أثناء تصفحي لكتاب الدكتور مصطفى حجازي، والذي كان بعنوان الانسان المهدور، أدركت بأن شريحة لا بأس بها من منتمي وزارة التربية و التعليم تطبق عليهم هذه السياسة العبقرية، أو ربما أكون قد كبرت في السن، وبدأ الخرف يتسلل الى عقلي، وفي كلا الحالتين لا ضير في أن يسمع ما سيقال ويقرأ ما يكتب: فالإنسان المهدور – كما يقول الكاتب- هو الذي تم اهماله واستبعاده والاستغناء عن فكره وطاقاته؛ على اعتبار أنه عبء أو كيان فائض عن الحاجة، وللهدر أنواع ودرجات نبدأها بـ الهدر العام في مجال التربية و التعليم؛ فتواضع مستوى التعليم وركاكة منهجيته هو هدر بحد ذاته للإنسان العماني وللموارد المالية على حد سواء، حيث يتم هدر وعي هذا الطفل منذ الصغر بسياسات التلقين والتبعية والانقياد التام للمعلم ثم المدير ثم المسؤول الأكبر …. الخ، وأي خروج عن هذا النمط يعد خروجا عن الأخلاق العامة في نظرهم، واثارة للقلاقل والفتن، وهي الشماعة الأزلية الملتصقة بكل فعل لا يوافق سياستهم.
وماأن يخرج أخيرا هذا الانسان من المدرسة الى الجامعة، يصطدم مرة أخرى بمؤسسات قائمة بلا هدف أو خطط انمائية واضحة لرفع هذه الدولة الى مصاف الدول التي سبقتنا بأشواط كثيرة، وتلك المؤسسات هي عبارة عن سلسلة من السياسات الترقيعية والتكتيكية الهادفة الى درء الضرر الحالي حتى اشعار آخر، وهذا يفسر تأخر جامعاتنا بمختلف تخصصاتها في الترتيب العالمي للجامعات.
ثم يخطو هذا الانسان خطواته العملية الأولى؛ ليقال له للوهلة الأولى كما قيل لنا: “فائض لا حاجة ولا طاقة للوزارة به”، وبعدها تبدأ سياسة التحكم الناعم مغلفة بقوانين الخدمة المدنية بترويض العقول الجامحة في نظرهم، والتي لا تتوائم مع سياسة المماطلة والتسويف القائمة على عبارات مثل “الأمور ستكون طيبة أو اكتب رسالة وسنرد عليك بعد قليل… الخ”، ومن لا تعجبهم فلسفة هدر الطاقات والكفاءات البشرية؛ قد تفرض على هؤلاء عقوبات غير مباشرة، ولا يمكن اثباتها ماديا، ومغلفة بما نحن نظنه الحظ العاثر الملتصق بنا، وبالإمكان أن أضرب أمثلة على ذلك:
عرقلة البعض منا في الترقيات بحجج ليس لنا دخل بها، أو ارسال البعض منا إلى مناطق نائية كي ينشغلوا بضررهم الخاص بدلا من العام، أو التعمد في التعامل مع المراجعين وكل من ينتمي لهذا القطاع بمنظومة من السياسات البيروقراطية العقيمة، والتي تهدف الى تشتيت المراجعين ورميهم بين المكاتب والمديريات كما يرمي أخونا ميسي الكرة بين زملائه؛ فيشعر هذا الانسان بالمهانة والكسر المعنوي ويستسلم، ويخضع لما يريدوه هم، وهذا جزء أصيل من التخطيط العام لديهم، أو يتم الأمر بتجميد أفكار البعض منا بما يسمى بتشكيل اللجان المتخصصة لدراسة هذه الأفكار والتي لا يعرف متى وكيف وأين ستعقد، أو كسر الروح المعنوية للعاملين في قطاع التعليم ، وذلك بتكريم من لا يستحق شرف التكريم وتهميش من يستحق الظهور، فانتقاء القيادات التعليمية وللأسف لا يتم بعناية فائقة ولا برؤية فاحصة، بحيث يرشح ذوي القدرات القيادية والمهارية والعلم بمجال تطوير التعليم …. بدءا من وزير التعليم وانتهاءا بالمدراء والمعلمين، وإنما تتم بصورة غير مفهومة وبمعايير غير متفق عليها، أو بتغليف الوزارة بالشمع الأحمر فلا يستطيع أحد أن يخرج منها ما أو أن يدخل فيها، واذا سُمح لبعض موظفيها بالسفر للخارج لاستكمال الدراسة أو التدريب فسيعودون إليها تماما كما ذهبوا، وهذا يفسر استقالة البعض ممن أنهوا دراساتهم العليا أو نقل خدماتهم لمؤسسات أخرى يتوافر فيها الحد الأدنى من العدالة الوظيفية، وبالتالي يتم تحويلهم من شركاء مرحب بهم في صنع القرار -وهو من المفترض أن يكون- إلى كيان خارجي ضاغط على الوزارة.
