يمر العالم العربي و الإسلامي في هذه المرحلة العصيبة ، بظروف تاريخية صعبة للغاية، تصب في اتجاه إشعال iiفتيل الاقتتال الطائفي، وإذكاء التعصب المذهبي المقيت وهذا ما تم ويتم استغلاله من القوى المعادية للإسلام والمتربصة بأهله، ولعل الأحداث المتسارعة حولنا في كل من العراق واليمن وسوريا ولبنان وغيرها كثير، دليل واضح على مدى ما وصل بالعروبة والإسلام من بلاء وابتلاء من خلال استدعاء التاريخ ونبش عوامل الفرقة والتعصب، والكيس الفطن منا ينتبه إلى خطورة الانجرار وراء تلك العصبيات النتنة، والتي حذر منها رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم، وإن الأمة الإسلامية بمجموع مدارسها الفقهية المختلفة هي خير أمة أخرجت للناس، وهي الأمة الوسطية.
وفي هذا السياق العام، فإن من واجب المسلم المؤمن بدينه وقيمه الإسلامية الوسطية ووطنيته وانتمائه إلى هذا الوطن الغالي العزيز، والذي حمل وتحمل في رحمه كل أهل هذا الوطن بشتى انتماءاتهم الفكرية والفقهية وعاشوا وتعايشوا فيه وبه بكل حب وود وتراحم وإخاء، لا يفرقهم فقه، ولا يفتنهم تعصب أو متعصب؛ فإنه من واجب هذه المرحلة التاريخية الحساسة والهامة، ومن منطلق الإخلاص والانتماء لقيم الدين الحنيف السمحة، والوطن العظيم وتاريخه وأهله؛ أن نلفت الانتباه إلى ما يمكن أن يؤثر على مستقبل هذه المحبة التاريخية، وهذا الود والإخاء، وهذا هو فقه الواقع الذي يحتم علينا تعزيز جوانب الوحدة والمحبة والإخاء، والبعد عن مواطن الخلاف، والتحذير منه، كما أن الواجب يحتم علينا النصح والتنبيه للذين قد ينزلقوا في هذا الاتجاه -مع حسن الظن فيهم، وتقدير مكانتهم وعلمهم وجهدهم- إلى ضرورة العدول عن هذا الطريق، المؤدي إلى الفرقة والخلاف.
وهنا في هذا المقال المتواضع، نحاول قراءة كتاب الحقيقة الدامغة للشيخ أحمد بن حمد الخليلي، ونناقش ما تم طرحه في الكتاب، وما تناوله من أفكار وعن من يتحدث ولمن، وهو كتاب حديث، حيث صدرت طبعته الأولى خلال هذه الايام، أي بداية عام 2015م، وقامت بطباعته مكتبة مسقط، حيث طبع في السلطنة بموافقة وزارة الإعلام وهي المعنية بالموافقة على طباعة الكتب في السلطنة.
ونود هنا أن نناقش عدة نقاط هامة طرحها الكاتب في كتابه، وأولها أسباب طباعته للكتاب، والموضحة في قوله: (قبل برهة من الوقت، أطلعني أحد طلبة العلم على تحذير بثه أحد الحشوية المغرضين عبر وسائل الاتصال الحديثة، ينذر فيه أصحابه خطورة الاتصال بالإباضية أهل الحق والاستقامة، خشية التأثر بهم في معتقداتهم، ص 7) وخلاصة القول، أن الكاتب قد تم تأليفه؛ لمجرد وصول رسالة نصية أو من خلال الواتس اب، أو غيرها لأحد الأشخاص الذي لا نعلم عنه شيء، من حيث علمه وفقه وورعه، وإن مثل هذه الرسائل المتداولة هي في الواقع كثيرة، وتصدر من كثير من البسطاء أو الجهلة أو المتعصبين من شتى المدارس الفقهية، وهذه الرسالة كانت هي السبب لتأليف الكتاب هنا. ولذا نود الإشارة إلى أنه لا يعقل أن يؤلف أي منا كتابا لمجرد أن تأتيه رسالة من أحدهم عبر الهاتف؛ فالرسائل التي مثل هذه تأتينا كل يوم، ومن أشخاص بشتى توجهاتهم، ولكننا نغض الطرف عنها ولا نرغب في نشرها والحديث عنها إماتة للبدع والفتن. أما أن يؤلف كتابا بغية الرد على كل رسالة قد تؤدي إلى فتنة، أو تثير مواطن الخلاف؛ فذلك أمر غير معقول ولا مقبول ولا يمكن تبريره، والأولى هنا بأهل العلم والعالمين في مجال الدعوة التأليف بين قلوب المسلمين، ونشر جوانب الوحدة والمحبة والوئام لا مصادر الفرقة والفتنة والخلاف، وهذا هو فقه الواقع لكل حريص على الأمة والدين والوطن والإسلام والمسلمين.
