إن الحديث عن الحرية والوعي الاجتماعي وجهان لعملة واحدة؛ وهي الوصول بالمجتمع إلى مرحلة من الرقي الفكري والنضج المعرفي والسمو الأخلاقي، فالحرية في ظل مستويات واسعة وعميقة من الوعي المجتمعي سوف تعمل في إطار متوازن قادر على تشخيص الحالة المجتمعية والانطلاق بها لمرحلة التأثير وتقديم الحلول للمشكلات والتحديات التي تواجهها المجتمعات سواء الأخلاقية منها والاجتماعية والثقافية والفكرية والتعليمية والاقتصادية وغيرها. وتستطيع الحرية في ظل الوعي تحويل الواقع السلبي إلى موجهات إيجابية من خلال ما تحمله من أطر وأدوات وآليات وما تؤمن به من منطلقات قائمة على النقد البناء والاعتراف بالرأي والرأي الآخر وحرية التعبير في ظل القانون، فالوعي يمنح الحرية مساحة أكبر للبروز والظهور والتأثير والاستدامة واقتناص الفرص وتوظيف البدائل وخلق مرحلة متفاعلة منسجمة في فهمها للحريات؛ إذ هي بالأساس حريات مسؤولة يكفلها القانون وتحميها الأنظمة والتشريعات وفق ممارسات معتدلة وأنماط فكرية متزنة واعية بقيمة حس الكلمة ونمط التعبير وآلية الوصول للحقوق وطريقة الحصول عليها وفق موجهات وأطر وطنية وتشريعية وفكرية قادرة على نقلها من سلطة الأنا إلى المجتمع ومن سلبية النظرة والتفسيرإلى مساحات أوسع من التأمل والتحليل والإيجابية قائمة على الدراسات والبحوث والاستراتيجيات التنموية والإحصاءات؛ فالحرية في ظل الوعي هي حرية مسؤولة تستهدف بناء الإنسان وتعزيز العيش الكريم له ومنحه فرصًا أكبر للإنتاجية وابتكار الأدوات المناسبة لطبيعة التحدي. هذا التنوع في البدائل واستخدام أدوات أخرى في التعبير عن الحقوق والمطالبة بها سوف يضمن الاستفادة من الاختلاف وتوجيهه لصالح العمل النوعي وهي بالتالي فرصة للتصالح الذاتي والترابط المجتمعي.
إن ما يحصل من واقع بعض المجتمعات اليوم في فهمها للحرية وسعيها لتحقيقها ومناداتها بالحريات وما نتج باسم الحرية من تأجيج ثقافة الكراهية بين الشعوب وسياسة الكيل بمكيالين والعداء للحكومات وما ولّده ذلك من شيوع حالات الظلم والتشريد والفتن والحروب ودخول الجماعات التكفيرية والإرهابية على الخط واختلاط الحابل بالنابل إنما جاء نتاج الحرية المبتورة المفتقدة لجانب الوعي الذي يعزز فيها منحى الإنسانية ويظلها بثوب الأخلاق والقيم، فابتعد مسار الحرية الناتج في ظل هذا التنازع إذ الكل يقرأ الحرية وفق هواه وبما يسيّر به أهدافه ويحقق غاياته، فابتعدت الحرية عن مقصد العمل ومساره الصحيح حتى انقلبت إلى حالة من الفوضى اللامسؤولة فكانت بيئة خصبة للجرائم والتنازع والاقتتال وظهرت الممارسات التي تلوح فيها رائحة المذهبية النتنة والعصبية العرقية البغيضة، لهذا يمكننا القول بأن السبب المباشر وراء هذا التراجع في مفهوم المناداة بالحريات فيما يسمى بمصطلح الربيع العربي هو أنها حريات مسيّسة غير مضبوطة ولا تقوم على ميزان العدالة والاعتدال؛ فهي إما شرقية وإما غربية -إما أن تكون من شيعتي وإما من عدوي، – حتى ركنت في تقديرنا الشخصي إلى مستوى البهيمية وترويج الغرائز وتزيين صورة القتل والثأر على أنها جزء من النخوة المنشودة، فلا مجال فيها للشراكة أو التصالح والمصالحة والاعتراف بحق الآخر في العيش والحياة والوجود والتعليم والصحة وبالتالي انحرف مفهوم الحرية وأجهضت حلم تصحيح الواقع وتغيير المسار وسعت لوأد المصالحة والتنمية وعززت من قتل الأبرياء وزيادة الفجوة بين الأمة الواحدة. هذا الواقع في حقيقة الأمر كان سببه أنه يفتقد في المقابل إلى أقل مستويات الوعي الذي يترسخ في ظل حكمة عقل ورقابة ضمير وشعور بالإنسانية فيأخذ بمنظور الحرية ليعلي شأن سقف المطالب المشروعة، لتصبح قائمة على حق التعايش والتمكين والحوار وحسن توزيع الثروة والعدالة الإنسانية والمساواة أمام القانون وحق الفئات الأخرى في المجتمع، لذلك لم تجد من يحميها أو يحفظ توازنها أو يوجه مسارها أو يضبط آليات عملها أو يؤصل في المجتمع ثقافتها الصحيحة التي تستهدف التنمية والاستقرار والرقي بالانسان والتحول به إلى كائن منتج يملأ الأرض أمنا وسلاما.
