لم يكن اختفاء “متعب الهذال” منذ الجزء الأول في ملحمة الروائي العربي الكبير عبدالرحمن منيف “مدن الملح” محض صدفة. لقد كان هذا الاختفاء نبوءة غياب الإنسان أو تغييبه قسراً بفعل مربع القهر المشؤوم: قهر العصبيات (القبلية، العشائرية، الأسرية، الطائفية، الجهوية) وقهر الأصوليات (الدينية، الأيدلوجية) والقهر السياسي ( أنظمة شمولية، حكم المخابرات والبوليس السياسي )، وقهر الذهب الأسود (النفط وكل ما يتعلق به من دورة اقتصادية مفرغة من الأمل). ولأن الواقع تشرّب بما يكفي من كل ذلك وأكثر؛ فإن أضلاع هذا المربع لم تَعُد تتناسل في عالم الواقع المحكوم بالسيطرة فحسب بل تعدته إلى العالم الافتراضي المفتوح .
###
لا شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي غدت عاملاً لا يمكن تجاوز أثره عند الحديث عن أي تحول اجتماعي أو ثقافي أو سياسي في عالم اليوم. خاصة في منطقة، كمنطقة الخليج، تتنافس في شراء آخر ما توصل إليه إنتاج العقل البشري في مجالات الصناعة والاتصال وتستهلكهما بِشَرَهٍ متزايد. لكن السؤال الأهم؛ هل يقف الأمر عند عملية شراء الجهاز واستخدام تطبيقاته فقط؟ أم المسألة تتجاوزه إلى الأثر الذي يتركه هذا الاستخدام في الوعي الفردي أو الجماعي من جهة، وأثر ذلك على خلق إرادة عامة بإمكانها التحرك ميدانياً، واجتراح مبادرات ومشاريع حقيقية على الأرض تُحدث تحولات باتجاه التغيير والإصلاح؟
من الصعوبة قياس ذلك بدقة. بيد أن المساحات الواسعة التي أحدثها استهلاك هذه الوسائل: كالاستقلالية، والفردانية، والحث على طرح الرأي ومشاركته لجمهور مفتوح، وتوقعات مفتوحة لردود أفعال على هذه الآراء، وعلنية الأفكار والتعبير عن الذوات والضمائر والمواقف، والتشجيع على النقد العام والعلني، وتجاوز الأطر التقليدية والموانع القانونية التي تضعها الدول، وسرعة انتشار المعلومة أو الرأي أو الموقف، وتوفير منصات مجانية ومفتوحة وسهلة لعرض أوجه القصور ومكامن الخلل التي لم تكن تظهرها وسائل الإعلام التقليدية المتحكم بها من قبل الأنظمة الحاكمة أو رؤوس الأموال الموالية لها- كل ذلك أسهم في إحداث تغيير ما. ربما على مستوى الكيف والعمق لم يظهر أثره بعد، لكن أثره على مستوى الكم والتوسع الأفقي لا يمكن أن تخطئة عين الراصد.
في المقابل، أسهمت كل هذه الوسائل في إخراج الكثير من العُقد الاجتماعية كالطائفية والقبلية والمذهبية للعلن. بل واستخدمتها أنظمة الحكم ذاتها، من خلال أجهزتها المتخصصة في إثارة الجماهير وإشغالها بقضايا هامشية، يومية، وفي أحيان كثيرة عبثية، للحفاظ على الوضع الراهن، وزعزعة الثقة في الأفكار الجديدة وتخويف الناس منها، بل وسَنّت قوانين تجرم المضي في ممارسة الحريات الفردية خاصة تلك التي تمس “النظام العام” الذي هو، في أبسط تعريفاته – حسب تلك الأنظمة – أمن وسكينة واستقرار النظام الحاكم.
في ظني، أن هذه الوسائل، في حدها الأدنى على الأقل، أصبحت مرآة عاكسة وموثِقّة لواقع حال وعي المجال العام في منطقة الخليج، الأمر الذي يسهل على الباحثين اجراء التحليلات والمراجعات الضرورية لفهم التفاعلات الاجتماعية والسياسية التي تمر بها المنطقة. والأهم من ذلك، يكشف هذا المجال ويعريه أمام ذاته الجمعية من جهة، ويقيس عمق إيمانه بقيم التعدد واحترام حرية الرأي والتعبير والمشاركة في إدارة الحكم من جهة أخرى.
