أمام تصاعد موجات العنف على مستوى العالم؛ تزداد الحاجة إلى معرفة الحدود التي يقع عندها الآخر، ذلك ﻷن المساحة التي نعتقد أنها نحن؛ تصبح؛ وفي ظل ظروف تاريخية معينة؛ مُخترمة من قبل هذا الذي يرتفع لغويا أمامنا كمناقض ومقابل نشاهده يسترق النظر عند هذه الحدود. وهنا نستحضر؛ على سبيل التقريب؛ الأسوار والجدران التي شيّدتها الحواضر عبر التاريخ لتفصلها عن ذلك الهمجي الذي يتربص بها كيدا على الطرف الآخر ليقضي عليها. ومنها أسوار الدولة الرومانية وأسوار دمشق وعكا وحيفا والأسوار القديمة في مختلف بقاع العالم وصولا إلى جدار برلين والجدار العازل في فلسطين. هذه الحدود تصنع علامة فارقة داخل الهوية، فإذا قال إنسان ما أنا لست كذا وكذا؛ فإنما لأنه يرى على سبيل اليقين هذه الحدود، وبالمثل فإنه إذا شهَر سلاحه في وجه خصمه؛ فلأنه يدرك لدرجة التشبع تلك الحدود. إن هذا الآخر الذي نُعرِّف به أنفسنا يقع على مرمى حصاة منا، ولكن لا يمكن أن يمتزج بنا، ونحن نُعرِّفه من خلال مكانه الذي يقف فيه، فالفاصلة التي تفصلنا عنه تصبح جزءا لا يتجزأ من الهوية. وهنا تحديدا تأخذ الهوية شكلا بسيطا جدا، إذ أن الإنسان لا يحتاج لأن يصرف جهدا كبيرا في سبيل تعريف نفسه، فالآخر يقوم بالجزء الأكبر من ذلك دون أن نشعر. ولكن من هنا أيضا يبدأ الشقاء! الشقاء من بساطة تعريف الهوية، وذلك عندما يتم اختزال كل التعقيدات والخبرات والظروف المحيطة لصالح تبسيطٍ يلغي أية إمكانية وفرصة لولادة هوية مركبة ومتمددة ومتجددة تجعل الإنسان كونيا قادرا على صنع فضاء من المفاهيم والرؤى والأفكار تقوده لمزيد من التصالح والمشاركة.
الآخر المُختلف عنا قد يتحول إلى عقدة نفسية، وذلك عندما نكون مشغولين لدرجة الهوس بالافتراق الذي بيننا. فهنا نسمح للآخر بدون أن نشعر أن يتدخل في قراراتنا واختياراتنا؛ بل وأساليبنا في العيش، كما لو أننا نمنحه مساحة منا بدون أن يطلب وربما بدون أن يعلم. هذا الانشغال بالآخر قد يتحول إلى عقدة نقص تترك آثارا سلبية في طريقة التفاعل مع هذا الآخر، إذ تصبح رغبة التمايز حاكمة في ظل معرفة بأهمية هذا الآخر؛ ما يخلق ازدواجية بغيضة بين الخصوصية وبين المشاركة. هل الهوية المتمايزة يمكن أن تقبل هوية الآخر وتأخذ بعضا من سماتها؟ هل من سبيل لإعادة تعريف الذات بدون اللجوء للآخر؟ ولو احتجنا للجوء إليه؛ فبأي شكل يمكن أن نقبل إدخال الآخر لتحديد الهوية الخاصة بنا؟ يهدف هذا المقال إلى معالجة هذه الأسئلة من خلال استقراء مفاهيم الذات والآخر وأشكال العلاقة بينها.