إن الوعي هو الطريق المؤصل للتنمية والبناء الإنساني وتعزيز الفكر الايجابي في حياة الشعوب وتصحيح الفكر السلبي الذي باتت تعاني خطره شعوب الأرض ويعمل اللاإنسانيون على ترويجه وتسويق آلياته بين الشباب باسم الدين، فالمشكلة إذاً تكمن في مستويات الوعي بالذات وفهمها والتصالح معها والوعي بالآخر (الإنسان والأرض والدولة والحكومات) ومستوى ما يحمله الفرد من قناعات نحو ما يقدم له من جهود وما يتم في سبيله من تضحيات، فوجود الوعي دليل على وضوح الأهداف ورقي الأدوات ودقة تحقيقها ووجود شراكة مجتمعية من كل الطوائف نحو بلوغ مستويات أعلى من الرقي البشري، فيصبح التوجه إنما هو لصالح التنمية المستدامة وتأصيل منظومة قيمية أخلاقية، والمحافظة على سيادة الدولة ووحدة الوطن وكرامة الإنسان ووضع الحكومات أمام مسار مراعاة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وتوجيه الممارسات نحو انتقاء أفضلها بما يحفظ لحمة المجتمع وتكاتف أبنائه، وبالتالي يعمل الوعي على تكوين حالة من التريث والتأني في التعاطي مع الأمور وتجنيب الاندفاع والحكم المسبق على ممارسات الطرف الآخر وكف اليد واللسان من التطاول على المصالح الوطنية العليا والعبث بمقدرات المجتمع أو التأثير على الناس بأفكار أحادية وإبراز التوجهات المذهبية، إن هذا التفاعل الإيجابي الحاصل بين الحرية والوعي الاجتماعي هو ما ينقل المجتمعات للاهتمام بالأولويات والتركيز على إيجاد فرص أكبر لنمو برامج التنمية واستدامتها والتعامل مع التحديات بكل ثقة والتخلص من النظرة الأحادية في التعاطي مع قضايا الوطن والمواطن؛ إذ ينظر للوطن في زاوية مكبرة ويتعاطى مع الممارسات بكل حكمة وثقة بقيمة الحوار والتصالح والتفاهم، فيصبح المقصد ترجمة حقيقية لمجتمع يسوده الأمان والاستقرار ويحتكم أبناؤه ضمن معايير وقيم يتقاسمون المشترك بينهم ليبنوا في ظله منظومة الثوابت التي بها يتقدم المجتمع ويتطور، والمتمثلة في أن أمن الوطن ووحدة أرضه وترابه خط أحمر لا يصح تجاوزه بأي نمط من أنماط الفكر أو أي أسلوب من أساليب الترويج، لهذا فإن أي ممارسة باسم الحرية لا ينبغي أن تتجاوز إطار المقبول مجتمعيا.
إن هذا التكامل بين الحريات والوعي يضع مجتمعات اليوم وحكومات العالم ومؤسساته التعليمية والتشريعية والقضائية والأمنية والاجتماعية والإعلامية وغيرها أمام مرحلة صياغة جديدة لخطاب المرحلة ووضع الحريات في مسار مواز للتنمية مرتبط بكل تجلياتها فتصبح الحريات بشتى أنواعها وطبيعتها إنما تستهدف إبراز قوة الهوية الوطنية في التعامل مع كل المعطيات التي تظهر في مجتمعنا المعاصر، وبشكل يعزز في الشعوب قيمة الحرية في ظل مسؤولية والتزام وقدرتها على تعميق الحالة الإنسانية القائمة على تأكيد قيمة التعايش والعدالة وتبني استراتيجات وطنية في التثقيف والتوعية وترسيخ القدوات وثقافة العمل الحر وأن تعكس الممارسات المجتمعية روح الأخوة والوحدة الوطنية وهو أمر لا يتأتي إلا في ظل التزام بمعايير المجتمع والانضواء تحتها بعيدا عن أي تحزبات أو توجهات شخصية.
إن الحرية المسؤولة التي تحتاجها مجتمعات اليوم هي صناعة تلازمية مع الوعي والثقافة الراقية، وهي مشروع حضاري وطني عالمي طموح يرسم خريطة طريق سليمة لمسار معالجة إشكالات قضايا الحريات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسلوكية والتفسيرات والتأويلات ووجهات النظر حولها وفق موازين الحق والعدل والمسؤولية، لذلك ينبغي أن يتعامل معها العالم بكل حيادية ويعمل على تعزيز منابرها في التشريعات والضوابط والقوانين الموجهة نحو قضايا الحريات.