يشكل الحوار على الشبكات الاجتماعية إحدى القضايا الجدلية الهامة التي تثير اهتمام عدد من الباحثين والمتابعين في العالم. لقد فرضت هذه الشبكات نفسها كشكل أساسي من أشكال التعبير في العالم، وبين الفضول والرغبة في مد جسور الاتصال، تظهر الممارسات والقضايا الهامة التي ترتبط بسيكولوجية المحاور. يقدم هذا الحوار مع الباحث محمد العجمي والمتخصص في قضايا الفكر والفلسفة بعض الجوانب المهمة حول أساليب الحوار على الشبكات الاجتماعية وأهم العوامل المؤثرة به.
- الحوار الجاد يتطلب اعترافًا بالآخر وتعاملًا مختلف مع الحقيقة
- العماني يمتلك وعيا متراكما ومتسارعا بخلاف البطء الذي تعاني منه الحكومة
- ينبغي تجاوز التعبير عن التسامح العماني فذلك يعبر عن فكرة على السطح وليس على العمق
- إرادات سياسية الطابع ولكن بلباس ديني أو ثقافي داخل المجتمع تنزع لتزييف الوعي عبر برامج التجهيل وترويج المعرفة عديمة الجدوى وصرف وعي الناس عن ملاحقة مشاكلهم الحقيقية
1- ما أهم الأنماط والممارسات التي يمكن ملاحظتها لدى متابعة الحوارات العمانية على الشبكات الاجتماعية؟
يصعب استخراج أنماط عامة لوصف الحوار بالشبكات الاجتماعية وذلك لأسباب كثيرة أهمها العشوائية والارتجالية والفراغ الشديد الذي يملأ أغلب مرتادي هذه الشبكات، ولكون هذه الشبكات أكثر مناسبة لزمن السرعة والمختصرات والجمل المركزة والتعبيرات المكثفة. عدم وجود جهة مركزية تدير عملية استخدام الشبكات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحرية النسبية للتعبير والتي غالبا ما تكون فوق توقعات المرتاد الجديد لهذه الشبكات، أضف إلى كل ذلك الفضول والرغبة في تجربة الجديد والتعارف مع ذوي الاهتمامات المشتركة، كل ذلك جعل من الشبكات الاجتماعية بيئة شديدة التباين والفوضى، فهي تُجلّي تعقيد الوجود الإنساني بكل دقة. إن مراقبة نشاط بشري معين من البعيد ومحاولة رصده بعبارات موجزة يتطلب قدرة على طرد التفاصيل الصغيرة التي تشوش الحدث الكلي، وفي حالة الشبكات الاجتماعية فهذا لا يتأتى بسهولة إذ يتطلب تضييقًا لنطاق الملاحظة إلى حد الحكم على الحوار في مجموعة حوارية معينة أو صفحة محددة بالدقة.
2- إذا ما الأسباب الحقيقية لعدم اتجاه المحاور العربي للجدية والاتزان في كثير من الأحيان؟
الحوار الجاد يتطلب اعتراف كل طرف بالآخر، اعترافًا بوجوده وبحقه في أن يكون له رأي مستقل ومختلف. وهناك مجموعة عوامل تحول دون ذلك لدى الكثير من مرتادي الشبكات الاجتماعية، أهمها التعامل مع الحقيقة كقدر يُعطى دفعة واحدة عند ولادة الإنسان، ولا يمكن تغييرها أو مراكمتها مطلقا. الحقيقة واحدة فعلا ولا يمكن أن تتجزأ؛ ولكن هذه الفكرة هي مثالية أكثر منها واقعية، ففي الواقع نحن نكتشف منها وفقا لإمكاناتنا والجهد الذي نبذله والظروف المحيطة بل وأحيانا الحظ والصدفة (التوفيق باصطلاح آخر) يلعب دورا فيما نكتشفه من الحقيقة. في اللحظة الذي نؤمن بذلك سنكون أكثر تقبلا للطرف الذي نحاوره وما يطرحه من مشاهدات ورؤى وأفكار وتصورات.
