في ذروة الصراع الديني والمذهبي والطائفي واتساع سطوة الجماعات الإسلامية المتطرفة كتنظيم الدولة الإسلامية الذي اتسع في العراق وأجزاء من سوريا إضافة للجماعات المتطرفة المنتشرة في عدد من الأقطار العربية، ما جدوى إيجاد واقع سياسي واقتصادي جيد لهذه البلاد وما نصيب الفرد من كل هذه الإصلاحات أمام المطالبات بخلق فرص للدول المدنية في العالم العربي؟. تحاور مواطن الباحث بدر العبري – باحث عماني في القضايا الفكرية والدينية- لأجل إيجاد مقاربة حول قضية الصراع الفكري بين الواقعية الكوسموبوليتية والتنظير الإسلامي وإشكاليات الخطاب الديني ومتطلبات الإصلاح.
- حوار: محمد الفزاري
– ثمرة المدارس التنويرية الناقدة حاضرة في أوروبا، ولا شيء يمنعها من الحضور في العالم العربي، الأمر منوط بالزمن.
– الاستعمار وإن كان علمانيا فهو يدعم الملكيات ورجال الدين لتحقيق سلطته على الثروات.
– لا يوجد شيء اسمه دولة علمانية أو دولة إسلامية، هناك دولة واحدة هي الدولة المدنية القائمة على القانون، وتعامل مواطنيها حسب القانون والكفاءة، والشراكة والعدالة.
– الأمنيون والسياسيون يستخدمون نظرية المؤامرة كعامل تخويف لأجل استمرار مصالحهم الذاتية والشخصية.
– الصّحوة الإسلامية لها اتجاهات متضادة، ويصعب حصرها في اتجاه واحد. هناك الاتجاه العقلي المنفتح على الثقافات الأخرى، وهناك اتجاه أخباري سلفي: السني المتمثل في السعودية والشيعي المتمثل في إيران.
– لا يوجد شيء اسمه دار إسلام ودار الكفر، أو دولة إسلامية ودولة غير إسلامية، هذه مصطلحات بدعية نشأت لاحقا، فالرسول عندما وصل إلى المدينة أصدر قانونه المدني بين الأطياف في المجتمع، وأقر الأمم الأخرى على ممالكها.
– الخطاب الديني الذي يرفع راية الدولة الإسلامية يعرقل المسيرة الإصلاحية، والمستفيد هو الاستبداد، والخاسرون هم الإسلاميون أنفسهم، وفشل هذه التجارب نتيجة طبيعة.
– المسجد في الأصل جزء من المجتمع المدني الذي يكون فاعلا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وليس مجرد صومعة لا أثر لها في الحياة!
– لا زالت السجالات المعرفية أو الفكرية في المجتمع العماني ضعيفة جدا، أو في أغلب المناطق ميتة تماما.
– لا يوجد صراع بين المدرستين الأصولية والعقلانية في الجانب العلمي، والصراع الحاصل الآن أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع. والصراع الحالي سلفي عقلاني، وذلك لتأثر المدرسة الإباضية بالخط السلفي كغيرها من المدارس الأخرى.
نص الحوار:
1- في البداية، يمكن القول إن الواقع يدلل على أن أوروبا لم تنهض حتى ظهرت المدراس الفكرية التي تجرأت وانتقدت الكتاب المقدس، العهد القديم والجديد، والكتب التاريخية المقدسة الأخرى، نقدا تاريخيا وفيلولوجيا. ورغم العواقب الكارثية التي صاحبت ذلك الخطاب على متبنيه، إلا أن تلك الصدمة آتت أكلها مع الزمن وأفرزت مدارس فكرية تنويرية أكثر إنسانية وأكثر مدنية وعلمانية وعالمية، وانعكس في ما بعد على المستوى العقل الجمعي؛ فوصل المجتمع لمرحلة الإيمان والاقتناع بحرية التعددية الدينية والمذهبية التي سبقت مرحلة ترسخ التعددية السياسية والمشاركة الديموقراطية. ما رأيك؟
بداية، ينبغي التأكيد على أن النقد شيء فطري في الوجود، يولد مع الإنسان وهو يندهش عمّا حوله، فيحاول أن يطرح تساؤلاته ونقده، إلا أنّ هذه الحاسة قد تنمو وتتطور، وقد تجمد وتذبل، أو يقل العمل بها حسب البيئة والمجتمع ومدى العمق المعرفي وإتاحة الفرصة للجيل الجديد من الجيل السابق. والرسالات السماوية لم تقف ضد النقد، أو التساؤل وإعمال العقل، بل طلبت بذاتها ذلك، فالقرآن الكريم مثلا يقول عن كتابه: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر، والادكار إعمال للعقل، كما أنه يقول أيضا: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فهنا يعطي القرآن مساحة واسعة للنظر والتدبر والتأمل، لا مجرد الإعجاب والتسليم والعاطفة والتقليد حسب الولادة أو البيئة.
