وعلى غير العادة سأغير قليلا طريقة وأسلوب الكتابة في هذا المقال، حيث سأعتمد على البساطة الشديدة في المفردات والأفكار وسأبتعد قليلا عن التورية وأخواتها، كي تفهم الجهة المعنية ما أريد أن أوصله نظرا لأنه يبدو أن لديهم مشكلة في الفهم والاستيعاب، وفي تقبل الآراء وأسس الحوار والعمل بهذه الأفكار بعد طرحها أو حتى أخذها بعين الاعتبار. في هذا المقال سأصطحبك، أميرتي الفاضلة، في رحلة تاريخية عبر آلة الزمن العقلية تماما مثل رحلة الأميرة عنابة عندما كنا نشاهدها ونحن صغار، أميرتي الفاضلة ها نحن قد فتحنا الثقب الأسود كي ندخل فيه، ونذهب إلى زمن آخر غير هذا الزمن، فأرجو أن تكوني مستعدة، فما سنراه مهم للغاية بالنسبة لك فأنت وهم أصحاب القرار .
ها نحن نحط على أرض مصر في عهد الملك فاروق، فانظري حولك، هل تعلمين أن بريطانيا، وهي الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، كانت مدينة لمصر بـ 300 مليون جنيه، وبحساب القوة الشرائية وبحسابات الوقت الحاضر سنجد أن هذا المبلغ يعادل رقما فلكيا من عشرات المليارات من الدولارات في الوقت الراهن، وأنهم قد نجحوا في تجربة إطلاق أول صاروخ مصرى الصناعة بمساعدة الخبراء الألمان فى مصر، وأصدروا قانون محاكمة الوزراء وقانون الكسب غير المشروع ثم أتبعوه بإنشاء المجلس الأعلى للشؤون العلمية والصناعية (المركز القومى للبحوث) في خطوة هي الأولى من نوعها في الشرق الاوسط.
هل تعلمين أن شعب مصر وحكومته كانوا يتمتعون باكتفاء ذاتي في كل المحاصيل الزراعية بحيث لا يستطيع أحد أن يفرض أجندته عليهم. انظري، أميرتي الفاضلة، إلى مستوى النظافة والتنظيم والالتزام، لدرجة أن مصر قد حصلت على افضل عاصمة في العالم والشرق الاوسط في النظافة والتخطيط والإنارة وعدم الازدحام ونظافة واجهات المنازل والمحلات التجارية، انظري الى المدارس ومستوى التعليم فيها وإلى البعثات التعليمية المصرية التي تخرج الى شتى أنحاء العالم سنويا لتنقل ما توصلوا إليه في هذا الشأن إلى بقية الدول والأنظمة التعليمية، حتى أن اليابان جاءت إلى مصر كي تدرس أسباب نهضتها التعليمية والاقتصادية وتطورها في ذلك الوقت، أليس هذا مدهشا!
والآن أريدك أن تتفكري قليلا وبصورة جدية وليست دفاعية، كيف وصلت مصر إلى ما وصلت إليه؟ وكيف تدهورت تدهورا يكاد أن يكون شاملا في أقل من 50 عام؟ ما الذي حدث؟ ومن المسؤول؟ وما القطاع الذي بنجاحه ينجح كل شي وبفشله يذهب المجتمع كله في غيابة الجب؟
ولكن أجلي مسألة التفكير والبحث الآن؛ فلدينا محطة أخرى نريد أن نذهب إليها، وهي محطة الطفولة -وما أجملها!-، انظري لذلك المزارع الأجنبي وهو يحاول أن يذبح تلك الدجاجة وجميع الأطفال من حوله، انظري لقد قطع رأسها ولكن الدجاجة تتحرك بسرعة كبيرة وباتجاهات مختلفة، حتى أنه يخيل لنا بأنها ترانا فهي تركض وراءنا مباشرة، رغم أنها تمشي بلا رأس، لكنها كادت أن تخدعنا، كدنا أن نظن أنها ستكون بخير وأنهاستعيش، إلا أنها ستموت بلا شك فهي بدون رأس يحرك جسدها الهالك، وهذه هي قوانين الطبيعة وينبغي عليك، أميرتي الجميلة، أن تفهمي ذلك؛ فكل شيء يمشي بلا رأس سيهلك في النهاية بلاشك وإن خُيِّل لنا بأنه سينجو.
