تعتبر الدساتير الوثيقة الأساسية المنظّمة لعمل الدول، وتحديد علاقتها بقادتها، وتصون حراك المجتمع المدني وتشرّع لعمله، كما تكوّن وتكون كذلك خارطة طريق للقوانين التي يتم تشريعها والعمل بها، ويتم تقديمه -أي الدستور- وفق المفاهيم العامة الدولية على أنه: مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها بدون التدخل في المعتقدات الدينية أو الفكرية، وبناء الوطن على العالمية والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز الإطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشئون الداخلية والخارجية.
ومن هذا المنطلق، يصبح للدستور أهمية كبيرة في تحديد ورسم شكل الدول ومجتمعاتها، حيث إنّه المقياس الحقيقي على تقدم الأمم أو على تأخرها، وفقا لما يتضمنه الدستور من مواد وبنود؛ إمّا أن تسهم في تعزيز قيمة الفرد ومكانته مهما كان وصف هذا الفرد، والاعتماد عليه كمحرّك أساسي للقوانين والعملية السياسية والاقتصادية…إلخ، وإما أن تكون هذه المواد والبنود نفسها مكبّلة للفرد ومقيّدة لحريّاته الفكرية والتعبيرية وممارساته الحياتية..إلخ. تناول النظام الأساسي -الدستور- للدولة، يأتي من زاوية تقديم تجربة دستورية معاصرة وحديثة وحيّة، هذه التجربة تتناول في عموميتها النظام الأساسي -الدستور- وكيفية تطبيقه والعمل به، مع توضيح كيفية “وضعه وتصميمه”. بالتالي المقال لا يمثل نقدا بقدر ما يعتبر مجرد قراءة تستند على “حقوق” الفرد أكثر من استنادها على المقارنات “السياسية” بين دساتير بلدان أخرى. مع الإشارة مسبقا، إلى عُمان، ومسماها السياسي “سلطنة عمان” نظامها ملكيّ، ويتمتع فيها السلطان بالسلطة المطلقة، وهي من ضمن الدول القليلة جدا في العالم المصنفة على أنّ نظامها السياسي “ملكيّة مطلقة”.
النظام الأساسي (الدستور) للدولة:
تم العمل بالنظام الأساسي -الدستور- للدولة على إثر المرسوم السلطاني 101/1996، حيث تكوّن من 81 مادّة تم توزيعها على سبعة أبواب، مع التنويه إلى بعض التعديلات التي طالت النظام الأساسي للدولة، مثلما حدث وفق المرسوم السلطاني 99/2011 مثلا، والذي تمحور حول صلاحيات مجلس الشورى والدولة وهيئة الشورى الجديدة التي عليها الآن. ولن نعمل هنا على تقديم تفصيل كامل للنظام الأساسي بقدر ما سنحدد النقاط التي سنهتم بذكرها وحصرها، وإضافة الملاحظة التي نوّد أن تكون مرادفة لها. على أن يتم تحديد الحديث عن القصور في النظام الأساسي في ثلاثة جوانب وهي:
– كيفية وضع الدستور.
– سوء التطبيق/التنفيذ لبعض المواد.
– انتهاك المؤسسة الأمنية له.
– وضع الدستور:
النظام الأساسي -الدستور- تمّ وضعه بصورة فردية، من قبل السلطان قابوس نفسه (يحكم عمان منذ 1970 خلفا لأبيه السلطان سعيد بن تيمور وبعد انقلابه عليه في العام نفسه)، وهذا ما يؤكد على ضرورة القيام بتحديث أو تعديل، أو حتى كتابة دستور جديد، لما أهمله النظام الأساسي سابقا، من تجاوز “الرؤية الشعبية” وتجاهل تطلعات المجتمع وآماله وآراءه في كيفية إدارة العملية السياسية للبلد ورسم هيكليتها، ولما تضمنه الدستور من تجاوزات تعتبر لا إنسانية في معناها الأعمق، عبر تحصين السلطان لنفسه واستئثاره بسلطات الدولة، مثل رئاسة الوزراء والمالية والدفاع والخارجية والمجلس الأعلى للقضاء..إلخ.
