إذا ما نظرنا لمعنى كلمة التهكم في المعجم، نجدها تحمل معاني عديدة فهي تأتي كفعل مثل “تغنّى”، و”حدّث نفسه”، و”تكبر”، وتهكم فلان به: أي استهزأ به واستخف، و في البلاغة يعد التهكم أحد أنواع البديع يُعبر فيه بعبارةٍ يقصد بها ضد معناها، أو هو تصنع الجهل. وبكلا المعنيين فالتهكم فعل ناقد يقصد به كشف الصواب وبيان الخلل، وهو يشبه في أسلوبه إلى حد كبير الهجاء والسخرية من حيث الميل للطرافة والمبالغة، لكنه يتميز عنها بأنه يهدف إلى التوصل إلى غاية جادة.
إن التهكم ماهو إلا محاولة للتملص من النمطيات، والنظرة المتكررة للأشياء. وكموقف وجودي، فهو يرفض الواقع، ويفقد المسلَمات شرعيتها؛ كونه يمارس الحرية في التفكير مع تجاهل الخلفيات التاريخية للأحداث. إنها طريقة حادة في دراسة الواقع وتصويره مليئا بالتناقضات. لكن أليس كل شيء تقريبا خاضعا للنسبية غير المستندة إلى أساس عقلي ومنطقي ثابت؟ فالأخلاق مثلا ليست سوى تقييم عام للممارسات الإنسانية، كوّنتها البيئة والتربية والمجتمع والدين، قبل أن نحدد مواقفنا المجردة تجاهها. والتهكمُ طريقة لإعادة النظر في صلاحيتها وجدوى صرامة بعضها تبعا لفردانية كل واحد منا، ومقتضيات حياته. كذلك الأمر بالنسبة للشخصيات التاريخية البارزة؛ حيث قلما نجد لأعمالها نقدا موضوعيا محايدا عوضا عن التهكم، بينما لا نألوا جهدا للاحتفاء بإنجازاتها في نوع من التقدير المبالغ، فيما يبدو أنه طريقتنا المتوارثة للتعبيرعن الامتنان.
إن المتهكم يبدو معتدا بنفسه، ولديه من الذكاء ما يجعله يطرح الأسئلة المناسبة دون أن يشعرك بأنه يجرك نحو تبني آرائه. قد تبدو محاولة لتضليل عقول الناس، لكن لايهم، طالما أن المتهكم يمارس حقه في عرض رأيه، الذي يبدو أنه مقتنع به لدرجة أنه يرى أن ما يناقضه مدعاة للسخرية. وهو، عوضا عن ذلك، ممثل بارع يستطيع أن يغير هيئته وطريقة تصرفه حسب ما يستدعيه الموقف.
لكن ما الذي يدفع المتهكم لتبني هذا المنهج غير المباشر في التعبير؟
الأسباب تبدو معقدة ومتداخلة، والأغلب أن المتهكم أصيب بحالة من الإحباط بسبب الواقع الإجتماعي، وأدرك أن الطرق التقليدية في محاولة التغيير ونقد الظواهر لم تعد ذات جدوى، فكانت هذه طريقته في محاولة العيش أو التفاعل. ومن هنا كان نيشته يتسائل “هل كان تهكم سقراط تعبيرا عن تمرد؟ عن ضغينة عامة؟” لم لا؟ خاصة إذا علمنا أن سقراط واجه موجة من الاعتراضات، واتهم بالتخريب والفساد، قبل أن يعدم بسبب منهج “التهكم والتوليد” الذي لم يكن مألوفا في أثينا، حيث إنه كان يطوف في الأسواق والشوارع ويسأل الناس أسئلة محددة تتخذ غالبا شكل الافتراضات متصنعا جهله بإجابتها؛ بغية إيصالهم للفكرة التي يسعى إليها، وهنا يشعر المتحدث بأنه هو من توصل للاستنتاجات بينما في الحقيقة إن أسئلة سقراط هي التي دفعته لتبني هذا الرأي أو ذاك. يقول سقراط، واصفا ما يفعله،: “كنت أشرف على ولادة النفوس.. كانت لي القدرة على توليد الحقيقة في النفوس الحبلى بها”. مما يعني أن سقراط كان مقتنعا أن الناس يملكون من الذكاء والمعرفة ما يمتلكه ولكنهم كانوا يرزحون تحت وطأة الجهل والمعتقدات البالية، وهي الفكرة ذاتها التي أكد عليها أفلاطون فيما بعد حين قال “المعرفة تذكر، والجهل نسيان”.
يمكن ممارسة التهكم في كثير من حقول المعرفة؛ كونه طريقة عملية ل”ارتداد الوعي إلى ذاته”. ففي مجال العلوم التجريبية تقوم الافتراضات دائما على أسئلة تخضع للشك الموصل لاستنتاج نماذج أولية، ثم بعد تجربتها وإثبات صحتها يمكن عدّها حقائق علمية. في جانب آخر يمكن للمربي الحذق أن يتعمد طرح الأسئلة التهكمية على الأطفال كمرحلة إعداد للتفكير المجرد. وبذلك سينتقل أسلوب التعليم من التلقين إلى مرحلة استخراج المعلومة التي لا يكون فيها المربي إلا وسيطا. في حين أن المستويات العقلية تتفاوت بين الأطفال، وتتغير حسب المرحلة العمرية، مما يجعل التعليم سلسلة من التحديات لا تبعث على الضجر. لكن، لأن التهكم يختلف عن التلقين في اعتماده على قدرة المتهكم ومدى إيمانه بما يطرح فإن البعض يتوجس من استخدامه كوسيلة تعليمية في المؤسسات لِمَا قد يؤدي إليه من بث التربويين أفكارا لاتتناسب مع أفكار وتوجهات المؤسسة، وفي حالة حددت المؤسسة المنهج تحديدا واضحا فقد يخلق الأمر ازدواجية للمعلم بين ما يؤمن به وبين ما يفترض أن يقنع به الطالب. هذه الأسباب –برأيي- ما هي إلا أعذار واهية تعود لتخوف المؤسسات التربوية من تجربة طرق وأساليب جديدة في إيصال المعلومة مما يساهم في فتح روئ الطلاب على وجوه عديدة للحقيقة، وبالتالي رفع الوعي وحس التفكير الناقد لديهم.
يرجع الفضل للتهكم لأنه أنزل الفلسفة إلى الشارع وجعلها أمرا متاحا لجميع الناس، وسعى إلى فك العلاقات المتداخلة في المفاهيم وتيسيرها عن طريق طرح الأسئلة الصحيحة؛ لأن الحقيقة لا يمكن أن تتحقق دون النظر إلى المعارف نظرة تأمل وملاحقتها بأسئلة الشك. لذا فإني أدعوك -عزيزي القارئ- لتجعل التهكم، بمبالغاته وافتراضاته، طريقتك للتوصل إلى معرفتك الكامنة، وإلى إعادة النظر في علاقتك بالعالم من حولك؛ لأنك ستجد من الاستنتاجات مايدهشك ويحفزك للبحث أكثر.