3- ما أهم العوامل الإيجابية التي تساعد في خلق شخصية محاورة؟
هذا يتطلب منا معرفة ماذا يعني الحوار الجيد والفعّال. معرفة ذلك سيتبعه بالضرورة أي صفات إيجابية تتوافر في المتحاورين لصناعة حوار جيد. بطبيعة الحال هنا ستتفاوت الأذواق والتجارب، وسيكون الحديث عن خبرة شخصية. ومن وجهة نظري الحوار الجيد هو الذي:
– ينطلق من اتفاقات واضحة بين المتحاورين؛ اتفاقات على المصطلحات والمفاهيم والمطالب التي يتناولونها.
– يجيد كل طرف فيه الاستماع أكثر من الحديث. حسن الاستماع والاستيضاح فيما إذا كان فهم كل طرف صحيح لأطروحات الطرف الآخر. هذا يجعل الحوار نابعًا من رغبة حقيقة في اكتشاف الآخر وليس هزيمته.
– يكون التركيز فيه على الفكرة والطرح وليس على الشخص الذي يطرح. هنا كل طرف يحتاج أن يبذل جهدا في الانتباه إلى التفاصيل التي تغير مسار الحوار وتشتته بحيث يتجاوزها ويركز على المطالب التي تحددت في بداية الحوار.
– لا يحمل أطرافه معهم أكثر من آرائهم وأفكارهم الخاصة بهم، بمعنى أنهم لا يرون في أنفسهم أنهم نواب أو ممثلون لجماعة من الناس حتى لو كانوا كذلك، فهم يعبرون عن إرادتهم وقناعاتهم الشخصية ولا يحاول أي طرف الاستقواء بجماعته أو يتصور أنه مندوب للدفاع عنها.
4- هناك ميل لاعتبار العماني صامتا أمام القضايا الكبيرة عربيا ودوليا وهي مرحلة هدوء كبير أمام المشاركة في التعبير عن الرأي السياسي، هل تتفق مع هذه الآراء؟
هناك مبالغة، فالعماني ليس صامت، والتاريخ لا يسعف هذا التصور. ربما يكون العماني في هذه المرحلة التاريخية تحديدا محاورا هادئا لا يميل لافتتاح المحاورات ولكن إذا ما دعي إليها فهو لا يتردد، بل ويكون محاورا شرسا أحيانا. العاطفة عموما صفة بارزة عند العرب، والعمانيون ليسوا استثناء في ذلك. نحن لا نمتلك بيانات إحصائية دقيقة عن حجم المشاركة والحضور العماني في الشبكات الاجتماعية، فما عدا بعض الهاشتاجات التي تنشط بين فترة وأخرى فلا تجد بين يديك مؤشرات معينة ذات دلالة. لذلك لا أستطيع أن أعوّل كثيرا على هذا القول والاهتمام به بشكل جدي، وأرى أن نتجاوزه.
5- – هل عكست السياسية الحكومية المحايدة والهادئة في كثير من المواقف السياسية التي اتسمت بالفوضى والجدل أثرها على شخصية العماني المحاور على الشبكات الاجتماعية؟
لا أظن ذلك. السياسة الخارجية لأي بلد ليست ثابتة، وهي تبعا للمصالح. في مراحل تاريخية معينة كانت عمان ترسل جيوشًا وقوات عمانية إلى مناطق أخرى مطلة على المحيط الهندي. هناك ظروف معينة جعلت العماني أكثر هدوءا في هذه المرحلة التاريخية. عمان مع بداية السبعينات دخلت مرحلة انتقالية مهمة تجاوزت فيه حوالي أكثر من قرن من التشرذم والضعف. كانت الطموحات كبيرة لدى جيل كامل من الآباء وهم يشهدون هذه النقلة وكثير منهم كانوا عائدين من المهجر أو خارجين من ظروف حرب وأحوال قاسية. هكذا جيل سيكون أكثر اهتماما بشؤونه الخاصة لأنه يحاول أن يبني ويشيد ويصنع ظروفا أفضل لأبنائه. جيل الأبناء وأبناء الأبناء سيكون مختلفا بلا شك. هنا يمكن أن نقول إن السياسة الخارجية للبلد جاءت منسجمة مع المزاج العام للشعب، فهناك تأثير متبادل بين الشعب والحكومة، وخصوصا في بدايات النهضة العمانية التي جاءت مع تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم في البلد. وما يزال هذا التوافق؛ وإن كان قد بدأ يخفت في الفترة الأخيرة؛ قائما في بعض وجوهه، وخصوصا في العلاقات الخارجية، وهذا يؤثر بشكل من الأشكال على النمط الذي ينتهجه العماني في حواراته مع أشقائه في الخليج وباقي الدول العربية، ولكن كما قلت تأثير متبادل. فهو نابع من الظرف العماني الخاص في نصف القرن الأخير، وليس فقط بتأثير السياسة الخارجية العمانية، ومن المفيد هنا أن أقول بأن هذا الوضع لا يوجد ما يؤكد أنه سيستمر طويلا، فعمان تشهد تغييرا داخليا شعبيا نتيجة اختلاف الظروف وتبدل الأحوال بين فترة السبعينات والفترة الحالية.