أما سؤال: لمن كتب الكاتب هذا الكتاب؟، أو من المقصود به، فإنه في مقدمته يقول (وإذا كان الإنسان يحار من أمر هؤلاء كيف يجادلون في الحقيقة مع وضوحها إلى حد أن تفضح الشمس بإشراق سناها، فإن هذه الحيرة تتضاعف عندما تصدر المجادلات بالباطل لإدحاض الحق من قوم يرفعون راية القرآن، وينتمون إلى أمة الإسلام، ويتدثرون بعباءة سنة النبي الخاتم عليه أفضل الصلاة والسلام… الخ ص7)، ومن خلال هذا الحديث، يتضح أن النقد الموجة في الكتاب لأهل السنة، والأدلة على ذلك من الكتاب كثيرة جدا، ومنها أن الكتب التي انتقدها الكاتب، هي كتب أهل السنة، ومنها كتاب البخاري ومسلم وغيرها، ومن المعلوم أن كتابي البخاري ومسلم هي كتب أهل السنة، وليست كتب أي مدرسة فقهية أخرى، كما أن سماحته قد ناقش موضوعات فقهية وعقدية بعينها، ومنها رؤية الله عز وجل يوم القيامة، ورؤية الله يوم القيامة هو أمر يجمع عليه أهل السنة جميعا، وليس فيه خلاف بينهم، كما أنه انتقد علماء بعينهم وهم: ابن تيمية وابن حنبل ويحيى ابن معين وغيرهم، وهؤلاء من أئمة وعلماء أهل السنة الكبار، الذين لديهم من العلم والمكانة بين أهل السنة جميعهم. ما يؤكد أن المقصود بالنقد في الكتاب هو نقد خاص بأهل السنة جميعهم دون استثناء كونه لا يقصد أي مدرسة فقهية أخرى؛ لأن المدارس الفقهية الأخرى معروفة بكتبها وعلمائها وآرائها.
وهنا أيضا نذكر موضوعات أخرى ناقشها الكتاب ومنها، قضية رؤية الله تعالى، حيث يقول: (كم تجد في تضاعيف الروايات التي عول عليها الحشوية وصف الله تعالى بأخس ما يكون في عباده من النقائص تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. الخ.. ص 51)، ومن المعلوم أن أهل السنة جميعهم يتفقون على رواية رؤية الله يوم القيامة، والحديث عن مواضع الخلاف في هذه القضية لن يقدم أو يؤخر من شيء؛ فنحن نقدر وجهة نظر المذاهب المختلفة ونحترمها. وفي ذات الوقت، نحن مقتنعون أيضا بما نراه في هذه القضية، وهي قضية خلافية، والحديث عنها في هذا الوقت، وفي ظل الأوضاع الاقليمية والدولية الحالية، والفتن المنتشرة في كل مكان، ليس من الحكمة ولا من الوسطية أو التسامح في شيء، بل أنها تعمق الفرقة والخلاف، والأولى غض الطرف عن هذه القضايا الشائكة، مثل قضية خلق القرآن والرؤية والصفات والاستواء وغيرها؛ لأنها آراء فقهية وعقائدية ثابتة عند المدارس الفقهية المختلفة، وأما عن ترسيخ الثوابت الدينية الأساسية المشتركة، وتعزيز وتقوية قيم المحبة والوسطية والوحدة والاخاء فذلك الأولى خلال هذه المرحلة، وإن كان لا بد من عرض مثل هذه الآراء؛ فإن بالإمكان عرض رأي المدرسة الفقهية في تلك القضايا، وأدلة ذلك “لا وصف ما يؤمن به الآخرين ويعتقدونه بالأباطيل” (يقول الكاتب متحدثا عن كتاب الامام البخاري وما فيه من احاديث: وقد كان حريا به أن يجرد صحيحه من هذه الاباطيل، ص 65).