في باب “رئيس الوزراء” تحديدا في بند “رئيس الدولة”، قدّم السلطان نفسه في المادة 41 في عدة مناصب على رأسها رئاسة الدولة، وصان نفسه بعدم انتقاده في كل الحالات والمناصب التي يتولاها. كما وصف لنفسه المناصب التي يتحكم بها إلى اليوم مثل الدفاع والخارجية والمالية، في المادة 42 في الباب نفسه، كما أنّه هو المشرّع للقوانين والأنظمة عبر المراسيم التي يصدرها كل عام حول الشؤون المحلية الداخلية أو المعاهدات الخارجية. بوجه عام، فإن الباب الرابع وما تضمنه بند رئيس الدولة، يعتبر “تأسيسا” لعمل “دكتاتوري”، قد يساء استخدامه مستقبلا، ذلك أنّ السلطان هو وحده من أعطى لنفسه الحق في تملّك المناصب كافة وتوزيع نفسه عليها أو توزيعها عليه، دون الرجوع إلى السطلة التشريعية -البرلمان “مجلس عمان” المتكون من مجلسي الشورى والدولة، مجرد ديكور سياسي ولا يستطيع التشريع ولا إضافة أو التعديل على القوانين- أو دون الرجوع لأي لجان مختصّة في وضع الدساتير. وهذا بحدّ ذاته يشكّل ضررا على المواطن، كما حدث في عام 2012 على سبيل المثل، في توجيه عدد من التهم مثل: الإعابة في ذات السلطان “إهانة السلطان”، والنيل من مكانة الدولة! إلى عدد من الناشطين الحقوقيين والسياسين والكتّاب والمدونين. ذلك أنّ السلطان هو نفسه رئيس الوزراء والمشرّع لقوانين الحكومة وأنظمتها وآلية عملها، بالتالي أي انتقاد لعمل الحكومة أو قراراتها، هو انتقاد للسلطان نفسه، ونيل من هيبة الدولة!. وهذه الازدواجية شكلت وستشكل على المستقبل المنظور والمأمول كذلك، مشاكل لا حصر لها، إن ظلّ العمل السياسي للحكومة هو مجرد مراسيم تصدر من السلطان نفسه، مع غياب أي رقابة عليها، وغياب “لجنة” تقوم بدور الإصلاح السياسي والحكومي بصفة دورية وفق أدوات المراقبة والقياس التي ستتاح لها حين تتشكل!
ولمنع الضرر إيّاه، لا بدّ أوّلا من إعادة صياغة مواد الباب الرابع، خاصة فيما يتعلق بالسلطان ورئيس الدولة، فطالما أن السلطان مستمر في مهمته كرئيس للدولة وبعض المناصب الوزارية ومشرّع للقوانين، ليس من حقّه الاعتراض على أي انتقاد يطال مراسيمه أو قرارات حكومته خاصّة في ظلّ الاخفاقات الاقتصادية التي تضمنت الرؤية الاقتصادية 2020! على سبيل المثال لا الحصر. كذلك، لا بد من استحداث منصب رئيس الوزراء، عبر اتباع طريقة آمنة، على سبيل المثال أن يتم تعيينه في أوّل مرحلة من السلطان بالتوافق مع أعضاء “البرلمان”، ثم العمل على اتباع طريقة الانتخاب والترشيح من قبل البرلمان نفسه، مع تحديد فترة زمنية لكل حكومة مع إمكانية اختيار الرئيس لوزرائه وفق الكفاءة والخبرة والعمل، وتمكين “البرلمان” من محاسبة الحكومة والمساهمة في وضع الخطط وتشريع القوانين -لا بد من الإشارة هنا إلا عدم فاعلية المادة 48 من بند رئيس الوزراء في الباب الرابع-. ولكنّ هذا للأسف فيما يبدو أنّه لن يحدث على المدى القريب طالما السلطان هو المتحكم والمتنفذ الوحيد بالقرار السياسي في البلاد. (لا بد من الإشارة أنّ السلطان منع قيام أيّة أحزاب سياسية في البلد، ولا وجود لمؤسسة برلمانية بالمفهوم العام المتعارف عليه).
للعودة للأمام قليلا، والنظر إلى الباب الأول: الدولة ونظام الحكم، في المادة الـــ6، نجد أنّ السلطان يرسم لنفسه حضورا حتى بعد رحيله -أي مماته- عبر تحديده لاسم السلطان القادم، وهو ما يعني عمليا شغور منصب “ولاية العهد” طالما كان -أي قابوس- على قيد الحياة، وهذه الخطوة لها ما لها وعليها ما عليها من تداعيات لاحقة، مهما كان السلطان يحاول من خلال مضمون المادة 6 أن يرسم خارطة طريق آمنة لانتقال السلطة واستقرار الوضع السياسي، إلا أنّ الولاءات دائمة التغيّر، ومن وقع عليه اختيار السلطان الحالي لأن يكون السلطان التالي لربما لا يحقق توافق الأسرة المعنيّة بالسلطة، وهو بالأحرى ما يجب توقعه مباشرة في حال مرور الــ3 أيّام التي تم تحديدها في كــ مهلة للأسرة الحاكمة كي تختار سلطانا فيما بينها.