6- ما تأثير الوعي والمرجعيات الثقافية نحو بناء حوار عماني متزن على الشبكات الاجتماعية؟
عمان كشعب تشهد وعيا متراكما وتسارعا في التغيير تحت تأثير التعليم وحقول التخصص المتنامية وتحسن وسائل الوصول للمعرفة وثورة الاتصالات الحالية، وهذا الوعي في الغالب لا يتناسب مع الثقل وبطء الحركة الذي تعاني منه الحكومة. ومن واقع استقراء لتجارب مشابهة أجد أن هذا التغيير يفرز تأثيرين متنافرين يزداد تمددهما في الواقع العماني: التأثير الذي يعمل على الإيقاظ والتنبيه والحركة والنقد تحت ضغط الحاجات الأساسية والوعي المتسع، والتأثير الذي يدفع إلى التأكيد على المنجزات والتذكير بالمسار الطويل للرحلة والمعاناة السابقة والمحافظة على الروح العامة للمجتمع والتي يصنعها التاريخ. هنا الحوار يفقد تلك الأرضية المشتركة بسبب التباين الشديد في المشاعر المحركة للفعل الاجتماعي. لهذا، الحوارات في القضايا العامة تتجه للعنف وبالتالي الفشل. المشكلة هنا ليست فقط نقصًا في المعلومات؛ فهي في أسوأ الأحوال لن تنتج أكثر من مجاذابات وتشكيكات في قوة وأهمية الطرح، أما الحوارات التي تنتهي بالعنف اللفظي والتشكيك في النيات وربما العنف الجسدي؛ فهي تنبئ عن أن الخلاف أعمق من مجرد معلومة ضعيفة.
7- ماذا عن التسامح المذهبي، هل تعكس الحوارات الإيجابية التي تشيد بهذا التسامح، جانبا واقعيا وحقيقيا يعيشه المجتمع؟
لا شك أنه يوجد لدينا قدر جميل من التسامح بين المذاهب والأديان وهذا برأيي يوفر أرضية مناسبة للبناء والتنمية، ويجب تجاوز ذلك إلى ما هو أهم. كثرة الإلحاح عليه يعني أن التسامح موجود على السطح فقط وليس في العمق. المشكلة هنا أننا دائما نقارن حالنا بدول الجوار، ولا نلتفت إلى أن هناك أمما وشعوبا تجاوزتنا بكثير في موضوع التسامح. من يلاحظ قضايا الزواج وانتخابات مجلس الشورى وطريقة التوزيع القبلي وبعض نماذج الحوارات والتجاذبات داخل الشبكات الاجتماعية والفعاليات اليومية؛ يجد صورة مخالفة إلى حد كبير لما هو شائع عن التسامح في المجتمع وأن هناك في العمق أشياء أخرى يجب الالتفات إليها حتى لا يخدرنا الوهم. التسامح ليس هو أن يلتقي بالمحبة اثنان مختلفان في مكونات لا دخل لهما فيها كالدين واللغة والعرق والقبيلة؛ بل عندما يلتقيان بالمحبة وهما مختلفان في مكونات فيها قدر كبير من الحرية وحضور الإرادة كالخيارات السياسية والفكرية والممارسات الثقافية. هذا هو ما أعنيه عندما أقول يجب تجاوز التسامح في السلطنة إلى ما هو أهم.
