في هدوء الدرس، تقوم المحاضرة بإلقاء سؤال يتعلق بمدى سهولة (أو) صعوبة إحدى المواد المدروسة العام الفائت، ولقد جاملها البعض بالرد أنها مادة في متناول اليد ولكن تحتاج إلى مراجع مكثفة، والبعض لم يكترث للسؤال، والبعض الآخر كمن هم مثلي، اندفع بالرد: “أنها من أكثر المواد متعة”. لكن الاجابة الفارقة لإحداهن كانت: “يعتمد على معلم المادة !”. فقالت المحاضرة: هذه المادة التي أدرسها هذا الفصل والطلاب يشتكون منها كثيرا!.موقف كهذا يتكرر يوميا باختلاف الشخوص والأفكار؛ لكن النقطة الفاصلة تكمن في “آلية النقد” التي يجب أن نتبعها لكي نحقق المبتغى، فلو لم تكن الطالبة في غفلة لكانت قد أردفت جوابا قاطعا بمسؤولية المحاضرة في هذا الأمر ولربما استمرت المحاضِرة في ذات الفكرة ولأعزت الفشل للطلاب واهمالهم! فقد اعتدنا مليا أن نجامل الأكبر منا منزلة حتى لو كان على خطأ، والأحرى بنا أن نوضح الاشكالية أينما وجدت.
لا ننكر أن موجة النقد التي يتحلى بها جيلنا حاليا تأتت بسبب انفتاحه على مختلف مجالات العالم، ولا زال ذات الجيل يبحث عن نفسه بين عالم هو الأول الواقعي وآخر هو العالم الافتراضي؛ فالجميع الآن أصبح على دراية بما يدور حولهم من قضايا ومشكلات، والغالبية يجدون أنفسهم ناقدين يعترضون تارة ويؤيدون تارة اخرى، وقد يلتفتون للقضية من منظور آخر ويسبغونها بوجهة نظرهم بمعنى أن حصيلة الأفكار المحبوسة لم تعد كذلك في وقتنا الراهن؛ فهي طليقة بما فيه الكفاية حتى في الأمور التي أعتقدها البعض ثوابتا كالدين والسياسة !
قس على ذلك ما حدث في الأيام الفائتة، من جدل حول قضية اعتقالات الكتاب تبعته قضية الحجاب في الجواز الالكتروني، ويتبعه موضوع الضرائب، ثم موضوع غرق مستشفى النهضة، وحري بك أن تتابع “الجيل الثائر” وهو يصول ويجول في ميادين عرض الأفكار وتبني دور الناقد الهدام منهم والبناء، وهذا شيء محمود بلا شك، حيث أن تفاعل الجيل الثائر مع مختلف القضايا ليس بالضرورة أن يكون تابعا ل “ثقافة القطيع “؛ بل هو نتيجة حراك فكري يتحلى به أفراد المجتمع، لكي يحققوا مفهوم التنازع لأجل التطور.
لكن الاشكالية التي تبقى في معرفتنا للتوجيه الصائب لثقافة النقد؛ فنجد أن الاغلبية في تخبط دائم يصل للتعسف أحيانا في سبيل تجريد الفكرة من صحتها او ادحاض الحجة من ثبوتها، في حين أن النقد يتمحور حول اظهار نقاط القوة وتقويم نقاط الضعف، وذلك مفهوم –للأسف- لم نجبل عليه منذ الصغر، حيث أن ميزان النقاش في أي قضية يتدلى منه كفتين إحداهما “مجاملة مفرطة ” والأخرى “طرح لاذع”، وترجح كفة المجاملة خلال المراحل الاولى من عمر الانسان حيث يتم تقديس من هم الأكبر سنا دون محاولة المساس بما يقولون أو يفعلون، وقد تستمر الكفة في الرجحان عند البعض، حتى ينقضي أجلها دون أن يسعى ولو لمرة للوقوف مع افكاره وما يعتقد، أما الكفة الثانية فهي تظهر بوضوح عند الطبقة المثقفة حيث أنهم ينظرون للجانب المظلم بالقضية فقط، ويصحبه التعالي في مواجهة أية قضية كانت؛ فنجد سيل الهجوم المتواصل دون المحاولة للوصول لنقطة منفعية يستفيد منها الجميع، ولا نعمم في ذلك؛ لأن عامة الأفراد كمن هم مثلي أو عدد من أفراد جيلي الثائر ايضا قد ينغرس الجانب المظلم في مختلف آرائه وتوجهاته في الحياة، وظهور اراء نقدية مجردة من المنفعة أمر طبيعي يختل به ميزان النقد.