وهذا ما يعود بنا إلى قاعدة أساسية وضرورية وهي: الملك لا يحكم، والحاكم لا يملك!.
– سوء التطبيق/التنفيذ لبعض المواد:
تضمنت المادة الــ9 من الباب الأوّل: “يقوم الحكم في السلطنة على أساس العدل والشورى والمساواة”، وهذا بحدّ ذاته يعدّ تسويفا في حق المواطن، عبر:
- المفاهيم العامة الواسعة، وغياب خطوات التطبيق والتنفيذ لها.
- القرار للآن هو قرار فردي بامتياز يتعلق بالسلطان نفسه.
كما أنّه لا يحق للسلطان وهو يضع الدستور أن يحدّد دور المواطن، في حين أنّه يجب أن يتم تحديد دور السلطان وسلطاته وسياساته من قبل المواطن عبر المؤسسات التي تمثله مثلا، أو عبر اللجان التي يتم تشكيلها من أعضاء “نخبة” في حالة الرغبة في التحوّل التدريجي مثلا لتمكين السلطة التشريعية من “تشريع القوانين ومراقبة الأداء الحكومي”.
كما أنّ المبادئ السياسية في المادة 10 من الباب الثاني، أتت بمفاهيم عامة وغير مفصلّة كغيرها من موّاد النظام، خاصة في النقاط المتعلقة بــ :”إرساء أسس صالحة لترسيخ أسس دعائم الشورى، وإقامة نظام إداري سليم يكفل العدل والطمأنينة والمساواة!”(ما هو مذكور في نص النظام الأساسي (الدستور)). فالأسس الصالحة يتم وضعها وتحديدها في بنود وقوانين واضحة ومنظمة، ليس عبر “مزاجية” السلطان نفسه في إصدار مرسوم واستبداله بعدها بغيره، وفي كلا الحالتين لا يمثل المرسوم إلا وجهة نظره الخاصة في معنى “الشورى”. كما أن النظام الإداري السليم يتطلب وجود شخصيات “إدارية” نزيهة مطّلعة على الشأن المحلي والوضع الاجتماعي والاقتصادي للمواطن، على أن يتم اختيار هذه الشخصيات وفق ما تقدمه من رؤى وبرامج عمل في النهوض باقتصاد البلد وتفعيل سياساتها الداخلية، وهذا ما لا يحدث للأسف لتسلط السلطان وحده وتنفذه، واختياره شخصيا لهذه الشخصيات أو عبر “المسؤولين المقربين منه”.
أما المبادئ الاقتصادية في المادة 11 من الباب الثاني، تناقض مفهوم الحريّة الاقتصادية في ظلّ وجود احتكار متوسع في السوق المحلي في عدد من القاطاعات، وأغلبية هذه الاحتكارات تعود لمسؤولين في الدولة أو لتجّار قريبين من الدولة، وهو ما نشهده عبر سنّ قوانين لا تخدم إلا كبّار التجار مثل قانون العمالة الوافدة وتقييد رب العمل بمواصفات معينة للعامل الذي يأتي به، أو براتب معين للعامل العماني بغض النظر عن مدى ربح المؤسسة هذه، وهو ما يعني عمليا قتل المشاريع الصغيرة لتهيئة الطريق للمشاريع الكبيرة للسيطرة والتوسع. كما أنّه ليس هناك قوانين ملزمة لمسؤولي الدولة بالمحاسبة حسب قانون “من أين لك هذا؟”، وهو ما يفسر اطمئنان المسؤول عادة في استغلال نفوذ منصبه لمصلحته الخاصة عبر تأسيسه لأعمال خاصة له تدرّ له الربح، أو تأسيس شركات يكون ربحها هو ما تجنيه من جيب الحكومة من المشاريع الصغيرة التي يتم تسجيلها بأرقام كبيرة ومهولة!.
كما نحدد نقطة أخيرة وهي مسألة القضاء على سبيل المثال، كيف يكون القضاء مستقلا – حسب المادة 60 من الباب السادس التي تتضارب مع المادة 66- والمجلس الأعلى له برئاسة السلطان نفسه!! وكيف يكون “لا سلطان على القضاء” – حسب المادة 61 من الباب السادس- والسلطان له الحق في عزل القضاة وتعيينهم!!.
كل هذه النقاط وغيرها مما تجاوزناه، تعاني من سوء في التطبيق والنفيذ والعمل بها، مما ينتج عنه ضرر بالمواطن ومصلحة المواطن، وكما يتضح لنا فعلا، أن اسم المواطن أتى في السياق بما يخدم تأسيس النظام فقط، لا بما يحقق نظاما دستوريا حقيقيا من الممكن الاعتماد عليه في الفترات اللاحقة في تنظيم العملية السياسية بين الحاكم والمحكوم!.