8- هل تعتقد أن الحكومة يمكن أن يكون لها دور في خلق أجيال لديها وعي بمعايير الحوار وأهميته ليساهم في ترسيخ فكرة التسامح المذهبي في عقلية العماني وتأصيل بدلها نزعة المواطنة بمقتضياتها، وما هي الآليات؟
ربما هنا ندخل في جدلية عقيمة حول ما يجب أن تقوم به الحكومة وما لا يجب؛ وخصوصا في موضوع مجرد كالوعي؛ يفترض به أن يكون همّا وجوديا لدى كل الناس بالوطن. أيضا موضوع الحوار كممارسة عملية هي قضية سابقة لأي دور يمكن أن تقوم به الحكومة للارتقاء بالحوار في الوطن. الحوار هو أساس في تشكيل الحكومة نفسها، لهذا لا يفترض أن نعوّل كثيرا على دور إيجابي تقوم به الحكومة للنهوض بالحوار؛ فهذه وظيفة الشعب بأكمله؛ قانونيين وتربويين وإعلاميين وأكاديميين ونقابيين ومهتمين بالشأن العام كل حسب حقله واختصاصه. بطبيعة الحال يجب أن لا نتوقع كثيرا لئلا ندخل في المثالية التي تعزل الهم وتفصله عن الواقع بسبب الإحباطات الكثيرة المتوقعة، وعوضا عن ذلك؛ نحتاج إلى تلك المبادرات الجادة وغير الرسمية التي تنشط ونلاحظها في ميادين معينة. مثل هذه المبادرات والمشاريع توفر بيئات حوارية جميلة لأعضائها ومرتاديها، بما يمثل تشكيلا لجماعات عمل منظمة مؤسسية ترفد الحكومة بالأفكار والكوادر وتقلل في نفس الوقت الهوة التي تفصلها عن الشعب والناتجة من تواضع وضعف الممارسة السياسية. هنا يجب أن نعترف بأن الحوار هو سلوك سياسي بالدرجة الأولى، وما لم يتحقق هذا الاعتراف فلا ينبغي أن نحلم كثيرا ونتغنى بقضايا كثيرة ومنها التسامح المذهبي.
9- هل الاختلاف في الحوار العربي والغربي ناتج عن طبيعة الوعي المعرفي والثقافي وكيف يمكن الاستفادة من التجربة الغربية في ذلك؟
يمكن استكشاف مدى حضور ودور الحوار في أمة معينة عبر ملاحظة كيف تنتهي معالجتها لمشكلاتها. هل يتم احتوائها أم تتفاقم أكثر لتصبح مشكلات مزمنة؟ الحوار هنا يكون نتاجا للوعي الثقافي والمعرفي، فالمعرفة والثقافة تخلق بدائل أكثر وتساعد على النظر لمسافات أطول. هنا يجب أن نلتفت إلى ضرورة أن لا نقارن أنفسنا بغيرنا إلا بمقدار ما نستفيد من تجارب الآخرين في حل المشكلات لدينا؛ وخصوصا المزمنة منها. هناك إرادات داخل المجتمع تنزع لتزييف الوعي عبر برامج وفعاليات التجهيل وبث وترويج المعرفة عديمة الجدوى وصرف وعي الناس عن ملاحقة ومتابعة مشاكلهم الحقيقية، وهذه الإرادات التي تكون غالبا سياسية الطابع ولكن بلباس ديني أو ثقافي؛ تكون عينها على القوة وليس على المستقبل. هي لا تريد أن تخسر القوة، فتضحي بالمستقبل الذي يتطلب المعرفة الجادة والبحث ونشر العلم والكتاب وتحفيز المبادرات القرائية والصالونات الثقافية والفكرية. أفق الحوار يتضائل مع تزييف الوعي، حيث تصبح اهتمامات الناس بقضايا جد هامشية وما أن يلتفتوا إلى القضايا الحية والمشكلات القائمة حتى يغلب ضعف الممارسة السياسية وقلة التجربة والخبرة لينحو بالحوار إلى خلق مشكلة أخرى أسوأ من المشكلة التي كانت تدفع إليه.
حاوره: محمد الفزاري