بداية نبدأ من مفهوم الذات؛ ولعل أول ما يتبادر في الذهن هو التساؤل: ما هي الذات؟ ومن هو أنا عندما أقول أنا؟ وهنا لا أجد صعوبة في القول بأن الخداع يبدأ من هذا النوع من الأسئلة. فرغم أهمية تعريف الذات والحاجة إلى تحديدها لنعرف ماذا نحن نفعل؛ غير أن تساؤل كهذا سيضطر بنا إلى أن ندخل في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع وتعاريفها الكثيرة والمتناقضة التي غالبا ما ترى زاوية واحدة فقط من زوايا الذات، لذا أجد نفسي أميل إلى التعريف بالوصف الذي نشاهده ونشعر به عندما نقول: أنا. الخداع الذي أريد تجاوزه هو تعريف الذات الذي يأتي من خارجها، إذ لا يخرج عن محاولة تشكيل ذات وفق معايير ومواصفات خاصة بهذا الفيلسوف أو ذاك، كما لو أن الكل يريد صنع ذوات بمقاييس خاصة، وهذا ما يجب الإلتفات إليه، فالأجدر بنا أن يضع كل واحد منا تعريفه الخاص لذاته انطلاقا من داخله. ولا أجد أفضل بداية لتعريف الذات من الشك فيها؛ الشك فيما هي عليه: هل هي واعية ومدركة؟ هل هي باحثة وتواقة لشيء ما؟ هل هي فاعلة في مسرح الوجود؟ هل هي ذات جدارة ومهارة في فاعليتها؟ هل لديها معرفة تستفيد منها؟ هل هي ذات محبة للآخر؟ هل هي واحدة أم متعددة؟ من هذه الأسئلة يمكن لكل فرد أن يضع تعريفا لذاته، فهي تعمل كمحددات يمكن الانطلاق منها لصنع التصور العام والكلي للذات.
في ظل تعريف مفتوح للذات وأسئلة دائما ما تكون غير مجابة بما يكفي بعد، كما لو أننا نقول للإنسان: لا تختصر كل ذاتك في مظهرك الخارجي، ودع لنفسك مساحة لا يمكن لأحد أن يعرفها سواك. في ظل هذا التعريف سيكون بمقدور الإنسان أن يعيد فهم الآخر على أساس المشتركات والمفترقات؛ بالاصطلاح الفلسفي؛ على أساس المحايث والمفارق وعلى أساس الكلي والجزئي، وهكذا يصبح التعدد مفتاح الدخول للذات لتعريفها وتشكيلها. إن رؤيتنا للآخر هي المرادف الأكثر قربا من رؤيتنا للذات، فلو كنت أنظر لنفسي كمسلم وفقط؛ فسوف أنظر للآخر كيهودي وفقط أو كبوذي وفقط، وفي اللحظة التي تتعدد تعريفاتي لذاتي؛ سوف تتعدد تعريفاتي للآخر. وهذه العلاقة الوثيقة بين الذات والآخر مردها إلى أننا نملك وعيا كليا لا يتجزأ، يتمدد أو يتقلص، يغوص في العمق أو يبقى على السطح، يبتكر أو يقلد، هذا الوعي يرسم الحدود التي تعرف الداخل والخارج في آن واحد. وبالتالي سيكون التعريف الأهم والوصف الملح هو لهذه الحدود الفارقة التي نرسمها من حولنا ونحن نحاول معرفة من نحن.
يمكن تعريف هذه الحدود بطرح تساؤل في غاية الأهمية، وهو: ما الذي أحتاج إليه من الآخر؟ هذا التساؤل يلعب دورا مهما في تعريف كل من الذات والآخر. والإجابة عليه تبدأ بالوعي بما لدى الآخر. فلو أخذنا الطفل وهو يدرج في سنواته الأولى؛ فسنجد أن وعيه بما لدى أسرته مما يلبي احتياجاته هو الذي يعرف لديه الحدود التي بينه وبينهم، وسيتشكل مفهومه عن ذاته تدريجيا في ظل إدراكه لنواقصه ولما لدى الآخر ما يسد هذه النواقص. وبالرغم أن المفهوم يبدوا بسيطا جدا؛ غير أنه يأخذ في التعقيد كلما كبر الإنسان وتعقدت حاجاته وطرق إشباعها. فحاجته للأمان الذي يجده بسهولة في طفولته في حضن والديه ورعايتهما له؛ سيصبح أكثر تعقيدا عندما يصبح الأمان مرتبطا بالوضع السياسي والاقتصادي في وطنه، بالمثل مع حاجته للحب؛ حيث سيتحول من اهتمام والديه به إلى اهتمام أصدقائه وقبول المجتمع له. هذا التعقيد يأخذنا بالضرورة إلى استكشاف العلاقة بين حاجات الفرد الأنا والآليات التي يُدخِل بها الآخر ضمن نظام وعيه الذي يتراوح بين الغاية واللاغاية. والهدف من كل ذلك هو الإجابة على السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال عن طبيعة الحدود التي تضعها الأنا بينها وبين الآخر، وذلك بهدف فهم الدور الذي تصنعه هذه الحدود في تهيئة البيئة لتفعيل مولدات العنف.