وهنالك الهدر الأعظم الذي تعاني منه منظومتنا التعليمية، وقبل أن أذكره سأطرح بضعة أسئلة. ألم تلاحظ وزارة التربية والتعليم عدد الإجازات المرضية المرفوعة لها في الآونة الأخيرة؟. ألم تتسائل لماذا يفضل بعض المعلمين القيام بأي شيء باستثناء الذهاب للعمل؟. ألم تتفاجئ بحجم طلبات التقاعد المقدمة لها سنويا؟. ألم يتبادر إلى ذهنهم “لماذا مستوى الطلبة التقني في انخفاض مستمر كل عام”؟. ألم يزعجها فقدان الثقة بينها وبين شريحة كبيرة من المعلمين، وتشكيكهم الدائم بها ليل نهار في اجراءات التعيين والتوظيف والترقية والبعثات … الخ ؟. ألم يخبرها أحد عن البطالة المقنعة المتفشية في بعض المحافظات والمعدومة في محافظات أخرى ؟.
إنه الهدر الأعظم “يا سيادة يا كرام”، والمتمثل بالتعمد – بحجة الضغط الشعبي – في ادخال الحابل والنابل إلى سلك التعليم، فأصبحت هذه المهنة العظيمة مهنة من لا مهنة له، وصحبها بعد ذلك ضعف معايير التقييم المطبقة عليهم، وهشاشة الدورات والمشاغل التدريبية المكلفين بها، والتي في بعض الأحيان لا تتعدى اليومين، ويقوم بالإشراف عليها أناس غير مؤهلين علميا ومهنيا ونفسيا، ثم سرعان ما تسمعهم في كل عام يتحدثون عن خطط جديدة لرفع مستوى المعلم، وتعزيز الدورات التدريبية وإمكانية تشكيل عدد من اللجان وغيرها من الأمور المدهشة، والتي لا نجدها إلا على الورق ولا نسمعها إلا على ألسنة المسؤولين، ولا نراها إلا في القنوات الاعلامية الرسمية العمانية.
فهاهي فنلندا مثلا، ونحن ينبغي أن نقارن أنفسنا بمن يحتلون الصدارة خاصة، وبكوننا نملك كل ما من شأنه أن يجعل المنظومة التعليمية ثروة حقيقية لهذا البلد تماما كفنلندا؛ فعلى الرغم من أنهم لا يملكون ميزانيتنا الضخمة المخصصة لهذا القطاع، على اعتبار أن القائمون على التعليم هناك اشترطوا أن يحمل المعلم مؤهل درجة الماجستير في التخصص مع رخصة تربوية متخصصة في التدريس؛ ليصبح مقبولا ومؤهلا للتدريس في المدارس النظامية إلى جانب شهادة الدكتوراه لبعض المراحل الدراسية، كما أن القائمون على التعليم هناك يولون المعلمين اهتماما خاصا؛ فلهم دور هام في وضع المناهج التعليمية، كما تم اشراكهم في عمليات التطوير التعليمية، ومنحهم استقلالية تامة في الإبداع في طرق التدريس وصياغة المنهج وفقا لقدرات الطلبة، وهذه الثقة التي أولاها القائمون على التعليم في فنلندا لم تتم إلا بعد رفع كفاءة المعلمين في المنظومة التعليمية والتأكد من امكانياتهم العلمية والعملية، والأخير لم يتم إلا عندما خرج القائمون على التعليم هناك وتكلموا علنيا للشعب وبكل شفافية عن تدني المستوى التعليمي للبلاد، وأنهم بحاجة لظهير شعبي كي يسخروا طاقات الدولة وفق آلية محددة وضوابط رقابية سيُحاسبون عليها إن لم تتحقق في مدة زمنية محددة. وبعد المكاشفة بدأوا تحقيق هدفهم، وبعد سبع سنوات أحس الفنلنديون بتغير جيد في المنظومة التعليمية. وبعد 50 عاما أصبح التعليم من الثروات الأولى في فنلندا .
وبما أن الخطة الخمسية الثامنة تركز على تطوير نظام التعليم وفقا لمعايير الجودة، فإنني أستطيع أن أبشركم بأن هذه الخطة قد تكون معرضة للفشل؛ فهنالك ضعف في الثقة بين الوزارة والخبرات المحلية وأصحاب التجارب التعليمية في هذا البلد، وهنالك ميل عام لعدم الاستفادة من تجاربهم والاتجاه نحو تطبيق نماذج خارجية -لما يطلق عليه اصلاح التعليم-، وهذا يقضي بالضرورة على أي نوع من أنواع الإصلاح والانفتاح لأي رأي أو أي لمحة تطويرية يحملها هؤلاء لهذا الميدان، كما أن التعديلات العامة والنظم الجديدة والخطوات الاصلاحية في التعليم ينبغي أن توضع لها خطط محكمة للتطبيق، بحيث يتم تعميمها وتطبيقها على منطقة تلو الأخرى بشكل متدرج ومراقب بصورة دقيقة، وبكل شفافية بحيث يتم تفادي الهدر المالي والبشري والزمني وهو الأهم.
فالثقة المزيفة وهدر الوعي والفكر والطاقات بهذه الطريقة الفجة سيؤدي من شأنه أن يولد لدى الانسان جحيما من الأفكار السلبية والممارسات التعسفية، والتي تم ترجمة البعض منها حاليا، وستتبلور في الميدان التربوي مستقبلا عاجلا أو آجلا، فلا يوجد شيء أصعب في الحياة من أن تكون موجودا وغير موجود.