ثمّ إنّ الرّسالات السماوية جاءت بقيم كلية كالعدل والقسط والشورى والأمانة والمساواة وهلم جرا، وهذه القيم جعلتها مطلقة في جملتها لسبب بسيط، وهو التّطور الزماني والمكاني كصيرورة طبيعية عند البشر، أو قل سنة كونية في الإنسان، وعليه إنزال القرون الأولى لهذه القيم سيختلف عن القرون اللاحقة، ومن ثم يجب على القرون اللاحقة نقد السابق، وإعمال العقل لهذه القيم بعيدا عن التفسيرات السابقة، وهذا لا يمنع بطبيعة الحال من الاستفادة من التفسير السابق لتراكمية التجارب والمعارف الإنسانية، ولكن لا يجعل هذه التفسيرات أصلا ووحيا إلهيا.
وهنا حدث الخلل عند الملل والأديان السماوية فأضافت التفاسير الأولى للنص المقدس إلى الله إما عن طريق الإضافة والتلاعب بالنص نفسه، وإما عن طريق النسبة إلى الأنبياء أو القديسين ليعطي النص قداسة، فيختلط بهذا المقدس مع الكلام البشري، ويتحول التفسير البشري ذاته إلى نص مقدس يصبح نقده كفرا وزندقة وخروجا من الدين، ويتعرض ناقده للإقصاء المجتمعي والسياسي والديني، وقد يتعرض للإيذاء البدني أو النّفي أو يلحق به الموت باسم الهرطقة والزندقة.
وهذا ما حدث للإصلاحيين في أوروبا في بدايات النهضة وقبلها كأمثال مارتن لوثر في المسيحية أو اسبينوزا في اليهودية، وهو ذاته مثلا مع حدث عند جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده في الإسلام. عموما المشكلة في الجانب اليهودي والمسيحي أنّ النص غير المقدس اختلط بالنص المقدس في أصل الكتاب المقدس نفسه، ويقل هذا نوعا ما في الإسلام، لأنّ الإضافة كانت خارج النص من خلال النسبة إلى الرسول الأكرم أو الصحابة. وكما كانت الثمرة حاضرة في أوروبا أو الغرب عموما لهذه المدارس التنويرية والناقدة، فهي بلا شك ستأتي ثمرتها في الشرق أو الدول العربية خصوصا، وإنما هي نسبية الزمن لا أكثر.
2- لماذا لم تنجح الديمقراطية والنظم التي تدعو للعلمانية في الأوطان العربية، بل في الحقيقة أدت إلى كوارث وتحديات صعبة في بعض البلديات، على خلاف الملكيات التي سبقتها والتي صنعت نوعا من النهضة على المستوى الحياتي على أقل تقدير، فالحالة المصرية مثلا، وهي كانت من إحدى إيجابيات الاستعمار البريطاني الذي أتى رغم أطماعه الرأسمالية بمنهجية فكرية تعد أكثر تمدنا كنتيجة حتمية لذلك المشروع التنويري الذي تربت عليه الأجيال في بريطانيا وبقية دول أوروبا الغربية؟
عدم نجاح التجربة الديمقراطية في الوطن العربي له أسبابه المتشابكة حاله كحال التجربة الاقتصادية في اليابان، والذي تزامن مع التجربة المصرية، إلا أنّ التجربة المصرية فشلت في حين نجحت التجربة اليابانية. ولعل هذا أيضا يعود إلى الملكيات التي استطاعت تقوية الجانب القبلي والديني في حين همشت الجانب المؤسسي القائم على التكوين الشعبي لذاته كمكون للقاعدة ومراقب وموجه أيضا. ولئن قامت حكومات جمهورية إلا أنها اتكأت بصورة أسوأ من الملكيات والحكومات المشيخية، حيث استخدمت الجانب العسكري والأمني أكثر بكثير من الجانب المدني.