تساعدنا نظرية الحاجات عند أبراهام ماسلو ونموذج الحاجات عند وليم جلاسر على ملاحظة أربع حاجات رئيسية تجعل الشخص يلجأ إلى الآخر، وهي: الحاجة إلى الانتماء والحب والحاجة إلى التقدير والاحترام والحاجة إلى ممارسة الحرية والحاجة إلى الاستمتاع. هذه الحاجات الأربع هي التي ترسم وتشكل معالم وسمات الهوية لدى الفرد، فمن خلال تفاعله مع الآخر لإشباع هذه الحاجات تتشكل الحدود التي تصنع هوية الأنا وهوية الآخر. وبطبيعة الحال؛ فإن العنف الذي يمكن أن يتولد نتيجة هذا التفاعل؛ سيكون بسبب الشعور بتقصير الآخر في إشباع إحدى هذه الحاجات الأربع. وهو عنف متصل بالحدود الصلبة التي ترتفع بين الأنا والآخر عندما لا يتم إشباع واحدة أو أكثر من هذه الحاجات. يطرح باحثون آخرون؛ ومنهم الباحث الهندي والحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد أمارتيا صن في كتابه “الهوية والعنف”، والباحث الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة”؛ رؤى ونظريات تفسر العنف من جهة اتصاله بالهويات الأحادية التي تضطر تحت ضغط عوامل عديدة أن تتخلى عن الثراء والغنى في الهوية لصالح مكون وحيد في الغالب يكون دينا أو قبيلة أو عرقا أو قومية. والإضافة التي نطرحها هنا تتعلق بالدور الذي يلعبه الآخر في هذا النزوع نحو تخلي البعض عن التعدد في هويته، والإبقاء على الهوية الأحادية. لنتأمل الآن كل حاجة من الحاجات الأربع لنعرف طبيعة التفاعل الذي يعزز أو يقلل من قابلية التعدد في الهوية.
الحاجة إلى الإنتماءيتشكل الإنتماء كشعور متجذر لدى الإنسان من الاندماج مع موضوع خارجي، وهذا الاندماج متعلق أساسا بحاجات أسبق من الإنتماء وهي الحاجات المتعلقة بالبقاء. غير أن تطور مطالب الإنسان مع زيادة تجاربه وخبراته يجعله أكثر تعلقا وميولا بمتطلباته الأكثر تعقيدا. الإنتماء في أصله مكون من حاجات فسيولوجية كالغذاء والدفء والجنس وحاجات أمان كالوظيفة والأمن الصحي؛ تشابكت هذه الحاجات وتجمعت لتقابل المشاعر التي تولدت بعد إشباعها. لهذا لا ينفصل الانتماء عن المورد الاقتصادي أو الإشباع الجنسي على سبيل المثال، ولكن هذه الحاجة تظل ذات وحدة ضمنية أو صريحة في سلوك الإنسان يعبر عنه من خلال الثقافة والممارسة الوطنية والعلاقات الاجتماعية، وهذا ما يجعل الإنتماء يلعب داخل النفس الإنسانية في اتجاهين: اتجاه يشد حول الداخل يتعلق بإشباع حاجات البقاء الأساسية، واتجاه يشد نحو الخارج يتعلق بحاجات ذات مستوى أعلى كحاجات التقدير والحرية والاستمتاع. ولعل هذا يفسر سبب النقد الكثير الذي تجده نظرية الحاجات عند ماسلو؛ كونها تصور مستويات الدوافع في تسلسل خطي، والواقع أنها أقرب للترابط الشبكي. إن الإنتماء في الاتجاه الأول يكون أكثر تفردا وذاتية