كما أن وصف كتب الحديث المعروفة والمشهورة لدى أهل السنة، مثل كتب البخاري ومسلم “بأنها تحمل الأباطيل أمر غير مقبول مطلقا” فكما أننا نقدر ونحترم كتب الحديث الأخرى للمدارس الفقهية المختلفة، ونقدر أهل الحديث الذين ألفوها؛ فإننا لا يمكن أن نقبل أن يقال على تلك الكتب التي أجمعت الأمة على صحتها ومكانتها على أنها كتب تحمل الأباطيل، وهذا لا يعني تقديس أي من تلك الكتب، عدا كتاب الله عزوجل، وكل امرئ مهما كان علمه وفقهه ومكانته فإنه قابل للنقد، لكن ذلك النقد العلمي الرصين الذي يخلو من الهجوم والاستخفاف والتجريح.
كما أن الكاتب، كان في كتابه قد وصف كبار علماء السنة وأئمتهم بصفات لا تليق، ومنها وصف شيخ الاسلام ابن تيمية بأنه كبير الحشوية؛ فقال (أنكر الحشوية كثيرا من الأحاديث الصحاح عندما أتت غير موافقة لهواهم، ومن ذلك إنكار ابن تيمية وهو من كبار أئمتهم حديثا صحيحا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسند الصحيح، ص 114)، وشيخ الاسلام ابن تيمية له مكانته العلمية والفقهية الكبيرة بين أهل السنة؛ فقد ألف أكثر من خمسمائة كتاب، كما أن مواقفه الشجاعة وجهاده ضد التتار معروفة ومشهورة، ومواقفه ضد الحكام المستبدين، ووقوفه في وجه ظلمهم وطغيانهم، مواقف لا يمكن انكارها.
كما أن الكاتب اتهم الإمام احمد ابن حنبل، وهو أحد الائمة الأربعة الكبار عند أهل السنة، بأنه ينكر الأحاديث الصحيحة بدافع الهوى؛ فيقول (هذا وينكرون أحاديث متواترة بدافع من الهوى، ومن أمثلة ذلك لما حكاه ابن الجوزي في (العلل المتناهية)، عن الخلال انه: ذكر أن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبا خيثمة والمعيطي ذكروا حديث (تقتل عمار الفئة الباغية)، فقالوا فيه: ما فيه غير صحيح، ص 128)، ومن المعلوم عند الجميع مكانة الإمام الجليل احمد بن حنبل وجهاده وقوله الحق ، واتهامه بأنه متبع للهوى هو أبعد ما يكون عن الصواب، وإن كان الإمام أحمد بن حنبل رغم مكانته هو بشر يخطئ ويصيب، لكن لا يقبل أن نشكك في نوايا مثل هؤلاء العلماء الأجلاء، وصدقهم وإخلاصهم لدعوتهم وربهم لمجرد الاختلاف معهم في الرأي، كما أننا لا نقبل التشكيك في نوايا وأقوال أي من العلماء الآخرين مهما كانت آرائهم ومقولاتهم التي نراها مخالفة لما نعتقد.
