يبدو مفهوم تركيز السلطات بحسب عدد من الباحثين مفهوما قائما على عدم الفصل بين السلطات التي تتولى مهام الدول المختلفة؛ بهدف سيطرة فرد أو مجموعة أفراد أو تنظيمات على الفوائد السياسية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن هذه السيطرة. هذا الأسلوب بحسب الباحثين يولد مخاطر كبيرة مرتبطة بعدالة الأفراد الاجتماعية، والمساس بالحريات المختلفة، وغيرها من المخاطر. ورغم أن تركيز السلطات، وعدم فصلها منبوذ بحثيا أكاديميا ولدى أعراف وثقافة الدول المتقدمة إلا أنه يشكل واقعا في طبيعة الإدارة العمانية.
التجربة السياسية العمانية منذ عام 1970 تعد واحدة من التجارب الفريدة ؛ إذ أنها بقت على دعائم أساسية لم تحد عنها على مر الأربعين سنة الماضية؛ فالسلطان قابوس منذ توليه مقاليد الحكم في تاريخ 23 يوليو 1970 وهو على رأس السلطات الثلاث “التنفيذية والتشريعية والقضائية” في الدولة – إذا استثنينا حكومة طارق بن تيمور القصيرة كأول وآخر رئيس وزراء وهي الفترة التي امتدت ما بين أغسطس 1970و ديسمبر1971-، مما يفتح تساؤلات حول مدى تطبيق مفهوم فصل السلطات في السلطنة، والتأثيرات الحالية و المحتملة في استمرار مركزية السلطة، وأبعادها على حياة المواطن.
وعندما نتحدث عن مركزية السلطة؛ فلا يمكن أن نغفل المحاولات التي قام بها بعض المواطنين سواء أكانت بصورة فردية “مثل ما حدث مع طارق بن تيمور 1967 حين تقدم باقتراح للسلطان في إقامة مملكة دستورية”، أو بصورة جماعية “مثلما حدث في يوليو 2010 عندما تم تقديم عريضة موقعة من خمسين مواطنا تطالب السلطان بتشكيل مجلس وطني؛ لصياغة دستور جديد قوامه الشراكة والتعاقد بين الشعب والسلطان”. وفي 23 فبراير 2011 أيضا، تم رفع عريضة أخرى بعد مسيرتين سلميتين تدعوان للإصلاح، وقد أطلق عليهما حينها “المسيرة الخضراء الأولى والثانية”، وقد نُظمتا من قبل مجموعة من الشباب العماني الطموح، وكانت مطالب العريضة قد تضمنت عمل إصلاحات في مجلس الوزراء ومجلس عمان بينها: المشاركة السياسية مع تعيين رئيس وزراء، وهي ذات المطالب التي تم رفعها مرة أخرى في بعض ساحات الإعتصام في ما بعد.
بعد أحداث الربيع العماني 2011، أجبرت السلطة لاستخدام عدة “كروت” متتالية؛ لتمتص غضب الشارع آنذاك. البعض منها لم يكن مدروسا بشكل جيد، وظهر الخلل بعد فترة وجيزة، وكل هذا كان نتيجة طبيعية لتلك الإصلاحات والتعديلات التي لم تكن مبادرات وأفعال من قبل السلطة بقدر ما هي ردود أفعال سريعة وإجبارية. ومع هذا يُحسب للسلطة سرعة استجابتها لجلَّ مطالب “غالبية” من خرج من الشعب تقريبا والتي تمثلت حينها في مطالب معيشية ومؤقتة.
نوعية النبرة الإعلامية الجديدة كانت إحدى وأقوى تلك “الكروت” التي استخدمتها السلطة لتنويم الشارع، وارجاعه لا إراديا إلى مسكنه وحياته اليومية. ورغم تأخرها في ذلك – بعد ما أنكرت الحراك في بدايته وجابهته، لكنها استسلمت للواقع بعد ذلك وحاولت أن تستغل الموقف لصالحها – إلا أنها نجحت بشكل يحسب لجهودها السريعة نحو احتواء الوضع الراهن في البلاد.
وأهم الخطوات التي قامت بها أنها غيرت في بادئ الأمر واجهة ممثلي الإعلام في الحكومة، وأقصد هنا وزير الإعلام ورئيس الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. ونلاحظ أن التغييرات كانت ذكية حينها، حيث أن الوجوه التي اُستخدمت لهذين المنصبين كانتا من المحسوبين على الوسط المثقف كشابين من الوسط الأكاديمي ومميزان ولهما قبول بين عدد من المهتمين بالوضع الثقافي في البلاد، كما كان أحدهما مدونا ومعارضا لكثير من سياسات الدولة قبل أن يعتلي كرسي الوزارة، وهذا يختلف نهائيا مع السياسة المعتادة المتبعة في التعيينات الوزارية والمناصب الأخرى العليا المعتمدة على التوازن القبلي سياسيا، وبعض الأسر الثرية تجاريا. إضافة إلى ذلك، ما قامت به السلطة في وسائل الإعلام باختلافها، أنها انتهجت سياسة مختلفة ظاهريا عن السابق وأعلت راية “الرأي والرأي الآخر”، “والتطوير”، “وحوار الشباب”.