– انتهاكات المؤسسة الأمنية:
أحد أكبر التحديات التي تواجه أيّ دستور، هو تداخل عمل المؤسسات، لذلك عملية التنظيم والفصل وتحديد المهام والمسؤوليات من الضروريات التي تحفظ الدستور من أيّ انتهاك لاحقا، وتسهم في استقرار أوضاع أيّ بلد مهما شهد نوعا من العصف السياسي المتمثل في انتقال سلطة أو أزمات اقتصادية. لكنّ ما حدث في عمان للأسف، هو قيام “السلطة الأمنية” ممثلة بــ مكتب الأمن السلطاني وجهاز الأمن الداخلي (المخابرات) إلى اختراق موّاد النظام الأساسي للدولة، وخاصة في المواد 18-24 لــ الحقوق والواجبات العامة في الباب الثالث، وهذا الانتهاك الذي تمثل في اعتقال المواطنين واختطفاهم وحجزهم في أماكن سريّة مجهولة، تمّ تتويجه بمرسوم سلطاني 96/2011، تمثل في تعديل وإضافة عدد من المواد في قانوني الجزاء العماني والإجراءات الجزائية، ففي الجزاء العماني تم تعديل المادة 137، وذلك للتصدي لأي حراك حقوقي عبر منع المظاهرات السلمية، بحجة الإخلال بالنظام العام، وهو ما يعتبر منعا لحرية التعبير وتكريسا لسياسة القمع لأي صوت احتجاجي على سياسات الحكومة وقراراتها، وهو ما شهدنا آثاره خاصة في 12 يونيو/حزيران 2012 حين تم اعتقال مجموعة من الكتّاب والناشطين من وقفة احتجاجية سلمية بعيدة تماما عن المنشآت الحكومية أو الطريق العام، ورغم ذلك تمّ تلفيق التهم للمعتقلين بعرقلة السير والإخلال بالنظام العام!.
أما في قانون الإجراءات الجزائية في النصوص المستبدلة في الأرقام (42و48و53و63)، فهو أكبر انتهاك لنظام الدولة الأساسي، حيث شرّعت نصوص هذه المواد لسلطة الضبط اعتقال أيّ مواطن، ووضعه في الحجز.
كما لا بد من الإشارة، إلى أن “مكتب الأمن السلطاني” و”جهاز الأمن الداخلي” هما المؤسستان المتحكمتان في عمل المؤسسات الأخرى، أي أنهما الذراعان اللتان يعتمد عليهما السلطان في بثّ عيونه ومراقبة عمل المؤسسات، ليس من أجل النهوض بها أو تطوير آلياتها وأفرادها، بل لضمان عدم وجود أي شخصيات في مناصب عليا تتعارض أعمالها وأفكارها مع أهواء الدولة!!! وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة وجود لجنة مختصة في البرلمان أو “الشورى”، وظيفتها مراقبة أداء المؤسسة الأمنية، مع تقليم أظافرها لضمان عدم تجاوزها لحقوق المواطن وعدم انتهاكها لموّاد الدستور لاحقا، فالمؤسسة الأمنية جزء من العمل الحكومي يخضع للمراقبة والمساءلة والإدارة كذلك من قبل الحكومة لا العكس!.
الخلاصة:
ترتبط عمان وبشدة بالمتغيّرات العالمية مهما ادعت أنها غير منحازة، طالما أنها اقتصاديا مرتبطة بالسوق العالمي، وسياسيا خاضعة للعبة القوى الكبرى، أصبح لزاما علينا:
- كتابة “دستور” جديد إن تعذّر فعليا وعمليا التعديل والحذف والإضافة على الدستور الحالي (النظام الأساسي).
- إنشاء لجان مختصة تتشكل من قانونيين واقتصاديين وأكاديميين وحقوقيين وناشطين، يسهمون في صياغة مواد الدستور، ووضعها بما يحقق التكامل والتوافق.
- فصل السلطات، على أن يتوافق مع ذلك تشكيل لجان مستقلة في البرلمان – بعد تحوله لسلطة تشريعية حقيقية-، تكون وظيفة هذه اللجان مراقبة السلطات (القضائية والتشريعية والتنفيذية) بالإضافة إلى مراقبة عمل السلطة الأمنية وتقنين دورها.
- تفعيل منصب رئاسة الوزراء دون الحاجة إلى الاعتماد على الماة 48، بل إلغاء المادة أو أن يتم التعديل والإضافة عليها.
- تحديد مهام السلطان ودوره في العمل السياسي الداخلي، مع تحديد “استحقاقه” المادي السنويّ له، وكذلك لأسرته إن لزم الأمر لذلك.