وينبع من داخل الإنسان ويكون أكثر اقتناعا وأرسخ ثبوتا، ﻷنه يمثل نموا طبيعيا لحاجات الإنسان، ولكنه لا يصنع انتماء قابل للتمدد والانتشار وبناء أنوية الجماعات، لأنه انتماء ضمني وعضوي أكثر منه اجتماعي وظاهري. على العكس من الإنتماء في الاتجاه الثاني الذي يكون أكثر صراحة وقدرة على اكتساب العلاقات والتعاطف الأفقي وتكوين الفعاليات والتجمعات؛ وذلك ﻷن المكون الثقافي المتصل بالأرض واللغة والقبيلة والصداقة والقبول الاجتماعي يلعب دورا رئيسيا في صنع هذا الإنتماء، غير أن ما يعيب انتماء كهذا هو صفة الإلزام والقهرية التي تغلب في تأسيس واستمرارية العلاقة مع الآخر في إطار هذا الإنتماء. وبالتالي فإن الإنتماء؛ مع ما يحققه للإنسان من هوية؛ إلا أن الغموض سيلف هذه الهوية كونها لم تأتي من إفراز طبيعي تلقائي تتطور مع تطور الشخص، بل هو أكثر ما يكون قد فرض عليه من الخارج. وأجد بعد هذا التمييز بين اتجاهي الإنتماء الداخلي والخارجي؛ أن من نافلة الحديث أن نقول إن الاتجاهين يمتزجان بنسب تزيد وتنقص من فرد إلى فرد، فلا يكاد يخلص أحدهما في إنسان؛ بل يتدرجان وفقا لعوامل ليس هنا مقام التفصيل فيها.
يلعب الآخر دورا رئيسيا في صنع الإنتماء لدى الفرد، ذلك أن الإنسان يتأسس انتماؤه تبعا لإحساسه بالعلاقة التي تجمعه مع الآخر. وتركيبة الإنتماء تنحو نحو الأحادية عندما يتضافر الحرمان مع كون الإنسان معتمدا بشكل كلي على الاتجاه الخارجي الثقافي في تشكيل الإنتماء، بمعنى أنه إذا كان القبول دون مستوى سقف التوقعات التي يرسمها الفرد عن الآخر فإنه ينكفئ على ذاته فيضمحل ذلك الجزء من الهوية الذي كان يربطه مع هذا الآخر. لا يشترط أن يكون عدم القبول هو وحده المسؤول عن هذا الاضمحلال والضمور في مكونات الهوية؛ ففي أحيان كثيرة تتطلب الثقافة السائدة؛ ولكي يتفاعل الفرد معها إيجابيا؛ قطيعة مع اﻵخر المختلف. بالإضافة إلى الثقافة؛ أيضا المكوِّن القومي أو العرقي أو القبلي داخل الهوية ينزع باتجاه قتل الكثير من مركبات الهوية التي يشترك فيها الفرد مع آخرين. هذه القطيعة سوف تنعكس على الآخر الذي سيمارس أيضا قطيعة مضادة كنوع من رد الاعتبار. ما يهم هنا من كل ذلك هو أن الإنتماء الذي تصنعه ظروف خارجية سيكون عرضة للتقلبات التي تطرأ على الآخر، وهكذا انتماء يجمع الفرد مع آخرين سيكون من السهل أن يتحطم مالم تتجذر فيه صفة العضوية القادمة من حاجات البقاء الرئيسية. كما لو أنه على الفرد أن يرسم حدود انتماءاته ليس اعتمادا على الظروف الخارجة عنه فقط؛ بل يعمل على إضافة عناصر دعم وتقوية لهذا الإنتماء الاجتماعي عبر ربط حاجات التقدير والحرية والاستمتاع بحاجات البقاء كالغذاء والملبس والجنس وأمن الموارد والأمن الصحي والأمن الأسري والوظيفة.