ولعب المسؤول الحكومي أيضا دورا بارزا في ذلك، عندما صرح الوزير عن الشؤون الخارجية في إحدى الحوارات الشبابية المفتوحة، قائلا : “نعم الجهاز الإداري للحكومة مترهل وغير منظم، ولا يقوم بأداء الخدمة كما ينبغي”. فلم تتوقف محاولات السلطة المستمرة للوصول للشعب برسالة واحدة وهي: “نحن نفهمكم”.
ومع هذا كله، لم تهتم السلطة حتى الآن لعدد من المطالب الرئيسية في أحد ساحات الإعتصام 2011. ولعل أحد أهم هذه المطالب لدى الكثير من المثقفين والناشطين والمطالبين بالإصلاح: مطلب الدستور التعاقدي، الذي يراه كثيرون الضمان الديمقراطي الأنسب لاستقرار البلد حاضرا ومستقبلا، والضمان الوحيد للبدء بقفزات إصلاحية حقيقية بعيدا عن الفقاعات الإعلامية.
أقول تجاوزا “ماذا لو وجه السلطان قابوس إلى سعادة رئيس مجلس الشورى – بما أنه رأس هرم مجلس الشورى وهو ممثل للشعب – خطابا محتواه الآتي: “هل فكرة الدستور التعاقدي يصلح تطبيقها في البلاد؟، إذا كان الجواب نعم أو لا، فلماذا؟ وما هي المعوقات وما المطلوب فعله؟”. ولإضفاء الطابع الديمقراطي وإيصال رسالة للشعب مفادها “نحن نسمعكم”؛ سيوجه السؤال للشعب.
أقول: قبل إجراء أي خطوة إصلاحية، يجب أن يكون هناك اعتراف بوجود خطأ أو مشكلة – كما أسلفت-، وهذا ما حدث قبل فترة بشكل خجول لكنه “دبلوماسي” عندما صرح الوزير عن الشؤون الخارجية بترهل الجهاز الإداري للحكومة، لكنه غير كاف ولا يعطي صورة تفائلية حول رغبة السلطة بالمضي بإرادة قوية وطموح كبير نحو إصلاحات جذرية بعيدا عن الحلول “الترقيعية”، والتي تسببت في ترهل الجهاز الإداري للدولة.
نحن أمام مشكلة حقيقية وأزمة كبيرة ومطب يجب تجاوزه، بحسب الإمكانيات الواقعية وبرؤية استراتيجية واضحة المعالم، والدستور التعاقدي حاجة وضرورة رغم كل المعوقات، وهذه الحاجة وتلك الضرورة يجب أن تُتبع بصدق وطموح من السلطة لتجاوز الأزمة.
ما المشكلة ؟
1- ثقة السلطان بمن حوله لأسباب تاريخية قديمة حتى قبل توليه الحكم، وحديثة تتزامن مع الفترة التي تلت توليه الحكم والمتسببة بوجود مركزية كبيرة في السلطة، والناتجة عن تولي السلطان الكثير من المناصب المؤثرة والحساسة في أمن البلاد نموه. أتفق مع هذه المركزية في السلطة في السنوات الأولى منذ تولي السلطان الحكم؛ بسبب الحاجة الملحة لذلك، ولمصلحة البلد آنذاك مستحضرا الحروب الداخلية، وعدم استقرار البلاد وأمية غالبية الشعب. لكن استمرار هذه المركزية حتى الآن غير مبرر نهائيا، فهي مسبب حقيقي لبطئ التنمية وتراجع الإنتاجية. وأصبحت هذه المركزية هي المغذي الأول للبيروقراطية الإدارية، وباتت تقتل روح الإبداع، وتحجم العزيمة والمبادرة لدى المسؤولين.
2- القبلية السياسية وتأثيرها على القرار السياسي وعلى ثقافة المجتمع، وهي طبقة مستفيدة من مركزية السلطة ومن الفساد بشكل عام.
3- طبقة التجار وتأثيرها على القرار السياسي، وينطبق عليها ما ينطبق على القبلية السياسية.
4- القوى الخارجية والمتمثلة في شركة ( شل وتوتال وبارتكس)، وتأثيرها في القرار السياسي. إذ أن كل محاولة إصلاح ستتجه نحو التأميم للنفط، وهو ما سيشكل خطرا على مصالحها. وكما هو معلوم أن 40 % تقريبا من النفط العماني تذهب عوائده للشركات الأجنبية بشكل مباشر -إذا تجاهلنا النسب الأخرى التي تعد غير مباشرة وغير مصرح بها-.