قد يجادل الكثير من أهل منطقة الخليج أو المهتمين بشؤونه بأن ثمة تطوراً في وعي الناس بحقوقهم، خاصة الحقوق المدنية والسياسية بسبب أحداث الربيع العربي وما تلاها من انعكاسات، إلا أن هذا الوعي، عند البعض، لم يبارح الشاشات الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى العمل الميداني على الأرض مما يُهمش تأثيرها، بل يجعلها أداة تضليل أكثر منها أداة تنوير، تقوم بإيهام الأفراد والجماعات بدور لا يستطيعونه على الأرض. فقد تجد أسماء وحسابات شخصية وجماعية في تويتر وفيسبوك وانستجرام لها عشرات الآلاف بل الملايين من المتابعين والأعضاء، الحقيقيين والوهميين منهم، إلا أنه بمجرد ما تقوم السلطات باستدعاء أو اعتقال أو سجن هذا الشخص بسبب رأيه في الشؤون العامة ونقده لأداء إدارتها، تصمت كل تلك الأرقام الكبيرة من المتابعين والمحاورين له في الظروف العادية، وتتحول إلى كتلة جامدة ورقم أصم، لا أثر له إلا من بعض المخلصين لأفكاره، أو الأصدقاء المقربين منه، أو أهله الموجوعين بسجنه، أو رهط الناشطين المداومين على رصد ومتابعة انتهاكات كهذه.
الضعف أعمق مما يبدو في المنطقة. فمجالها العام تم تشكيله وإعادة بنائه من قبل مؤسسات السلطة التنفيذية وتحت عين وبصر الأجهزة الأمنية المُحاصِرة والمُحْصِية لأنفاس البشر وتحركاتهم. ويستطيع الفرد ومعه الجماعة بالسواء أن يُدركا سريعاً وبشكل واضح بأنهما غير مسموح لهما بالتشكل على شكل مؤسسات مستقلة كاملة النمو، راسخة البنيان، متضامنة حول فكرة أو عقيدة أو مصلحة كالأحزاب والنقابات العمالية والجمعيات السياسية والاقتصادية والثقافية، بشكل حر. كما لا يحق لهذه المؤسسات ممارسة وظيفتها المحورية، والتي هي سبب وجودها أصلاً، وهي النقد والكشف والتعرية لممارسات الدولة والمجتمع وفق مسطرة الحقوق ومدونات الحريات الإنسانية، بل في حدود مسطرة الحكومات وأجهزتها النافذة. وإن وجدت هذه المؤسسات فهي شكلية ومقيدة ومنزوعة الأثر، بل ومخترقة من قبل السلطة المركزية والموالين لها. هذه الهشاشة على المستوى الميداني، انعكست وامتدت على المستوى الافتراضي أيضاً؛ فغدا الفرد مكشوف الظهر، وحيداً إلا من فكرته التي صرّح بها، وحُلُمه الذي شاركه الفضاء المفتوح مما يجعله لقمة سائغة لسحق ثلاثي: نظام حاكم يستعديه ويحاصره بسهولة، ومجتمع يلومه ويوبخه ويتخلى عنه بسرعة، وقانون يُدينه ويجرّمه ويُلقي به في غياهب السجن والنسيان.
بيد أن واقع وسائل التواصل الاجتماعي في منطقة الخليج، من وجه آخر، ليس بهذه العطالة في التأثير. فلم يعد مسؤولو السلطة التنفيذية يتجاهلونها، بل يتسابقون لإنشاء حسابات تفاعلية مع الجمهور. ولم يقتصر الأمر عليهم، بل اتسع ليشمل الحكام من الملوك والأمراء، كما الحال في مثال الملك في العربية السعودية والحاكم في إمارة دبي. هل هذه الحسابات والمنصات التفاعلية يديرونها بأنفسهم أم أنهم أوكلوا المهمة لوكالات إعلامية متخصصة؟ ليس هذا هو المهم. الأهم هو الحرص على كسب عقول وقلوب القطاع الواسع من شعوبهم التي تتفاعل مع هذه الوسائل. بل الفكرة الأعمق التي تستحق التأمل هنا، أنهم أي أعضاء السلطة الحاكمة والتنفيذية كأفراد أو مؤسسات، هم الذين ذهبوا للناس هذه المرة، وعبر الوسائل التي يعرض الناس فيها أفكارهم ويتبادلون عن طريقها آراءهم، لا العكس، كما حدث وما زال يحدث عبر الوسائل التقليدية التي تتسابق بدورها لحجز منصات افتراضية لعرض برامجها كالإذاعة والتلفزيون والصحافة الورقية، يفعل الحكام ذلك إما حرصاً على إقناع الجماهير بشرعيتهم، أو تقرّباً من مصالح العامة بتبنيها وتطوير أدائها، أو مراقبة ما يشغل الرأي العام والاستعداد الدائم والناجع لمواجهته ومحاصرته، وفي كلا الأمرين تطور لافت لقيمة مكِّون الشعب وما يفكر به ويتطلع إليه، اعترف بذلك الحكام أم لم يفعلوا.
