تمر على الإنسان فترات يجاهد خلالها بكل الطرق لأجل التأقلم مع واقعه؛ فلا يقدر على ذلك. إذ أن الأسباب حينها تكون معقدة ومتراكبة بين مجموعة ظروف سيئة وإحباطات متتالية. لذا فإنه غالبا ما يلجأ إلى ما يمكن أن نطلق عليه “آخر الحلول وهو العزلة”. لايفهم الشخص عادة ما الذي يريده بالتحديد من تلك الفترة التي يختلي فيها بنفسه أو ما الذي يتوقعه منها، وكل مايعرفه أن الحياة من حوله تحولت إلى ضوضاء لا يطيقها، ويبدو أن البشر غير قابلين للتحمل. إنه يدرك أن العالم ليس بذلك السوء، وإلا لما استطاع المكوث فيه كل السنين الماضية؛ فالعالم لم يتغير، إنما هي نظرته اتجاه هذا العالم قد تغيرت ، لذا يحدَث نفسه ان لا بأس من إناخة الركب حتى يعتدل الجو ويتبين المسار.
وحتى لا يلتبس الأمر لابد أولا من التفريق بين العزلة الإختيارية التي هي موضوع هذا المقال، وبين العزلة الاجتماعية والوحدة؛ فالعزلة الاجتماعية تعد أمرا لا إراديا ومستمرا، يكون فيها الشخص بطبعه منعزلا بشكل تام أو شبه تام عن المجتمع، وتظهر فيه سلوكيات وردود فعل غريبة نوعا ما، ولا يمكن التخلص منها إلا بتكثيف العلاج النفسي بمساعدة الأسرة والمجتمع. والوحدة حالة من قلة أو إنعدام التواصل بين الشخص والمجتمع، ويرافقها مشاعر سلبية كثيرة كالحزن والسخط. أما العزلة الاختيارية؛ فهي تصرف واع ومخطط له، وهي وسيلة لتخطي كم هائل من السلبية من أجل مواصلة الحياة.
ولطول الوقت الذي يقضيه الشخص منعزلا بلا عمل أو مسؤوليات؛ يكون لديه وقت كبير للتأمل والملاحظة؛ فيلاحظ ما لم يكن لينتبه له لو كان في طريقه للعمل أو لأداء واجب إجتماعي ما، حتى صوت المروحة التى تدور فوق رأسه يكون موضوعا جيدا للتفكير، بل قد يتفاجئ الشخص بسلوكه وأفكاره التى اكتسبها دون أن يدري من محيطه؛ فيكون كمن يكتشف إنسانا جديدا بداخله.
وفي العزلة يكون العقل سابحا في كمية غير منظمة من الأفكار، وتكون الحواس غير موجهة، وبالتالي قد يشكل هذا الشيء بيئة خصبة للإبداع والإبتكار، ولعل حب الكثير من المبدعين للعزلة ناتج عن كونهم ينشدون هذه المساحة الحرة التي يبدو للآخرين أنهم لا يفعلون شيئا فيها، بينما الحقيقة أنهم منهمكون في توليد الأفكار ومقارنتها ببعضها، مما يستهلك طاقتهم الجسدية والفكرية معا.
ويمكن إعتبار السجين -في السجن الإنفرادي خاصة- في حالة عزلة قسرية مستمرة، فهو لا يملك مناصا من أن يكون في مواجهة مع نفسه. وقد يبدو له الأمر صعبا في البداية؛ لكونه لم يعتاد عليه ولميله إلى التهرب من الواقع أصلا؛ لكنه بعد فترة قصيرة يعتاد عزلته التي تكون هي من قد صالحته مع ذاته؛ فيبدو أقل نزقا وأكثر اتزانا، ولعل هذا ما يفسر لنا سبب الهدوء الذي يبدو على وجوه بعض من حكم عليهم بالإعدام لحظة إقتيادهم إلى حتفهم الأخير.
إن الهدف من العزله غالبا هو البحث عن بعض الهدوء والإسترخاء الذي يليه إعادة تنظيم الأوراق وترتيب الأولويات. لذا لابد –برأيي- أولا العمل على تقوية الجانب الروحي من خلال –مثلا- القيام بالشعائر الدينية التي يؤمن بها، أو ممارسة بعض رياضات الإسترخاء كاليوغا. فالتمدد تحت أشعة الشمس لن يكون ذا فائدة ما لم يرافقه هدوء نفسي وصفاء ذهني، أما الورقة والقلم فهما ضروريان كالماء والطعام لتفريغ الأفكار والتخفيف من ضوضاء العقل وزحامه.
وفي مجال البحث عن الحقيقة؛ فلقد كانت العزلة تمهيدا لأحداث هامة غيرت مجرى التاريخ؛ فالأنبياء -كإبراهيم ومحمد- كانوا ممتلئين بالشك، وباحثين عن ما يروي ظمأ عقولهم قبل أرواحهم، لذا فقد كانت العزلة هي ثورتهم الذاتية قبل الثورة الكبرى وإعلان الدين الجديد. إن عزلة النبي محمد عليه الصلاة والسلام في الغار، وتفرغه للتأمل أتاحت له فرصة لأن يخرج عقله من نمط التفكير السائد الذي تحكمه العادات والخرافات الاجتماعية، وبالتالي كان ذلك بمثابة التهيئة لبدء الوحي.
إن المكان الذي يشعر فيه الشخص بالسكينة -وإن كانت احدى المدن الكبرى المليئة بالحركة والغرباء -هو المكان الأنسب لعزلته. وعموما يفضل الكثيرون خوض هذه التجربة في أحضان الطبيعة؛ فالصحراء مثلا هي المكان المفضل للرهبان القدامى فهي ممتدة وواسعة ، وفيها من القساوة مايهذب النفس ويلجم رغباتها. والبحر هو الأخر مقصد الكثيرين؛ فبالإضافة إلى جمال منظره وتعدد ألوانه فإن لأمواجه حركة لا تتوقف مما يتيح للرائي التأمل فيها لساعات طويلة. بينما يفضل قلة الأماكن المغلقة كدور العبادة أو غرفة في فندق بعيد؛ فيقضون وقتهم في القراءة والسباحة في الخيال.
ولأن طبيعة الإنسان تقتضي حب مشاركة الأخرين، والتفاعل معهم فإن فترة قصيرة من العزلة كافية للعودة به مرة أخرى إلى المجتمع ، لأن المدة إن طالت طال معها الإعتياد على الوحدة والتجوال في خيال المدن الفاضلة؛ مما يصعب على الشخص العودة إلى الواقع. لذا فإن مائة يوم من العزلة تغني عن مائة عام منها.