وقد يصح في الجيل الثائر المثل القائل: “يرى بأول رأيه آخر الأمور”؛ فالأغلب لا يلتفت عند طرح النقد للمعطيات التي تحيط به. إن جيلنا متسرع جدا في الحكم على أي قضية تجابهه، ويسعى بكل ما أوتي من قوة أن يستحوذ على الجو بعرض سلسلة من الأدلة التي تدعم موقفه في القضية المطروحة؛ فنحن أصبحنا كالمحامين سوى أن العائد هنا ليس العدالة والمال بل الشهرة والقيل والقال. ونحن على الأغلب لا نمنح لأنفسنا فرصة لنقود زمام النقد، حتى نجد حلول مناسبة قد تثري الساحة الفكرية بل أن الهيجان والانفعال هو ديدنا في التعامل مع اي قضية، لذلك الحلول وإن كانت صائبة فهي حتما متشتتة ولا تصل إلى نتيجة محتومة ومناسبة.
ولست هنا في صدد ما يجب او مالا يجب ان يفعله الجيل الثائر في سبيل التعامل مع القضايا، ولكن توضيح أمر النقد لهو الركيزة الاساسية في بناء جيل واع بما فيه الكفاية؛ ليجعل آرائه في المحل المناسب، فأن تنقد مؤسسة في بلدك أو رمزا ذو شهرة أيا كانت نفوذه السياسية او الدينية او الثقافية ليس بالأمر الهين وليست هي مسألة قذف ما نختلجه من ـفكار لفض اشتباكات وقضايا قد تطول او تقصر، ولنأخذ في الاعتبار وصية فيكتور هيجو حيث سرد فيها: “لابد لمن يريد شرح سريرة إنسان، سواء أكان ذلك الإنسان مغمورا أم مشهورا، أن يكون حائزا على الكثير من المقدرة والبيان، وأن يستوعب الحكمة والبلاغة وطول الباع في اللغة….فالضمير هو حلبة تتبارى فيها الشهوات والتجارب وكهف الأفكار التي تثير فينا كوامن الخجل ومشاعر الخجل أو القبح “، فالأمر لم يعد مجرد شد وجذب وإثارة للساحة بالآراء؛ لكنه قضية يجب أن ننظر إليها من جميع النواحي حتى نصل للمبتغى في التعاون البناء؛ لرفع المستوى النقدي المطلوب للتجاوب مع مثيلاتها إن حدثت مستقبلا.
وحتى الناظر في الناحية الأخلاقية، يجد أن من أهم شروط الناقد ” المشاركة العاطفية، وتسمى بالتعاطف المراد بها: أن يكون الناقد ذا قدرة على النفاذ إلى عقول الأدباء والكتاب ومشاعرهم يحل محلهم، ويأخذ مواقفهم أمام التجارب التي يرسمونها، والفنون التي يعالجونها ليرى بأعينهم، ويسمع بآذانهم لعله يدرك الأشياء كما يرونها، فكيف لجيلنا الثائر والمدرك لما يجوب عصره من قضايا متجددة – بحيث لا تكاد أن تنتهي من قضية أو مشكلة تجابه المجتمع إلا وقد أثيرت واحدة أخرى- أن يتغافل عن نقطة الاحتواء للقضية ودراستها قبيل التسرع في عرض الآراء والانتقادات المختلفة؟!. من هذا المنطلق فقط سنرسم اطارا واضحا للنقد نستطيع من خلاله التجاوب بإيجابية مع أية قضية قد تواجهنا مستقبلا في مختلف المجالات.