كما أشار الكاتب إلى أن (الحشوية) يعرضون عن القرآن؛ حيث قال (وترى الحشوية لا يقتصرون على الإعراض عن السنة، بل هم أجرأ الناس على الإعراض عن القرآن أيضا، ناهيك منهم أنهم يقدمون عليه الآثار المروية، كما هو واضح في كلام البربهاري، وهو أحد ائمتهم، حيث يقول: وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة، فقم من عنده ودعه، ص 130)، وهذا كلام غير مقبول ولا معقول مطلقا؛ فأهل السنة لا ينكرون القرآن ولا يعرضون عنه، وهذا العالم (البربهاري) هو عالم غير معروف، وحتى إن كان معروفا وقد أخطأ؛ فلا يمكن من خلاله إتهام أهل السنة بالإعراض عن القرآن، فهذه الآراء الشاذة من أشخاص غير معروفين لا يمكن التعويل عليها، أو اعتبارها تمثل مدرسة فقهية بعينها، ولا يمكن جمع تلك الآراء والأفكار غير المعتبرة وإلصاقها بفئة بعينها؛ لإعطاء العامة فكرة مفادها “أن مدرسة فقهية بعينها هي فيها من الضلال والانحراف ما فيها”. ولو أننا راجعنا كتب التاريخ، وتتبعنا الآراء الشاذة والأخطاء الفادحة لدى العلماء في كل مدرسة فقهية؛ لوجدنا العجب العجاب، لكن فقه الواقع يحتم علينا الابتعاد عن هذا المنزلق.
والواضح المختصر، من استعراض بعض ما جاء في الكتاب سابقا، أنه يستعرض آراء أهل السنة في مواضع الخلاف المشهورة مثل رؤية الله تعالى يوم القيامة وغيرها، وهي مواضع اختلاف بين المدارس الفقهية المختلفة، كما يتهم سماحته كتب الحديث المشهورة عند السنة بأن فيها “أباطيل” وغيرها من التهم المنسوبة لهم، كما يصف كبار علماء اهل السنة بلفظ “الحشوية” وهو لفظ غير مقبول ولا مستساغ، ويتهمهم بأنهم يتبعون الهوى، وينافقون الحكام، وكل هذه الآراء والأفكار لا نقبلها لأي من المسلمين مهما كانت مدرسته الفقهية، فلا نقبل اتهام أي من كتب الحديث لأي مذهب ولا نقبل بالاستخفاف بأي رأي من الآراء في العقيدة لأي مذهب، ولا نقبل الاستخفاف بأي من العلماء والائمة لأي مذهب، والذي لا نقبله لأنفسنا لا نقبله للأخرين أيضا، وقد نغض الطرف عندما يأتي هذا النقد الجارح من أحد الأشخاص المغمورين أو أحد العوام الجاهلين؛ لكن أن يصدر مثل هذا الكلام من شيخ له مكانته وأتباعه، وله علمه وثقله بين الناس، فإن ذلك أمر لا يقبله أحد مهما؛ لكن كتبنا هذه الكلمات تنبيها من الاستمرار في مثل هذا الطريق، الذي قد يؤدي إلى مزيد من الفرقة والاختلاف، ونتمنى من علماء الأمة ومفكريها الكف عن كل ما يعكر صفو المحبة والتسامح والتوجه لكل ما يعزز الوحدة والمحبة والوئام.
وفي الختام، فإن الآراء الفقهية والعقدية لكل مذهب لا تعدوا أن تكون اجتهادات لكل مدرسة فقهية، وهذه الآراء قد يخطئ المرء فيها وقد يصيب، لكن يضل التقدير والاحترام بين جميع أصحاب تلك المدارس؛ فلا توجد حقيقة دامغة ولا حق دامغ، وإن جميعها اجتهادات فردية قابلة للخطأ والصواب، والتوفيق من الله تعالى، ولا يمكن لأي شخص مهما علت مكانته أو فاض علمه، أن يحتكر الحق والحقيقة له وحده، معتبرا آراء الآخرين مجرد أباطيل أو ضلال.
وهذا المقال يندرج تحت هذه القاعدة؛ فهو رأي شخصي يحتمل الخطأ والصواب، فما كان صوابا فهو توفيق من الله وفضل منه، وما كان فيه من خطأ أو نسيان، فمني وحدي ومن الشيطان. وأسال الله تعالى أن يوحد صفوف المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، وأن يبعد عنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ عماننا الحبيبة وأهلها، من كل سوء ومكروه.