بطبيعة الحال ليس من السهل على الفرد أن يواجه ثقافته وقبيلته وعرقه، فهي الأخرى تتصل بحاجات الفرد الأساسية، ولكن ما يستطيع أن يكون مستقلا فيه هو مفهومه عن هذا الآخر المختلف. فالمشترك الذي يضطر أن يخفيه يمكن أن يمنع التصادم الذي سيمثل أقسى حالات القطيعة حدة. فالهوية داخليا متعددة وإن كانت تسبح في تيار الهوية الأحادية، وهذا قد يخلق نوعا من الازدواجية المؤذية، ولكن يمكن التعامل معها بأكثر من طريقة. فما نراه أن أحادية الهوية أسوأ من ازدواجية التعامل مع الهوية الأحادية. كما لو أن المطلوب من الفرد أن يرتقي في وعيه وينتبه للحدود التي ترتفع من حوله وتفصله عن الآخر الذي يشترك معه في انتماء من الإنتماءات. وهكذا فالحاجة إلى الإنتماء تتبع بداية نمو الحاجات الطبيعية المتصاعدة، وستتصنف تلقائيا ضمن مجموعات؛ حسب اهتمامات الفرد وميولاته، ولا يكون لهذا التصنيف حضورا مكثفا بسبب الطبيعة الانسيابية للإنتماء، ولكن تتكثف الحاجة لإظهار المشترك أو إخفاءه عندما ترتفع الحدود وتكثر المطالبات بالقطيعة. في هذه الظروف يحتاج الفرد بأن يشعر بوعيه الأبعد نظرة لكي يفرض ويعيد تلك الانسيابية في العلاقة مع الآخر.
الحاجة إلى التقديرلعله لا يمكن لحاجة من حاجات الإنسان تتضح فيها أهمية العلاقة مع الآخر كما هي في الحاجة إلى التقدير، ذلك لأن التقدير المطلوب هو تقدير الآخر واحترامه؛ والذي إذا ما فقد فلن يكون بالإمكان التعويل على هوية مشتركة في تطوير العلاقة مع الآخر. الحاجة إلى التقدير هي الأخرى لا تنفصل عن الحاجات الأخرى؛ فهي متصلة بحاجات البقاء والأمان والحاجة إلى الإنتماء كما هي متصلة بالحاجات العليا كالحرية والاستمتاع، غير أنها تتسم بالوحدة الشعورية التي تجعل من الصعب التمييز داخل مكونات الهوية بين تقدير ناجم من مواهب داخلية حقيقية وتقدير ناجم من ظروف خارجية معينة كالخوف أو الجهل. الوحدة الشعورية التي نعنيها هي تلك الفاعلية التي يؤديها التقدير في النفس فيجعلها أكثر اعتدادا وثقة، وبالتالي إدراكا لما هي عليه حقيقة. فمكون الهوية الناتج من التقدير لا يكاد يتمايز ويتصنف وفق تقدير حقيقي أو تقدير زائف، وهذا يدفع إلى اعتبار الحاجة إلى التقدير لا تختلف كثيرا سواء اتصلت بالحاجات الأساسية للفرد أو اتصلت بالحاجات العليا والمتقدمة. الطفل على سبيل المثال؛ يكتسب المكانة والأهمية داخل أسرته بنفس الكيفية سواءً من إحساسه بالشبع أو من استمتاعه بالإشادة التشجيعية من والديه لأنه يأكل جيدا، ولا فرق جوهري عندما يفشل في اكتشاف ذاته بسبب الجوع أو بسبب إهمال والديه لطلب من طلباته. التقدير الزائف يسهم تقريبا بنفس الكيفية في تشكيل الهوية مقارنة مع التقدير الصادق، ذلك ﻷن الثقة والاعتداد بالذات والناتجة من التقدير لا تلتفت إلى صدق الموضوع الخارجي بقدر التفاتها إلى أهمية الهوية المطلوب إثباتها وتعريفها، وهذا يجعل تأثير التقدير الذي يمنحه الآخر لنا قويا وواسعا في تحديد معالم الهوية لدينا.
