في ظل رزوح أحدنا تحت وطأة تفكير أحادي: يرى من خلاله العالم من حوله، يحلل الظواهر التي تعترضه، ويستشرف المستقبل ويتنبأ بما سيأتي معتمدًا على نموذجه الذي يعمل بكفاءة عالية، خاصةً عندما يُقصى النقد عن هذا النموذج، ويصير الحديث فيه ضربا من الزندقة والمروق تقود صاحبها إلى “التخبط”، في محاولةٍ دفاعية للحِفاظ على النموذج من المَساس به من قِبل النماذج الأخرى. يعزّز هذا الأمرَ العِقدُ الاجتماعي، ويعقّده، خصوصا مع انعدام الاستقلالية الاقتصادية للفرد. عندها يُقاس الوعي باتساع المعرفة وكثرتها في إطار النموذج ذاته، ومدى الالتزام (بالمعنى السارتريّ) بآليات عمل النموذج. وتكون النفس، في المحصلة، مُحققةَ الذاتِ، ومستقرّةً، غير مضطربة تجاه الوعي الأحادي.
تبدأ المشاكل النفسية تظهر على السطح عندما يتحرر “الأحد” هذا من رِبقة العقد الاجتماعي، ويخطّ لنفسه طريقا خاصة به، شاعرًا بالفردانية نتيجة استقلاله الاقتصادي، وتحقيقه لِذاته بعيدًا عن العِقد الاجتماعي. ينضاف إلى ذلك الشغف البحثي، واكتشاف عوالم جديدة، أو الاستعداد النفسي لقبول نماذج أخرى، من أجل النظر فيها بموضوعية على الأقل.
اكتشاف “الأحد” هذا لنماذج أخرى تفسّر الوجود، الحياة، الغاية، الإنسان، “الله”، وتعمل بكفاءةٍ تُضاهي كفاءة نموذجه الذي اعتاده لسنوات – يُشعره بمدى ضآلته وضيق نظرته السابقة؛ فيعقد المقارنات، ويوازن بين نظامه وتلك الأنظمة، فتمتد الجسور بينه وبين “الآخر” (على أن لهذه الكلمة حمولات إقصائية). عندها يبدأ يشعر بأنه كان ضحية، ضحية نظام أحادي ذي أنظمة دفاعية لا داعي لها؛ فالأفكار القوية وحدها التي تصمد في ميدان التسابق نحو الإنسان.
يشقّ الوعي مسارات جديدة يتّسع تجاهها، مصحوبة باندهاشات الاكتشافات الجديدة، ويكون نور الإشراق مؤذيًا لعينين خلعتا نظارة النموذج لترى بتجرّدٍ نماذجَ لا تُعد.
تتحق الذات إزاء الكشوفات هذه، وتنغمر في نشوةٍ غير معهودة نتيجة الوقوف على نماذج لها معانٍ. تلك المعاني التي افتقدها في نموذجه السابق؛ إذ تم تلقينه إياها معرفةً خاويةً من المعنى، وإذا ما وُجد المعنى فإنه يكون سطحيا – تلك هي الأيدولوجيا. حتى إذا طغى شعور النشوة، وهي حالة لاعقلانية بالضرورة، غاب العقل بالنتيجة نسبيًا.
تكون ردة فعل “الأحد” هذا لاعقلانية في مرحلة من المراحل، نتيجة طغيان الشعور بالنشوة عليه. وتبدأ رموزه بالتساقط أمامه واحدا تلو الآخر، فتزداد الشُّقَّة بينه وبين نموذجه. واعتمادا على مبدأ التعويض النفسي، فإنه سيبحث عن معادل موضوعي لرموزه السابقة، عادةً ستكون مناقضةً لسابقتها حسب مستوى النموذج؛ فإذا كان نموذجه المنقلَب عليه في مستوى العادات والتقاليد فإنه سيبحث عن نموذج مناقض (البنطال الأوروبي مقابل الثوب العربي) له كي يثبت تحرره من العِقد الاجتماعي، وإذا كان نموذجه في مستوى المذهب الديني فإن سيبحث في المذهب المعادي له على أساس الانتقام من السجن الذي كان يحبسه فيه مذهبه/نموذجه السابق، وإذا كان النموذج على مستوى الدين فإنه سيبحث في دين مناقض له وفي الغالب سيجد الأديان تدور في فكرة واحدة فبالتالي تجده يلتجئ نحو الإلحاد، وفي أحسن الأحوال يكون لاأدريا، لا يدري ما الذي يدور من حوله.
بعضهم يتّخذ من التطرّف مُسكِّنًا لآلام وخز الوعي، فتجده يعارض كل ما هو عربي، وكل ما هو مسلم، وكل ما هو شرقيّ. ويصطدم بالمجتمع بقوة، لا يدري المسكين أنه وحده الخاسر، وأنه هو الذي ينبغي عليه أن يشفق على رأسه لا أن يشفق على الجبل. وقد ظهر على جلد الوطن العربي طفَحٌ ينادي بالاعتراف بحق إسرائيل الوجودي في أرض فلسطين، وأنها تدافع عن مواطنيها ومقدساتها، مستخدمين أوهى الأدلة، وأغباها، وأكثرها تناقضا مع ما ينادون به من “حرية الإنسان” و”الحقوق”. وبقدرةِ قادرٍ، أصبحوا يدينون بدين الجبرية مع مناداتهم بضرورة “اختيار” الفلسطينيين للحل السلمي.
إن هذا الطفل الذي يحاول أن يقول بصوت عال “أنا هنا.. اسمعوني”، يبدأ بخسارة العلائق الاجتماعية نتيجة ثورته غير المحسوبة، قد تجرّ وراءها صكوك الحرمانِ مِن أبسطِ الحقوق مثل الزواج. مع ذلك، تجده يستسخف المواقف التي يتخذها الناس منه قائلا: “الفكرة القوية وحدها التي تفرض نفسها، ولا يهمني ما جرّت وراءها”. فإذا كانت فكرتك لا تقوى على الدفاع عن نفسها بما فيه الكفاية، وترى أنها تجرّ خلفها ضررا لك، فلماذا كل هذه الدعاوى إليها؟! اطرحها ثم اتركها تترعرع في المجتمع حتى تكبر وحدها لترى إن كانت صالحة أو لا.
نعى روسّو، في كتابه في العقد الاجتماعي، على بطرس الأكبر، قيصر روسيا، أنه أراد جعل شعبه ألمانًا آخرين وإنجليزًا آخرين بينما كان عليه أن يجعلهم روسًا قبل كل شيء. وبالمثل يريد أمثال صاحبنا “الأحد” هذا أن يجعلوا من العرب فرنسيين آخرين دون ثورة. على هؤلاء الذين يمشون على درب الوعي أن يجعلوا العرب عربًا قبل كل شيء. أن يشتغلوا على مفهوم الهوية فلسفيا؛ فهوية الإنسان حصيلة قراءاته وتطلعاته وتجاربه، ليس انتماءه فحسب. يولد المرء عربيا، في الغالب يكون مسلما، فلماذا نتخطى هذين المكوّنين الكبيرين في هويتنا، ونتجاوزهما إلى ما سواهما!
ختامًا أقول: كن واعيًا كما تريد، لكن أيضًا كن ذكيًا؛ فالأمر الذي تشك في صحته، وتفككه، وترفضه – قد يدور الزمان دورته اللولبية ليثبت لك أنك كنت واهمًا، وأن الأمر لم يكن يستحق منك كل هذا النحيب والصخب. هذا هو المعنى الحقيقي للشك الديكارتي.