هنالك فئة من الناس – وخاصة من يشبهون شارلوك هولمز – يشعرون بأن وزارة التربية والتعليم تعيش أحيانا في المدينة الأفلاطونية، حيث يطبق فيها نظام الإنكار بإتقان؛ فقد حصلت التربية والتعليم على شهادة الأيزو في عمليات التخطيط والشؤون الإدارية، إلا أننا في المدينة الثانية نستطيع القول أنه يمكن الحصول على شهادة الآيزو بعد تطبيق بعض الاجراءات والمعايير المطلوبة بصورة غير مستمرة، إلا أن الحصول على الجودة شيء والانتماء إليها شيء آخر؛ فالانتماء الى الجودة يتطلب أمورا واحتياجات واهتمامات في غاية الرقي، ويفرض تغييرات جذرية للمؤسسة بدءا من الهيكل التنظيمي وأسلوب الإدارة وانتهاء بشخصية المسؤول واهتماماته، وقبل أن تكون تلك شهادة فحسب، فهي سلوك وثقافة على مستوى القادة والأفراد والمؤسسة ككل، والتفكير في تحقيقها يتطلب استعدادا وولاء وتضحية، وحتما ستكون هذه الشهادات لغرض الدعاية فقط اذا لم يكن الهدف منها الوصول للجودة الشاملة.
والأهم من هذا كله بأن يشعر عملائها بالتغير التدريجي على أرض الواقع، وبأنهم في الطريق السليم؛ ففي الندوة الوطنية ” التعليم في سلطنة عمان- الطريق إلى المستقبل” قالت الوزيرة “بأن وزارتها تسير وفقا لاستراتيجية تهدف إلى تقييم شامل لمنظومة التعليم، وكافة البرامج التعليمية بهدف تطويرها. وأنهم خلال المراحل السابقة قد أنهوا عملية التقييم”، وباعتباري من سكان المدينة الثانية، فسوف أساعد الوزارة قليلا في عملية التقييم -وإن انتهت هي من ذلك – إلا أنه من منطلق تفعيل دور الفرد في المؤسسة، سأتطرق في مقالي هذا إلى إدارة الموارد البشرية فقط ثم قد أتبعها بمقالات أخرى عن بقية الأقسام تبعا لتوفر المعلومات.
وقبل أن أبدأ، أحب التوضيح بأن هنالك فروق بين أربعة مفاهيم وهي: ادارة الموارد البشرية وتنمية الموارد البشرية والشؤون الادارية وشؤون الموظفين.
فمهام إدارة الموارد البشرية في الوزارة لا تتعدى كونها أعمال اجرائية، وليست تخطيطية تطويرية كما أنها غير مترابطة ومنفصلة، حيث تشمل متابعة الشؤون الوظيفية للعاملين من حيث احتساب الرواتب، وضبط الوقت والحضور والانصراف، وتطبيق اللوائح في شأن المخالفات التي قد تصدر منهم، وتنفيذ إجراءات الإجازات على اختلاف أنواعها، ومباشرة مسائل الرعاية الطبية والاجتماعية، وتنفيذ نظم تقييم الأداء، وأعمال التدريب والتنمية التي يشير إليها المدراء، ثم متابعة إجراءات إنهاء الخدمة. وإن أبرز مساهماتها: توفير الاحتياجات من الموارد البشرية، فلا أجد في هذا كله شيئا من نظام الجودة، فأنتم تتعاملون مع الموارد البشرية باعتبارها أدوات في النظام البيروقراطي؛ بحيث لا تتركون مساحة للإبداع أو حرية اتخاذ القرارات، فالموظفون والعاملون ليسوا سوى آلة تؤدي المهام حسب القواعد، كما أن إدارة الموارد البشرية تفتقد إلى الرؤية المستقبلية للاحتياجات، ومن ثم تنحصر أعمال التخطيط في استيفاء الاحتياجات العاجلة خلال فترة الموازنة السنوية، ويندر أن يوجد تصور واضح ومدروس لهيكل الموارد البشرية في فترات مستقبلية تصل إلى خمس أو عشر سنوات قادمة مثلا ،كما أن مصطلح التمكين مفقود -والذي من المفترض أن الوزارة تسعى لتطبيقه- ومستبدل لدينا بمصطلح التفويض وشتان بين الدورين .