الحاجة إلى التقدير متبادلة بين الفرد والآخر، فهو يحتاج أن يمنح التقدير بنفس القدر الذي يحتاج لتقدير الآخر، بل وفي لحظة معينة؛ يجد الفرد أنه يحتاج أن يمنح التقدير لذاته، فهناك انفصال داخل الذات بين الإرادة الواعية الحرة وبين هوية الذات التي ستكون موضوعا لهذه الإرادة، فيصبح التقدير ضروريا لتعريف هذه الهوية وتحديدها، ولكن ما يهمنا هنا هو التقدير المتبادل مع الآخر والدور الذي يلعبه في تعريف هذه الهوية. عندما لا يتلقى الإنسان التقدير الذي يستحقه من الآخر فإن المشترك الذي يجمعه به سيقل تأثيره عليه، ما سيجعله يعيد تعريف كل من الهوية الخاصة به ومعها هوية هذا الآخر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحاجة إلى التقدير ليست عشوائية بل هي موجَّهة، فالآخر؛ المطلوب أو المتوقع؛ معروف لدى الأنا؛ معروف كإسم أو كصفة. وهو مرتبط مبدأيا بالهوية بشكل من الأشكال، بمعنى آخر؛ أن هناك حدودا قائمة أو مقدرة بين الأنا والآخر، ولكن مستوى وضوح هذه الحدود وحديتها هي التي تنكشف وتتبين في ظل التقدير أو عدم التقدير المتبادل. تأخذ الأنا بعض سمات الآخر في ظل التقدير الذي يمنحها، تماما كما ترفض بعض سماته عندما يحرمها من التقدير، وتلك السمات تصبح بعد مدة جزء من تعريف الإنسان لنفسه إيجابا أو سلبا؛ أنا كذا أو أنا لست كذا. الأمر نفسه مع هذا الآخر وهو يتلقى أو يُحرم من تقدير الأنا. وفي ظل السمات المشتركة تتشكل الهويات المركبة على العكس من التقدير السلبي الذي ينزع باتجاه الهويات الأحادية، والتي تكون مهيئة وجاهزة لممارسة العنف تجاه الآخر.
الحاجة إلى ممارسة الحريةتمثل ممارسة الحرية مستوى عال من الحاجات لدى الإنسان، فلا يفكر الإنسان في الابتكار وهو جائع أو وهو مريض أو يتهدَّده مميت من المميتات. وتظهر الحاجة إلى ممارسة الحرية في رغبة الإنسان في الإبداع وتحقيق إنجاز يجعله في موقع الريادة، فهي الإرادة التي تحركه لتجعله متفوقا على الآخر. هي الرغبة في التأثير على الآخر وتوجيهه وقيادته في مسار الحرية التي تريد الأنا أن تمارسها. ترتفع هذه الحاجة أيضا بين الأفراد لتمارس دورها في صناعة حدود الهوية بينهم، ولكن نظرا لأنها تتطلب مواهب معينة متوفرة لدى الإنسان فيختلف هنا محيط التأثير واتجاهه. فالمخرج السينمائي المبدع يمارس تأثيرا واسعا على محيط كبير من المتابعين والمعجبين بالشكل الذي يصبح مجرد اسمه مؤثرا في صنع هوية الآخر المتابِع، وربما يصبح هو أيقونة تتشكل حولها جماعة تكتسب سمة إضافية في هويتها، بينما لا يتعدى تأثير الشاعر المبتدئ دائرة أقرانه وهو يقرأ عليهم قصيدة إبداعية جديدة. إن كافة أشكال الإبداع هي نتاج من حاجة الإنسان لممارسة حريته، وهي متجهة للآخر لتلفت انتباهه وتؤثر عليه بشكل من الأشكال، فيأخذ هذا الآخر سمة من سمات الأنا المبدعة بقدر إعجابه وتأثره بهذا الإبداع. القيادة شكل آخر من أشكال ممارسة الحرية وتتعلق بقدرة الفرد في التأثير على الآخرين وإقناعهم بآرائه وبالاستجابة له فيما يطرحه عليهم من تصورات واستشارات وأفكار.
تتحول أشكال ممارسة الحرية إلى سمة من سمات الهوية التي تعرف الأنا والآخر في نفس الوقت، ذلك لأن الحدود الفاصلة تكون واضحة أثناء ذلك، ويصبح التأثر والتأثير الناتج من ممارسة اﻵخر لحريته من محددات الهوية لدى الأنا. قد لا نتفاعل مع إنتاج الآخر ولا ينال استحساننا، وربما يثير اشمئزازنا ومقتنا، وكل ذلك يدفع باتجاه اتخاذ موقف سلبي من هذا الآخر، ويدفع باتجاه إغلاق الباب في وجهه بحيث لا نكتسب منه أية سمة أو صفة نضيفها إلى الهوية، وهكذا يموت المشترك المحتمل بين الأنا والآخر، ولا يمكن بالتالي أن يكون جزءا من الهوية، وهكذا كلما رفضت الذات إنتاجات الآخرين وإبداعاتهم كلما ازدادت انكفاءً على نفسها واتجهت إلى الأحادية، والعكس عندما تتقبل وتسر بإبداعات الآخرين؛ إذ ستكون الهوية أكثر تركيبا وتعددا. إن الحرية فارزة لمكونات الهويات المتداخلة، وعلى أساسها تتصنف هذه المكونات في مجموعات، فيمكن لطالب في قسم المسرح بكلية الآداب أن ينضم لجماعة المسرح بالكلية حيث سيجد الكثيرين ممن يشترك معهم في الإهتمام بهذا الفن، وفي نفس الوقت يساهم في تأسيس جماعة لمحبي فن الباوهاوس يتبادلون فيما بينهم الأفكار والخبرات حول هذا الطراز المعماري. وربما يحاول الدمج بين هذين الاهتمامين لديه عبر ابتكار فن جديد لتصميم الديكور المسرحي يدمج فيه معمار الباوهاوس مع المسرح السريالي ليخلق بذلك اتجاها جديدا يتأثر به آخرون ليصنع فيما بعد جماعة فرعية صغيرة ربما تكبر مستقبلا لتمثل تيارا جديدا يتأثر مرتادوه بأفكار هذا الطالب المبدع الذي سيصبح سمة تلتقي وتفترق عندها الهويات العابرة عليه.