5- النضج الوعي السايسي لدى الشعب واستعداده وجاهزيته لأي استحقاق سياسي ديمقراطي. يقول جورج برنارد شو منتقدا بلهجة استعلائية وقاسية هذا الضعف : “إن الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل؛ لأن أغلبية من الحمير ستحدد مصيرك”. وهذا برأيي ما يجعل السلطة تتكئ عليه أمام أي مطلب إصلاحي في فصل السلطات بشكل حقيقي، ولتقويض مركزية السلطة، ولا بد من حضور التعليق الدائم الذي يبرر استمرار المركزية: “الشعب غير قادر على إدارة نفسه”. ورغم واقعية السبب تقريبا، لكنه ليس السبب الوحيد كما هو واضح في الأسطر السابقة. كما أنه أيضا ليس سوى نتيجة لفشل السلطة الشمولية المركزية لعقود طويلة.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن السلطة العمانية هي سلطة شمولية مركزية، ولعقود طويلة فرضت سيطرتها ومازالت على جميع أنشطة المجتمع المدني، وهي تضع الخطط المختلفة وتتحكم بها بشكل كامل، وتهيمن على الإعلام المقروء والمرئي والمسموع بشقيه الحكومي والخاص، وتغذي مفهوم القبلية السياسية و تراعي مصالح طبقة التجار عن طريق تقديم خدمات استثنائية لهم.
كل هذا يساهم في بناء منظومة الأفكار والقيم لدى المواطن العماني، والتحكم بنوعية وطريقة تفكيره وتشكيل وعيه، لذا فإن أي خطاب من هذه السلطة “الشمولية المركزية” حول ضعف أو عدم قدرة الشعب على إدارة نفسه، وعدم نضوجه أمام أي استحقاق سياسي لا يعد سببا مقبولا، وهو في الحقيقة اعتراف ضمني بعدم نضوج تلك المنظومة الشمولية التي أنتجت هذا النوع من الوعي في المجتمع.
كل ما ذكر أعلاه، هي أسباب قوية يجب أن تدفع السلطة لعمل إصلاح جذري، والمضي نحو الدستور التعاقدي. كما أنها في الوقت نفسه لا تزال هي ذات المعوقات أمام تطبيق هذا النوع من الإصلاح.ولكن لماذا الدستور التعاقدي وماذا سيقدم للمواطن؟
لا أريد الإسهاب في التفاصيل القانونية حول أنواع الدساتير والفروق بينها، وليس هذا حديثي ولا مجال تخصصي، لكن ما أستطيع قوله أن الدستور التعاقدي هو نقلة نحو الديمقراطية بوسيلة أقل خطرا، وبتوافق شعبي وإرادة سلطوية تنشأ بطريقة التعاقد بين الحاكم والشعب، ويعد جسراً ينتقل من خلاله المواطنين من مرحلة التغييب والرضوخ والسكون – كما هو في دستورنا النظام الأساسي للدولة – إلى مرحلة المشاركة واتخاذ القرار السياسي عبر تأكيد حقوقه وتكريسها، وتحديد صلاحيات الحاكم والسلطات خاصة.
“وكمواطن عماني” يهمني أن يضمن هذا الدستور عدة نقاط وهي: أن يعزز مفهوم المدنية و المواطنة، باعتبارها الركيزة الأساسية التي يؤخذ بها في الحقوق والواجبات وتوافر الفرص. كما أن يضمن أيضا وجود رئيس وزراء منتخب أو معين مبدئيا مع تداول السلطة، ويضمن إعطاء مجلس الشورى الصلاحيات التشريعية والرقابية الحقيقية، ويؤهلها نحو فرض دورها الرقابي على جميع الوزارات بما فيها ديوان البلاط السلطاني وشؤون البلاط والأمن والدفاع والشؤون الخارجية والنفط والغاز وغيرها، وبخاصة في ما يتعلق بممارساتها المالية والإدارية، ويضمن وجود محكمة دستورية، ويضمن تفعيل دور المحافظين والمجالس البلدية على مستوى المحافظات، وأخيرا يضمن بناء استراتيجية طموحة تنظم وتدفع دفة التطور في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية تدركها كافة شرائح المجتمع.
أختم حديثي بالتأكيد على أهمية إرادة السلطة، وأهمية قيمة ونوع الطموح الذي تسعى خلفه هذه السلطة في العملية الإصلاحية وعلى سرعة التنمية؛ لأن بدونه لن نمضي إلى مرحلة التأسيس للدستور التعاقدي ولو اقتنعت السلطة بأهميته. وبدون إرادة السلطة وطموحها، لو وافقت السلطة على تطبيق الدستور التعاقدي كحل ترقيعي تخديري؛ لن يتغير الوضع بل من المحتمل أن يتجه للأسوأ. ومع إرادة السلطة، ومع الطموح الكبير وبدون وجود الدستور تعاقدي، هناك نماذج مشرفة يقتدى بها في سرعة التنمية والتطور، لكنها أيضا بدون ضمانات مستقبلية واضحة.