ومن حيث بناء القوة العاملة : نجد أن عملية التوصيف والاختيار والتعيين لا تتم بأسس ومعايير واضحة، وهي غير مصحوبة ببرامج تدريب تمهيدية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي؛ فاختلط الحابل بالنابل، وبعد أن تتوظف لا يوجد لديك مسار وظيفي متجدد كل ثلاث سنوات ومحدد أصلا، حتى أن معظمنا بما في ذلك ادارة الموارد البشرية لا يعرفون ماهية المسار الوظيفي بمفهومه الحديث وأهميته، ناهيك عن القصور في تحديد الاحتياجات من الموارد البشرية بما يتناسب مع حجم وطبيعة العمل بناء على الرؤى والأهداف المستقبلية للتربية والتعليم؛ ولهذا تنتشر البطالة المقنعة بين الموظفين والملل وفقدان الأمل والتخبط والغضب وقلة جودة الانتاجية، فنحن نجد في كل يوم استقطاب وظيفي ليس في محله للأفراد والعنصر البشري هو الأساس في أي مؤسسة، كما أن تقييم أداء العاملين بأشكاله المختلفة تتم وفقا للأهواء الشخصية ولمناهج ركيكة في التقييم، وكذلك نجد أن إدارة الموارد البشرية نفسها تخلط بين مهامها وبين مهام تنمية الموارد البشرية ( أنا مش عارفني أنا تهت مني ).
فإدارة الموارد البشرية وفقا للمفهوم الحديث -على حسب علمي – إدارة استراتيجية في المقام الأول، وأهم وظائفها تكمن في عملية اختيار الأفراد، حيث ينبغي أن لا تتم على الأساس المهني والمؤهل العلمي فحسب ، لكن يوضع في الاعتبار الجوانب الشخصية والقيم والتوجهات. إن العبرة من التعيين ليست بالموقع التنظيمي للفرد (إدارة كذا ، في فرع كذا )، ولكن بالإمكانيات التي يستطيع أن يقدمها بأحسن عطاء، لذلك سيختفي التنظيم الهرمي التقليدي ليحتل محله التنظيم المصفوفي أو الدائري أو الأفقي، كما أن تطوير نظم قيادة الأفراد لا يمكن أن تتم إلا بقادة مبتكرين ومبدعين وديمقراطيين، لكي يعزز ذلك دفع الأفراد نحو الإبداع والتميز ويساعد في تنمية أفكارهم الجديدة، لا أن يتم سحقها أو تخزينها في الأدراج واللجان التي لا تنتهي، ثم قطع السلم بعد الوصول، كما ينبغي أيضا أن يتم تطوير نظم تقويم الأداء بناءا على تحديد الأهداف ثم تصميم مقاييس ومؤشرات الأداء ثم تحديد مجالات التطوير؛ كي نتجنب الظلم الواقع في الوقت الراهن، ونصل الى الرضا الوظيفي المقبول، و بدون تطوير نظم الحوافز ك لا يمكن أن نشبع حاجات الموظفين إطلاقا، ومن الضروري لإدارة الموارد البشرية أن تتابع الحركة الوظيفية والتقدم العلمي والتدريبي والتدرج المهني للأفراد أولا بأول، وتجدد مسارهم الوظيفي بناءا على التشارك التنظيمي والفردي، إلى جانب تطوير نظم التدريب حتى يحقق التدريب الهدف المرجو منه .
إن العنصر البشري هو الأساس اذا أرادت الوزارة السعي للتغيير نحو الأفضل، ومادامت إدارة الموارد البشرية تسير تبعا لمهام شؤون الموظفين، فلا يمكن اذا أن ننتظر إلا مزيدا من الترقيع والتخبط، وأنصح وزيرة التربية والتعليم ومرؤوسيها بأن لا يتطرقوا بعد اليوم إلى جملة الحمل أو التركة الثقيلة التي تركت لهم فهذا ليس عذرا، كما أنني أنصح الوزيرة الفاضلة أن لا تضع الخطط الجديدة بأيدي من أفسدها أول مرة ، فالنتيجة محسومة قبل البدء فيها، وأن يتجه العمل لاعتماد القيادات الشابة والاستثمار فيها استثمارا مدروسا بعيدا عن أهداف ” البروباجاندا “؛ فبدماء جديدة يتحرك كامل الجسد.