الحاجة إلى الاستمتاعالحاجة إلى الاستمتاع هي ذروة ومنتهى وأقصى الحاجات التي ستكون قمة ما يسعى إليه الفرد في الحياة حسب نموذج جلاسر للحاجات. فتارة يريد هذا الفرد أن يأكل ليسد جوعه، وتارة يريد أن يستمتع في الأكل. وسيختلف بذلك طبق السلطة الذي يطلبه من مطعم آسيوي في ضواحي العاصمة مسقط عن طبق السلطة الروسية والذي سيطلبه من مطعم فاخر بمدينة السلطان قابوس، حتى بالرغم من أن كلا الطبقين يشبع الحاجة للغذاء. تشكل الذائقة عاملا مهما وأساسيا في بناء سمات الهوية، فالعمل الفني الذي يثير دهشتنا سنحاول أن نعرف من صاحبه لنضيفه إلى مجموع خبراتنا وتجاربنا السابقة عن هذا الفنان. وعند ذلك سيكون هذا الفنان المبدع سمة من سمات الهوية، فهنا تصبح الذائقة؛ وهي شكل من أشكال ممارسة الحرية؛ مولدة الاستمتاع الذي ستلتقي وتفترق عنده الهويات المختلفة، فيمكن أن يتجمع محبو شعر محمود درويش في مجموعة مقابلة ﻷولئك الذين يحبون أكثر شعر أحمد مطر. فهذا المشترك يدفع اثنين من نفس إحدى المجموعتين ليتساءلا مع بعضهما عن آخر ديوان لشاعرهما المفضل، وأفضل قصيدة في رأيهما، ومن غنى لهذا الشاعر ومن لم يغن. إن سمة الهوية التي تنتج عن الحاجة إلى الاستمتاع ستكون عفوية وتلقائية وغير مقصودة في تشكيل الجماعة، وفي نفس الوقت؛ في معرفة الحدود بين الأنا والآخر؛ أي معرفة هويتهما.
إن الآخر الذي نتذوق أعماله وإبداعه أو نشترك معه في تذوق أعمالا إبداعية أخرى ستكون له مساحة في هويتنا، لن تكون بيننا وبينه جدران مرتفعة، وإنما حدود أكثر شفافية مليئة بالنوافذ والأبواب بحيث من السهولة جدا أن نقترب ونبتعد بدون أن يؤثر ذلك الهوية التي تتطور تبعا لهذا المشترك أو ذاك. ونحن لا نتوقف في مسيرنا عن الإعجاب بهذا العمل أو ذاك وبهذا المبدع أو ذاك، وفي كل مرحلة زمنية سنجد أن حيَوَات كثيرة تستيقظ وتنام داخل الهوية؛ نظرا ﻷن هذا الاستمتاع لا ينفصل عن بقية حاجات الهوية. وعدم إشباع هذه الحاجة، أو الضغط عليها لكبح جماحها وضغطها؛ سيكون ذلك من المبررات القوية لجمود الهوية وتوقفها عند مرحلة عمرية معينة، ما يجعلها تتقولب ضمن أحادية الوراثة المكتسبة من الوالدين. لن يلعب الآخر دورا مهما يسهم في تعدد الهوية، بل سننزع باتجاه الريبة والتردد في تعاملنا معه، ذلك ﻷن الحاجات الأسبق أنتجت حذرا وتشككا في مدى أهمية هذا الآخر بالنسبة لنا. وهكذا فلا تعود الهوية ملزمة باحتواء اﻵخر أو استيعاب بعض سماته، فتصبح أكثر استعدادا لرفضه ومراكمة هذا الرفض حتى يتحول إلى عنف.