المفزع في الأمر أن منظومتك تسير في ظل غياب تام لرؤية استراتيجية واضحة الملامح، وكل ما يقال إعلاميا هو حديث فضفاض عن استقرار المنظومة التعليمية. استقرار على ماذا؟ وبماذا؟ الله وحده يعلم، ولكن الذي بات ظاهرا لكل متتبع جاد بأننا بصدد دخول مرحلة جديدة تتسم بالانفرادية والارتجال والاستعجال والتسرع في اتخاذ القرارات المصيرية دونما دراسة علمية وافية أو إشراك حقيقي لمختلف المنظمين لهذه المنظومة، ناهيك عن وجود قيادة تنفيذية -إن جاز الحديث عن قيادة- تغلب عليها الشعبوية ولغة التهديد والوعيد وترصد الأخطاء والعنجهية، فنحن نرى بأنكم لم تضعوا الهدف المنشود الوصول إليه، ونحن نتسائل هل من خلال سياساتكم تريدون تعليما ترفيهيا أو تعليميا تقنيا أو تعليما يهدف إلى إشغال الطالب أو تعليما يرفع مستوى البلد للرقي بها؟ إذا كنتم تريدون إخراج شعب راق متعلم -كما تدعون- فما المخرجات التي ستعمل على إخراج ذلك؟
دعينا نرحل إلى روسيا كي تشعري بحجم المشكلة قليلا، وبالتحديد إلى موسكو حيث يتواجد السيرك هناك، انظري الى ذلك الساحر، إنه يستطيع أن يخفي فيلا أمام أعين الجمهور وبكل بساطة، هل تعلمين كيف يفعل ذلك؟ بالتضليل، إنه يضلل الناس كي يصدقوا أن الفيل قد اختفى، إلا أن الفيل لم يختفِ، ولكن العقل يصدق ما تراه العين دائما، والعين خادعة في كثير من الأحيان، ولكن ليس لبعض الناس الذين يمشون على خطى شارلوك هولمز؛ فهؤلاء لا يسهل خداعهم أو تضليلهم، وينبغي أن تعيريهم اهتماما وتنصتي جيدا لما لاحظوه ورصدوه وطبقوه وناضلوا كي تسمعوه، فنحن ما زلنا نتساءل، وباندهاش، عن سر بقاء البعض في مكاتبهم لسنوات طويلة دون إتاحة الفرصة للعديد من العناصر الشابة والمؤهلة تربويا وتعليميا من شغل أماكنهم، فلولا سوء الإدارة العامة لما قبعوا كل هذه المدة في كراسيهم، بالرغم من أننا نرى انعكاسهم وتأثيرهم السلبي على العملية التعليمية وعلى الميدان التربوي ومن ثم المجتمع ككل، لأنه -وكما قيل في إحدى الحكم الشهيرة- “إذا صلح الرأس صلح الجسد”.
أما الآن، فسأرسلك مباشرة إلى أمريكا في العام 1983م، حيث أدهشت العالم كله حينما أصدرت تقريرها التحذيري الشهير “أمة في خطر” بعد تدني المخرجات لديهم، حيث اعتبروا انفسهم في حالة حرب، وهذه الحرب هم من سببوها لأنفسهم، إلا أنهم اعترفوا بها ووجهوا كل شيء للخروج منها منتصرين، وهذا يحسب لهم، فقد شحذوا الهمم ووضعوا الخطط وغربلوا كل من يحاول أو يفكر أن يسبب الهزيمة لهم، فلم يكن هنالك وقت للمزاح والفساد. ومنه أريدك أن تستفيدي أميرتي، فالهروب من الواقع والشعارات والجمل الإنشائية والإصلاح الذي يغرق في التفاصيل الجزئية الشكلية ويتجنب التطرق للنقاط الأساسية لن يودينا إلا لما آلت له مصر الآن من تدهور في المستوى التعليمي ومن ثم الاقتصادي والاجتماعي. وهذا بدوره أدى إلى تغير وتشوه واضح في الشخصية المصرية الحالية كما أن أزمة التعليم لا تعالج بمعزل عن بقية القطاعات فهي أزمة شاملة، والجميع ينبغي عليه أن يشارك ويفعل صوته في حلها، إلا أن اختيار سماع صوت ما مقرون بثقافته وتجاربه وجديته، فما فائدة أن تجلبوا ثلة من المعلمين أو الإداريين كي يصنعوا القرار معكم -إن كنتم تفعلون ذلك- وأنتم تعلمون جيدا أن وجودهم من عدمه، فقد حرصتم ألا يتطوروا أو يتأهلوا بل قطعتم عنهم كل السبل فأصبحوا على ما أصبحوا عليه الآن، دورهم إما المدح والثناء وإما تغليف المشاكل بأوهام إنشائية، أو استيراد نظريات من ما وراء البحار وبأموال طائلة لتطبيقها كي يقال إننا نطور التعليم فكأنما نهتم بالبردعة قبل الحمار كما يقول المثل، وبالتالي فهم يشكلون مصدر راحة بالنسبة لكم، ووجودهم شكلي ورمزي وجزء من فلسفة التضليل، حتى هم لا يفهمون أنهم كذلك إلا بعد أن يخرجوا من السجن الذي فرض عليهم، إلا أن الأمر سيتطلب جرأة وتحديا وسياسة، وإلى ذلك الوقت فهيصة وكلو هايص وزيطة وكلو زايط وعملين نفتي ونفتي ونرسم خرايط .
فكل إصلاح قمتم به حتى اليوم لمعالجة أزمة التعليم، أميرتي الفاضلة، ينتهي بفشل ذريع ويأزم الوضع بشكل أكبر، وعليكم الاعتراف بذلك ومكاشفة المجتمع مثلما كاشفت الولايات المتحدة الأمريكية شعبها ومسؤوليها، فالتعليم، أميرتي الفاضلة، هو رافعة التنمية وهو الذي بمقدوره نقلنا من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم، وكي يحدث ذلك ينبغي أن نجيب عن سؤال “ماذا نريد؟”؛ هل نريد مواطنا تابعا للتوازنات الاقتصادية العالمية؟ أو مواطنا متشبثا بهويته وثقافته؟ الإجابة عن سؤال “ماذا نريد؟” بشكل دقيق تُعدُّ مدخلا للحل؛ لأنها تضعنا في خارطة الطريق بشكل واضح، فنحن الآن نمشي بخطى ثابته نحو الحضيض كما مشت قبلنا دول كثيرة مثل مصر والمغرب، ولهذا لا نريد أن نطبق مقولة هيجل “بأننا تعلمنا من التاريخ ألا نتعلم منه”.