بلا مقدمات، وبدون تقليل من أهمية أي من المواضيع الأخرى، أود أن أخترق سلم الأولويات، وأن أقفز بعنواني إلى مرتبة الصدارة، وأضعه في المقدمة، فالالحقيقحقيقة العنوان الذي لا يمكن ولوج باب الفلسفة أو الحياة بدونه، وهو غالبا ما يجعل مناقشته بلا بداية، أو بداية لنهايات لا تنتهي، وتجاذب أطراف الحديث عنه لا ينقضي ولا ينتهي. فكثيرا ما تتردد الحقيقة في أحاديثنا وخطاباتنا، قد تبدوا في نظرتها الأولى فكرة بريئة وتصور شفاف وماهية واضحة، ولكن الناظر إليها تدبرا وتأملا يرى قوة مهولة تتعدى القصد والمعنى والمعلن.
المطابقة تعريف الحقيقة مع البداية اليونانية، بحيث أن التطابق بين المعرفة والموضوع فكما يقول المسلمين توافق ما في الأذهان لما في الأعيان ينتج الحقيقة. وهذا التطابق يأتي على شكلين: بين الشيء وتصوره، وبين الدال اللفظي ومدلوله، وعند انتفاء التطابق والتوافق يكون موضع التباس ومحل إشكال وضربا من ضروب الخطأ والوهم والشك. وهنا يظهر مصنع الأزمات ألا وهي الثنائيات كالصواب والخطأ والحقيقة والوهم، فمن يرى مطابقة بين ما يعرف ويرى، والذي قد لا يراه الأخر كذلك من باب تفاوت واختلاف المعرفة والتي هي معيار التطابق تبدء عندها حرب التهافت والإسقاط على الأخر في محاولة لكليهما لتثبيت وجوده ومشروعيته فتخلق جمودا وانغلاقا وتراجعا على كل الأصعدة. وكما يقول هيدغر:” منذ ذلك الحين أصبحت صياغة مفهوم الحقيقة بوصفها صحة التصور المعبر عنه بالقول هي الصياغة الملزمة للفكر الغربي كله”، حيث استعمرت الحقيقة التقليدية التي تعود جذورها الأولى إلى أفلاطون وأرسطوطاليس عقول وأطياف عصري النهضة و التنوير حيث قام العرب والمسلمين بشرح وتلخيص وتبويب هذه النظرية التقليدية دون المساس بجوهرها ليستوعبها العصر المدرسي بعد ذلك ويأطرها توما الاكويني بالإطار الكنسي، مرورا بفلاسفة النهضة والتنوير الذين ظلوا على هذا المنوال دون شذوذ فقد تتغير الاشكال والمسميات ولكن يظل الجذر واحد وكما يعّرف كانط المعرفة بأنها معرفة الظاهر فحسب وأن العقل لا يستطيع أن يصل إلى معرفة الأشياء بذاتها، هنا تظل الحقيقة التقليدية غير قادرة على قفل الكلام والصمود أمام الأسئلة وذلك بسبب تعنت الفلاسفة الذين لا يريدون الخروج من سجونهم
ولكن مع الفكر المعاصر عرف مفهوم الحقيقة تحولا عميقا، نتيجة للمسار التاريخي الطويل من الاحتكار، خصوصا مع ظهور التعارض والتقابل، بين الموضوع والمعرفة والدال والمدلول. فكان لزاما على الحقيقة أن تنتقل بين الفئات المفكرة والمتأملة من الفلاسفة الذين يبحثون عن بديل للحقيقة التقليدية واستبدادها، التي أقصت كل ما يختلف معها كالخطأ وما شاكله من وهم وخيال وشك وكأن جميعها لا تدخل في نسيجها بل نقاضها ومناقضاتها. وكما يقول فرنسوا جورج هذا التعريف لما هو حقيقي لا يمكنني من التوصل إلى ما هو حقيقي إذ يتعين علي أن أخرج من أفكاري لأستطيع أن أقارنها من الخارج مع الكائن الذي أشهده بدون توسطها. فكان لزام أن ينتقل الحق إلى الأخرين، لسبب تاريخي وهو أن نشاطهم قد سقط في دوار الحشو والتكرار، وسعيهم نحو ملء الفراغات والقضاء على الفوارق وخلق التطابق أداء إلى نفي وإلغاء وتهميش الأخر.
وكانت بداية التغير مع فيلسوف ما بعد الحداثة نيتشه، الذي كان أول من يفكك مؤسسة الحقيقة ويضرب مفهوم المطابقة، ودحض مفاهيم الحداثة المتمثلة بالهوية والذاكرة والاتصال والبناء والحقيقة، وإبدالها بمفاهيم الاختلاف والقطيعة والتفكيك والخطأ. الخطأ الذي جعله مرادف للحقيقة، كما أوضح من قبل باشلار أن المعرفة ليست معرفة مباشرة، بل ذات إيحاءات تراجعية تعود إلى ماض من الأخطاء وألوان من الندم والمراجعة الفكرية. هنا يحدث النقد وتراجع وإعادة نظر للخطأ الذي اعتبر على الدوام بأنه الجانب المظلم من الحقيقة والمنطقة المحرمة التي يجب الابتعاد عنها على الدوام، برد الاعتبار للخطأ من الباب العريض على أنها أصل لفرع الحقيقة كما أوضح نيتشه بقوله الحقيقة هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يستطيع نوع معين من الكائنات الحية أن يعيش بدونه، وأن الحقيقة عبارة عن أوهام وأخطأ مفيدة في خدمة تيار الحياة. وكخطوة تاليه قام هيدغر بعد ذلك بتهشيم صورة الحقيقة التقليدية، فقد وجهه هو الآخر أصابع الاتهام، كما قام بضرب المسار الأخير على نعش الحقيقة التقليدية المتمثل في الاساس اللاهوتي لهذه النظرية حيث يقول أن الفكر الذي يقيس الأشياء هو الذهن الإلهي، في حين أن المقيس هو الفكر الإنساني. وبما أن الأشياء مخلوقة من طرف الله في ماهيتها ووجودها، فثمة مطابقة للفكرة التي تصورها الله عنها في البداية وهنا يقع الاساس اللاهوتي لهذه النظرية. وهنا هيدغر يخلق مفهوم جديد للحقيقة يقوم على أساس ترك الأشياء توجد وتعبر عن ذاتها وتكشف عن نفسها. ومن ثمة فإن الحقيقة في نظر هيدغر تعيش حال تضاد مع التقنين ونفور من التحديد، فالحرية جوهرها، والمقصود بالحرية هنا هو ترك الأشياء تكون ما تكونه.