إن الفرد الذي يعيش في منطقة الخليج أصبح مرسلاً لا مستقبِلاً فقط في مسائل الشأن العام، والحكومات باتت تخشى سهام الحملات الإعلامية المضادة التي يشنها أفراد المجتمع حينما يركزون على تقصير أو إهمال أو تأخير في أداء وتنفيذ واجب، أو حتى التهكم على تصريحات مسؤولين وصناع قرار من نواب ووزراء بل وحكام. صحيح أن المحاكم الخليجية مليئة بقضايا التعبير عن الرأي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وصحيح أن ناشطي هذه الوسائل من المواطنين والمقيمين ونواب المجالس التشريعية ما انفكوا يتوافدون على سجون هذه الدول، وبأحكام سجنية طويلة المدد؛ إلا أن كل ذلك لا يدل إلا على تطور الوعي، وفاعلية هذه الوسائل وإيلامها لمنظومة الحكم التقليدية التي بدت عاجزة عن الهيمنة على الرأي العام والتحكم بمصادر المعلومات وانسيابيتها ونفاذية أثرها على الوعي. ناهيك عن عدم قدرتها على إيقاف أو تعطيل هذه الوسائل ومن يستثمرها للدفع بجهود الإصلاح إلى الأمام.
لقد ساعدت أخطاء الأنظمة الحاكمة في الخليج فيما يتعلق بالتعامل مع الناشطين والمدونين على نمو وعي حقوقي تتراكم أهميته ويتعاظم أثره كلما أمعنت هذه الأنظمة وأجهزتها الأمنية والقضائية في قمع هؤلاء الشباب وترويعهم بالتهديد والخطف والسجن. وفي ظل عدم قدرة هذه الأنظمة على تكوين جبهات دفاع متماسكة تدافع عن تلك التصرفات اللاإنسانية لوقت طويل، وبأسلوب مقنع وفق الخطاب الإنساني السائد والمنادي بالقيم الإنسانية الكلية، الناظمة لأسس العيش الكريم؛ كالعدالة الاجتماعية، والمساواة، والتوزيع العادل للثروة، والتداول السلمي والآمن للسلطة وفق إرادة الشعب، وحفظ الحقوق، والتربية على القيام بالواجبات، وصون الحريات العامة للبشر، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وفصل السلطات لتتعاون بندية، وحرية تكوين التنظيمات السياسية وغير السياسية، وإتاحة الفرصة لها للمشاركة في صناعة القرار، لكي لا تنفرد فئة أو فرد بها، واحترام التعدد الفكري والإثني والعرقي والطائفي، والتكافؤ في الفرص، وتعزيز رابطة المواطنة، ومكافحة الفساد وفق آليات رقابية ومحاسبية نزيهة وشفافة. في المجمل، هي مطالب وتطلعات أي إنسان من أجل حياة كريمة، على أي أرض، وتحت إدارة أي دولة.
أقول، في ظل فشل كهذا، على مستوى النوع، وإن بدا متسيداً على مستوى الكم، لن يكون له، في اعتقادي، إلا المساهمة في اتساع الهوة بين النظام الحاكم المغلق الخائف على وجوده وبين الجماعة الوطنية المُطالِبة للمزيد من حقوقها الأساسية. يعزز كل ذلك اتساع نطاق المظلومية لدى الناس تجاه من يحكمهم؛ فكلما ضاق الأفق بالقمع والسجن والإقصاء والتهميش والاستخدام المفرط للقوة، ومهما وُظِفت الأموال لشراء الصمت، ومهما جُيِشت الحشود الموالية لسياسات الأنظمة الحاكمة في وسائل التواصل الاجتماعي، اتسعت فضاءات الحرية وتكرّس الوعي بها كقيمة. فجذر الإشكال أخلاقي قيمي، لا إجرائي نفعي، مما يستدعي وقفة صادقة للتقييم والإنحياز لتطلعات الشعوب مهما كلف هذا الخيار الأنظمة من ثمن. لأن البديل، ببساطة، مزيد من التضعضع والهشاشة المؤديَيْن لفشل الدولة وبالتالي وقوعها في أخدود الصراعات الطائفية والمذهبية والقبلية، وعندئذ، الخسارة لن تستثني أحداً لا أنظمة الحكم المستأسدة بالمال والقوة، ولا الشعوب المتوارية خلف الصمت والترقب.
إن متعب الهذال لن يعود لواحته الوادعة من البعيد البعيد إلا بعد أن يجد الإنسان ذاته كقيمة عليا في ذاته.