فرق كبير، بين مقولة سقراط: “المعرفة فضيلة”، أو مقولة جورج صاند: “الفهم التام صفح كامل”، وبين بيت شعريّ للمتنبي: ذو العقل يشقى فى النعيم بعقله . . وأخو الجهالة فى الشقاوة ينعم. فالمقولات، وإن مثّلت تفكير أفراد ما بعينهم، تمثل واقعا متكرر المشاهد، في مجتمعين يفصلهم الدين واللغة وحتى التاريخ، الغرب والعرب. وهي تعطي وصفا عامّا لوضع المثقف في كل مجتمع، ومدى تقبل أو تناقل أفكاره سواء في السلطة السياسية أو المجتمع المدني.
الغرب، والذين حتى وقت قريب، كانوا أكثر المجتمعات استعبادا للشعوب الأخرى، لمجرد الاختلاف معهم في اللون أو الثقافة، وكانوا أكثر الشعوب حروبا واحتلالا وتدميرا للبلدان –بعض الدول لا زالت تمارس الدور نفسه وإن اختلفت الطرق-، بل ساهموا إلى محاربة مفكريهم ومحاكمتهم منذ أمد بعيد، مثلما حدث مع سقراط نفسه -تهمة إفساد عقل الشباب- وما حدث مع جاليليو كذلك بعد مواجهة الكنيسة له ولعلمه، تقف مجتمعاتهم اليوم قبل أنظمتهم السياسية، موقفا ثابتا وصارخا أمام أي تجاوز أخلاقي إنساني للبشرية، فرغم سياسة المصلحة وقطف “الثمار” التي تتبعها أنظمتها تجاه العالم الثالث، إلا أنّك تجد مجتمعاتها دائما ما تتعاطف وتتظاهر منددة ومعارضة، فلا تستغرب أن تجد مسؤولين إسرائيليين يتجولون في بلدان عربية بكل أريحية، في حين أنهم ممنوعون من دخول بعض الدول الأوربية مثلا بتهم تتعلق بجرائم بشرية!
وهنا منبع الفكرة الأولى التي افتتحت بها مقالي، فالمعرفة التي عدّها سقراط فضيلة، ووصفها “جورج صاند” على أنها صفح كامل، يراها المتنبي شقاء، وهي فكرة تمثل حال تعامل المجتمعات مع مبدعيها ومفكريها، والغربة التي يعيشها هؤلاء بين مجتمعاتهم، وليست ببعيدة تماما عن مقولة العالم العربي المصري الكبير الحائز على نوبل د.أحمد زويل، حين قال: “نحن نحارب الناجح حتى يفشل، وهم يدعمون الفاشل حتى ينجح”. وليس مبالغا فيه ما ذهب إليه زويل حقا، فها هي الأزمات الجديدة للمواطن العربي بعد أحداث 2011، والهجرة الطوعية أو القسرية التي يعيشها عدد من أبنائه، تجد المجتمعات الغربية تتعامل معهم كأفراد منهم، ويعيشون بينهم كمواطنين عاديين، في حين أن المجتمعات العربية لا زالت تتجنب “مخالطتهم” للمجتمع، وتضعهم في مخيمات بعيدة، هذا إذا لم تتآمر مع حكوماتهم للقبض عليهم وإعادتهم مجددا، مثلما يحدث حاليا في الخليج العربي إثر تنفيذ الاتفاقية الأمنية الخليجية.
ولا أستطيع هنا ردّ الحالة إيّاها -غربة المبدع والنخب- إلى أصلها، فهل هي نتاج ممارسة مجتمعية جمعية تمثلت في ممارسة سلطوية، أم أنها ظاهرة سلطوية تفردية انعكست ظلالها على المجتمعات العربية، فأصبحت المجتمعات بقصد أو دون قصد، صورة مكررة عن أنظمتها! فمن ناحية المجتمعات، لا زلنا لليوم نشكك في كل اختراع أو بحث علمي؛ ونستعين بأقرب مثال وهو انتشار فيديو لأحد الدعاة وهو ويكذّب نظرية دوران الأرض! وكذلك نحارب كل معارض لأي نظام “استبدادي” أو منادٍ لإصلاح سياسي. ومن ناحية السلطة، فالميزانيات السنوية الموضوعة للتعليم والبحث العلمي خير مثال على ما نتحدث عنه هنا، سواء كان هذا نتيجة جهل السلطة بأهمية هذا الجانب أو تعمدها لذلك.
لكنّي أستطيع الجزم، أن السلطات في الوطن العربي عامّة، والخليج العربي خاصة، ساهمت بصورة مباشرة، تكاد تكون متعمدة، إلى تأسيس نوع من المجتمعات “الخاضعة” قهرا أو طوعا لها، وهذا بدوره ما أدى إلى وجود مجتمعات شبيهة بسلطاتها في “ردة الفعل” تجاه أي فعل أو رأي معارض، حتى وإن كان هذا الرأي أو الفعل في مصلحة هذه المجتمعات بكافة حدوده القصوى. مما أدى إلى تشكل ظاهرة نفور عام من أي مواطن عربي/خليجي يحاول ولو من خلال “القلم” أن ينتقد الحاكم العربي أو أداء حكومته، في الوقت الذي تجد فيه حكومات المجتمعات الغربية، تعمل على زيادة الوعي بين مواطنيها، حول أهمية مشاركتها في العملية السياسية وصنع القرار، وتوفير كافة السبل اللازمة لتأمين هذه المشاركة، عبر الوسائل التعليمية والإعلامية وغيرها، المتاحة للجهتين (الحكومة والشعب).
الغربة التي يعيشها المناضل العربي، لا نستطيع وصفها على أنها ردة فعل شعبية بحتة لرفض أي فكر معارض لتوجه المجتمع، بالتالي التعلل بغياب الوعي “الجمعي” وعدم جهوزية المجتمع؛ بل هو سيناريو حكومي بحت، أنتجته العصى الأمنية اللاذعة التي أطلقتها الحكومات العربية على ظهور معارضيها، وأسلوب الجَلد هذا هو ما سبب إلى حالة خوف العامّة التي أنتجت “شرطيّ المجتمع” الذي ينوب عن السلطة في عملية التشهير والتضييق المجتمعي، في حين أن السلطة تكتفي بالاعتقال!
لم يعد “أصحاب المعرفة” والعلماء وحدهم من يعيشون غربة في مجتمعاتهم العربية عامة أو الخليجية خاصة، بل حتى الناشط السياسي والناشط الحقوقي أو أي فرد يختلف توجهه من ناحية الدين أو المعتقد عن المجتمع الذي ينتمي إليه، يعيش الغربة نفسها، وليس غريبا أن تجد للسلطة “نخبة” كذلك، تضم أعلى الشهادات وأرقى المناصب العلمية، يستميتون في الدفاع عن السلطة وقرارتها، حتى وإن كانت هذه القرارات مخالفةً لقناعاتهم الفكرية أو معتقداتهم العلمية التي اكتسبوها ويعملون على تمريرها للناس كمادة علمية أو أدبية.
يا لحظ تلك الشعوب التي تعيش على فضيلة الوعي وصفحها الكامل، ويا لشقاء شعوب في الجهة الأخرى يشقى بعض أفرادها بوعيهم!