ويعرف نيتشه الحقيقة بقوله أنها مجموعة من الاستعارات والتشبيهات والمجازات، تبدوا لشعب من الشعوب دقيقة وذا مشروعية وسلطة مكرهة. إلا أن الحقائق هي عبارة عن أوهام واستعارات استخدمت كثيرا حتى فقدت قوتها، إنها قطع من النقد فقد الختم المرسوم عليها، وأخذ ينظر إليها لا على أنها قطع نقدية بل مجرد مادة معدنية. وهنا قام المفكرون المعاصرون كجيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا وسواهم من نقاد الحداثة والحقيقة التقليدية. بنزع قدسية الحقيقة من خلال النظر إليها كقيم تم إقرارها من طرف إرادة مسيطرة، فالحقيقة من منظورهم ليست هبة من السماء ولا نبتا بدون زرع أو بذر، بل هي نتاج السلطة وهنا يلح الفكر على خلخله وتفكيك وإسقاط لنظام السلطة ليس فقط السلطة السياسية بل أيضا سلطة الأدب والفن والعلوم وحتى سلطة السلطة، فالحقيقة كما يدعوها ميشيل فوكو ليست شيئا في ذاته بل هي القيمة التي تنسبها إليها إرادة قوة أو إرادة معرفة فالحقيقة هنا مفعولا لا فاعلا و مسببا لا سببا، فوجب إسقاط القيم المفروضة من فوق فكذا انتقل فكر ما بعد الحداثة من موت الاله إلى موت المؤلف فموت الأب، حتى يفرّغ المجتمع من قواعد وبنى، وأنساق وسياقات تولدت من ممارسات السلطة.
يقول لنا نقاد الحداثة لا ينبغي النظر إلى الحقيقة بحضور وامتلاء، بل بانغلاق وانفتاح، أو احتجاب وانكشاف كما علمنا هيدغر. فالحقيقة تخفي خدعها وحيلها بإظهارها في التمثيل والمجاز والتشبيه والاستعارة. وما يقوم به نيتشه من خلال الجينيالوجيا هو كشف مجازية الوجود الذي هو باستمرار مجرد خدع وحيل استعارية ومجازية تولد قيم. في النوم مثلا تعتقد أنك تعيش حالة من الثبات والاستقرار في خيالات ومعتقدات تعيشها بدون أية شكوك أو أسئلة وجود وكأن الواقع جزء لا يتجزأ من هذه الحالة، ثم تستيقظ فتعلم أنك في خيال ومعتقدات لا أصل ولا طائل من وراءها. وكأن مدركاتك العقلية قامت بخداعك، رسمت واقع سريالي تعيشه للحظات ثم تدرك أنه خيال، إذا كانت المدركات العقلية تقوم بالخداع واللف والدوران وهي الحكم والقاضي على مدى صحة و مشروعية المدركات الحسية فحينها تتسأل عن قول الرسول عليه الصلاة والسلام:” الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا”، وكأن الرسول الكريم يخبرنا بأن الحياة مجرد حلم كبير، والموت حالة من الاستيقاظ وحينها يقول الله جل في علاه:” فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد “.
الحقيقة الشعار الذي لم يسل سيف ولم تنتهك حرمته كما سل ونتهك باسمها، الحقيقة التي قضّت مضاجع الجميع، تقوم بتصنيف الأفكار تحت أبواب الكبت والمنع والتهميش والاستبعاد، لا تؤمن بالمشاركة والتبادل والتكامل والتصالح والتسامح، تحمل الوصاية على الجميع بسبب مطلقيتها وكليتها كما يظن متبنيها وكأنها حتما مقضيا لا راد له. وهنا تأتي ما بعد الحداثة لتعطي الحقيقة منصب أقل ودرجة أدنى وتقضي على مشروعية قوانين الابادة التي انتجتها الحقيقة، فكما يصف إيهاب حسن ما بعد الحداثة بقوله: “التهكم والتوجه الفردي والعودة إلى الذات: هذه هي ردود الفعل التي لا مهرب منها لفكر يبحث عن حقيقة تتميز بتهرب دام، فكر لا يجد أمامه منفذا إلا في الفكاهة والهزل ورفض روح الجد في تجذير الوعي الذاتي”. هنا قد يبدوا للأول وهلة أنه هروبا إلى الأمام بل على العكس تماما هي دعوة للعيش في هذه الحياة دون أن نغفل احتمالية كون الحياة مجرد وهم كبير.