ليست رسالة رسمية بقدر ما هو تأوه وتوجع؛ فالرسائل الرسمية أصبحت لغة جافة وأسطوانة مشروخة، وقوالب جامدة خالية من الموضوعية والمصداقية، لوثتها أقلام وألسنة المطبلين طوال العقود الماضية، وهم يسبحون بحمد وجلال الحكومة ليل نهار؛ وكأن الحكومة هي كتاب منزل، أو سفر سماوي لا يمكن نقده أو تصحيح مساره. إن ثقافة الشعور بالامتنان ليست سيئة؛ فهي باب من أبواب الوفاء، ولكن أن يكون الشعور بالامتنان عقدة خوف أمام المطالبة بالحقوق والواجبات؛ فهذا أمر غير مقبول وغير وارد بتاتا.
إنني مواطن ومن حقي أن أطالب بحقوقي، والتي هي من واجبات الدولة تجاهي، وفق القنوات المشروعة وعبر المجالس المنتخبة وغير هذا من الوسائل الدستورية، والتي تكفل حقي وتلزم المؤسسات القائمة على خدمة احتياجاتي القانونية. ولكن إذا كانت تلك الوسائل المشروعة لم تستطع، أو ربما لم تحاول، تحقيق المطالب من مجلس الشورى والمجلس البلدي والمؤسسات المعنية بهذا الطلب -وعلى رأسها الوزراء والوكلاء- فماذا عسى المواطن أن يقول.
منذ أكثر من عشرين عاما ومطالبنا في أرشيف الوزارات، أو في مكاتب أعضاء مجلس الشورى المتعاقبين على الولاية من غير بصيص أمل. وفي غير هذا، هناك من القرى والولايات في مختلف ربوع عمان، من قد تشبعت بالمشاريع إلى حد التخمة، ما تفتقره قريتنا من أبسط السبل الحيوية الضرورية التي هي حق من حقوق كل قرية في هذه البلاد الطيبة. إنني –المواطن المحترم- أقطن في قرية من قرى السلطنة، توارث على العيش فيها الأجداد والآباء جيلا بعد جيل، ومع تجدد الحياة وتطورات الوسائل، ظل وفائنا للقرية، ولمن يعيش فيها، ولم نشأ الهجرة إلى المدينة بسبب تمسك الأهالي بالعيش في القرية، وضعف الإمكانات وصعوبة الانتقال.
الطرق غير المرصوفة تشكل المنغص الوحيد للعيش في قرية بسيطة، ولقد توارث أبعاد هذه المشكلة الأباء والأبناء والآن الأحفاد دون أمل يجدد لنا الرغبة في البقاء. ذاق آباؤنا، ونحن من بعدهم، وبال الشتاء والصيف والغبار والأمطار ووعورة الطريق طوال أيام حياتنا. منذ صغرنا وفي الصف الاول الابتدائي وحتى ما بعد الثانوية، ونحن ننتقل في سيارة مكشوفة لمدة تسع أشهر بتمامها، بينما كانت المدرسة تطالبنا بالمحافظة على النظافة والبيئة المدرسية، وأورثنا إلى أبنائنا هذا المأزق. لكن تحدي اليومأكبر؛ فنحن لم نلتحق بالمدارس التمهيدية لقلة وسائل النقل وصعوبة جدولة سيارات المدارس لنقلنا. أما الآن، فنحن واجهنا التحدي عندما قررنا تعليم أبنائنا في مدارس تمهيدية، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ طفلا في سن الخامسة والسادسة، وهو يخرج من المنزل الساعة السادسة ويعود إليه في الساعة الثانية بعد الظهر، وهكذا هو الحال طوال العام.
لا أتخيل ونحن في هذا البلد المعطاء، أن يعجز المسؤولون عن تلبية هذا المطلب الحيوي، كما لا أتخيل ونحن على مشارف اليوبيل الذهبي -نصف قرن- وثروة البلد من أقصاه إلى أقصاه عاجزة عن تحقيق هذه الضرورات المفصلية في حياتنا. الاهتمام بالبنى التحتية وأقلها رصف الطرق هو من الضرورات الملحة، والتي بها تنساب الحركة وتسهل عملية الانتقال من المدن وإليها.
إن مستخدمي الطرق الحديثة في دول أخرى باتوا يطالبون بشبكة طرق ذكية محققة أعلى أنواع السلامة المرورية، وغيرها من المميزات العصرية، ونحن لا زلنا نطالب بأضعف الإيمان وهو رصف الطرق الترابية بالأسفلت. إن عامل شق الطرق الحديثة، له آثار ثقافية فكرية قبل أن تكون اقتصادية؛ فإذا كان الطالب يذهب إلى أي مدينة قريبة من قريته، ويرى البون الشاسع في التطور والعمران، فإن ذلك بلا شك سوف يترك بداخله انطباعا سيئا عن قريته أو عن المؤسسات القائمة على هذه المسؤولية. والطريق الترابي ليس سوى شكل من أشكال الفقر والعوز والطبقية في المجتمعات الإنسانية، وتخيل هذه العوامل التي تتسلل إلى الطالب أو إلى الأجيال، والتي تشعرهم حينها أنهم من سكان الشتات أو من المجتمعات الفقيرة، بينما نعلم واقعا أننا نعيش في دولة غنية، فإلى أي مدى يمكن أن نتحمل هذا الجفاء والتجاهل في تلبية حق من حقوقنا الأساسية؟
أيها المسؤول: إذا كان الاهتمام بقدر قوة الصوت أو قوة الجغرافيا أو قوة القيمة المضافة؛ فأنا صوتي أقوى؛ لأني عماني وجغرافية تلك القرى التي تمثلني أقوى بكثير. تلك أرض عمانية، خلفت جيلا مخلصا لوطنه وترابه وسمائه.