ما نخلص إليه بعد ذلك أن هوية الذات من هوية الحدود التي تضعها لتفصلها عن الآخر، وهذه الحدود تقع على أطراف حاجات الهوية، فمتى ما كانت مساحة إشباع الحاجات هادئة وغير متوترة فالناتج هو هوية تعددية، ذلك لأن الآخر هو جزء لا يتجزأ من عملية إشباع هذه الحاجات. هذا التوتر الذي يحول دون مساهمة اﻵخر في تبادل الحاجات مرده لعوامل كثيرة غالبا ما يتصل بغموض وعدم شفافية العلاقة بين الذات والموضوع؛ أي بين الوعي والمادة. وهي علاقة تحتاج إلى تحليل وتفصيل سيكون موضوع مقال منفصل، غير أن المهم هنا هو بيان الدور الذي يلعبه الآخر في بناء الهوية التعددية. وبعد هذا العرض أجد من المهم أن أشير إلى أن بساطة ووضوح آلية إشباع الحاجات الأساسية كالحاجات الفسيولوجية وحاجات الأمان في مقابل تعقد وغموض آلية إشباع الحاجات العليا؛ يجعل بإمكان اللعب على وتر الحاجات الأساسية للحيلولة دون تفكير الإنسان وانشغاله بالحاجات المتقدمة، وفرص ولادة هوية مركبة ومتعددة في ظل التركيز على حاجات البقاء فقط؛ قليلة جدا، إذ أن ولادة مشتركات تضيف سمة جديدة إلى الهوية سيكون نادرا جدا بسبب سهولة ومباشرة إشباع هذه الحاجات. وهذا يجعل من الضروري الانتباه إلى الممارسات التي تلحّ على تضخيم الحاجات الأساسية على حساب الحاجات العليا، إذ أنها في الغالب تساهم في تجميد وإضعاف ملكات الفرد وقدراته على بناء معايير منطقية سليمة لتقويم حاجاته العليا وفرزها وتحديد كيفية إشباعها.
من الآليات التي تتبعها بعض الجماعات لتزيد من عزلة أفرادها وانغلاقهم ومنع أية فرص لنمو هويات مشتركة مع اﻵخر؛ هي بالخلط بين الرغبات والحاجات. وهو خلط يفضي إلى تحويل حاجات الإنسان إلى مجرد رغبات يمكن التفاوض حولها، كما يمكن تقليمها والانتقاص منها لصالح تجاوز مهددات وهمية أو حقيقية. عندما يعي الإنسان حاجاته فإنه سيرفض من يحاول تجاوزها، ولكن لو التبست عليه هذه الحاجات وظهرت أمامه كرغبات مجردة فإنه سيتنازل عن حاجاته تحت تأثير هذا الخداع. نفس هذا الخداع الذي نتعرض له بشكل دائم يذكرنا بالخداع القادم من السؤال الذي طرحناه في بداية هذا المقال: “من هو أنا؟”؛ إذ أن هناك دائما من يحاول أن يفصّل لنا مقاسا للأنا وفق معاييره، وإحدى أهم الوسائل التي يمكن استخدامها هو تخييل الحاجات كرغبات يجب قمعها أو إضعاف تأثيرها. وفي الوقت الذي نتفق مع ضرورة ضبط الإنسان لرغباته؛ غير أننا نطالب بأن تُحترم حاجات الإنسان التي ستكون هي وسيلته الأقرب والأيسر لديه لإدراك هويته ولإدراك الفاصلة التي تفصله عن الآخر. هذه الحاجات ستتحول إلى نوافذ نطل من خلالها على عوالم الآخرين ونأخذ منهم سمات نشترك فيها لنصنع بذلك هويتنا التي نعيد تعريفها في كل يوم وكل ليلة بدون توقف حتى النفس الأخير.