مصالحها بالعقاب الصارم والفوري!؛ فكلما برز سلوك أو فعل من قبل المواطن، كلما عاقبته السلطة، حتى يصبح ذلك شبيها بالاقتران الشرطي الذي استخدمه بافلوف لترويض كلبه. وهنا يصبح لدى المواطن “مع مرور الوقت” خوف نفسي من القيام بذلك السلوك، لاقترانه بالعقاب!؛ فيعمد على ترويض نفسه للابتعاد عنه، وحتى عن كل ما من شأنه أن يقترب منه، وربما أصبح ذلك الخوف غير مبرر ومبالغ فيه كردة فعل نفسية لخوفه من العقاب!
بيد أنه هنا، لا يتم ضبط السلوك فحسب؛ بل أن السلوك الانساني لا لايتم ترويضه دون أن يمر بالفكر؛ فالفكرة هي التي تحرك الانسان على عمل ما، وترويضها وإيقافها نهائيا يستدعي وجود عقاب صارم؛ بحيث كلما فكر الانسان، أصبح يخاف من نتائج ما يفكر به لاقترانه بالعقاب؛ فيعمد على كبت الفكرة في داخله، أو تجاهلها ومع مرور الوقت إيقاف ظهورها، وهذا بالضبط ما تطمح إليه السلطة المستبدة.
وأي تمرد يجعل الانسان يعيش في صراعات نفسية، بين الفعل الذي قام به وبين ما ينتظره من عقاب مؤكد، ولا تنجح السلطة المستبدة باستراتيجية الاقتران الشرطي في العقاب فحسب، بل أنها تستخدم استراتيجية نفسية أخرى وهي ما يطلق عليها “بالتعزيز” (Reinforcement)، أو تعزيز السلوكيات المرغوبة وإجزال العطايا والمكرمات لتكرارها وتشكيل سلوكيات جديدة مرغوبة؛ فالفعل الذي يعمد على تعزيز مكانتها وتثبيت أركان سلطتها مقترن بالعطايا والنعم.
تستخدم السلطة المستبدة استراتيجية أخرى، وهي التفخيم وإلصاق صفات المثالية والقدسية على الحاكم، وربطه بالمناسبات والأعياد واختزال الوطن في شخصه، ولا يقوى عمود السلطة المستبدة دون غطاء شرعي وديني يأمر القوم بإطاعة السلطان، وإن استبد وعصى.
يُقمع الفكر في المجتمعات التي تعيش تحت سلطة الاستبداد، ولا تشجع الحوارات واللقاءات الثقافية كونها من شأنها أن تزيد وعي المجتمع وتمثل عامل تهديد لمدى بقاء السلطة وشرعية ما تقوم به. وتحت وطأة ثلاثي الهدر (الأصولية والعصبية والاستبداد)؛ لابد من نتائج نفسية سيئة يعيشها الفرد على هذا الهدر لوعي الانسان وطاقته؛ فيقول الدكتور مصطفى حجازي “بأن الانسان الواعي في هكذا وضع، غالبا ما تحدث له ردود فعل انتكاسية مثل القلق، والشعور بالاغتراب والاكتئاب النفسي والدخول في قضايا مع الوجود، في حين أنها مجرد إزاحة نفسية، حينما شعر بعجزه عن تحقيق طاقاته وإمكانياته كفرد، على أن الشعور بالاستسلام والتبلد النفسي هو من أسوأ ردود الفعل النفسية، حينما يشعر الفرد أنه محاصر ومعطل الامكانيات، وبالتالي تحدث انتكاسة عكسية لطاقته الكبيرة في تحقيق قيمته ومشروعه الوجودي، بطاقة سلبية بليدة معاكسة، يفقد فيها الفرد المعنى من حياته والهدف من وجوده.
ومن الملاحظ أن الفرد الغير واعي في مجتمعات الهدر ، يسعى لملء الفراغ الداخلي أو قيمته كإنسان، بالانضمام لحركات الأصولية أو العصبية، محاولة منه للتشبث النفسي في الافكار الماورائية والتي تتجاوز ذاته، ولتعزيز قيمته النفسية. فكلما هدر الانسان ، كلما توجه للتشبث أو الايمان بأي فكر ولو كان تطرفي، كمحاولة أخيرة لإنقاذ نفسه، وتعزيز الشعور بقيمته؛ لذلك تكثر الشعارات في مجتمعات الهدر وتكثر القصائد البطولية، والملاحم الوهمية والتغني بالأمجاد اللفظية في الورق.. كما تكثر قصص الجن والسحر والشعوذة.
إن الانسان المهدور قد لا يعي الحجم الذي هو مهدور فيه، ويعيش طول حياته في نطاق الهيبوتلاموس، وإن أدرك ذلك، قد يصاب بالإحباط لمدى ضيق الخيارات في مجتمعه، على أن ذلك ليس نهاية المطاف؛ فهناك مخرج ولو جزئي لكل مأزق ليعمل الانسان على تحقيق طاقاته وإمكانياته، ولعلي أكتب بعض من الحلول ووسائل العلاج في مقال آخر قادم.