عموما العديد من الاتجاهات العلمانية – للأسف – أصبح من السهل شراؤها من أجل المال أو الكرسي، ثم غالبا أقرب إلى الفردية، من هنا الديمقراطية تأخرت في الشرق في نظري.
3- هل تعتقد أن لأي مشروع تنوير علاقة بالأطماع الاستعمارية والحروب العالمية كما يحاول بعض المنظرين الإسلاميين التشكيك بالمشاريع التنويرية رغبة في تحقيق ما يمكن ما وصفه “بالدولة الإسلامية“؟
الأطماع الاستعمارية لا يهمها إلا مصالحها، فهي تتكئ على المصلحة، فإذا كانت المصلحة أو الغلبة للتنويريين تظاهرت بذلك بأنها تنويرية مدافعة عنها، وإذا كان العكس مع التقليديين زعمت بأنها تحترم قرار الشعوب.
فنحن هنا نربط الأمر بداية بالمبدأ، ولا نربطه بالاستعمار، ولا يهم الاستعمار وافقه أم لا، لأنّ التنوير في حقيقته لا يقتصر عند الجانب الفكري، ونقد الماضي، بل يعم الجانب السياسي ونقده، واستقلال المجتمعات اقتصاديا، وقوتها عسكريا، بجانب فتح المجال بصورة أكبر في الجانب المعرفي والاختراعي والعلمي وحرية الكلمة والصحافة وقوة القانون، والعدل بين الناس وفق مؤسسات قضائية مستقلة، ومؤسسات عمل مدني مشاركة في القرار والبناء، وهذا لا يريده الاستعمار، لأنّه في الحقيقة يريد الاستفادة لأكبر قدر ممكن من ثروات الأمم الأخرى، وجعلها سوقا له، منقادة له، ولذا نجد الاستعمار يدعم الملكيات ورجال الدين ولو كان الاستعمار ذاته علمانيا لا يؤمن بدين!!!
ثم لا يوجد شيء اسمه دولة علمانية أو دولة إسلامية، فهذا وهم لابد أن يتخلص منه الشرق، هناك دولة واحدة هي الدولة المدنية القائمة على القانون، وتعامل مواطنيها حسب القانون والكفاءة، ولهم الحرية بعدها في توجهاتهم وأفكارهم، كما أنها تقوم على الشراكة، والمحاسبة للجميع.
4- كل ما يحيط بنا من إنجازات على جميع الأصعدة ما هو إلا نتيجة حتمية للتنوير والمشروع الذي ناضل له العديد من المفكرين والفلاسفة في القرن 16 و17 و18، ما هو رأيك؟
نعم أوافق في ذلك، مع أنّ التجربة البشرية في حد ذاتها متطورة لطبيعة الإنسان كما أسلفت، إلا أنّ وجود مفكرين ومنظرين تبعتها ثورات علمية وفكرية وعمالية ومجتمعية اختصرت الزمن، ولا شك أن وجود مفكرين آخرين الآن أيضا سيجعل المجتمعات البشرية تواصل نتاجها، وتتطور بصورة أكبر في مؤسساتها على كافة الأصعدة.
وهذا ما نأمله في العالم العربي، فوجود طاقات ناقدة ومفكرة ومضحية بلا شك سيكون لها ثمرتها، وهذا المخاض الذي نعيشه سيأتي بعده ما يسر بإذن الله تعالى، والمطلوب الاستفادة من التجارب الإنسانية في العالم خاصة وأننا نعيش في قرية واحدة، وعدم اليأس، مع التكتل وفق مؤسسات لا أفراد ليكون الجدوى بصورة أكبر بعون الله تعالى.
5- هل هناك حقا مؤامرة على الإسلام والمسلمين أم أنها مجرد مبررات وهمية واستغفال للشعوب من قبل الأنظمة السلطوية في العالم العربي لشغل الأفراد عن المطالبة بحقوقهم، بحجة حماية أمنهم وثرواتهم من المتربّصين؟
كما أسلفتُ لك المصالح الاستعمارية لها أهدافها، ولكن أهدافها تتقاطع مع مصالحها، ولتكن نحن لنا أهدافنا التي تتقاطع مع مصالحنا نحن أيضا، ولا يمكن أن تكون مصالحنا إلا بصيرورة التطور في كل مجال من مجالات الحياة، والتعلق بنظرية المؤامرة وتفخيمها بهذا الشكل لا يجدي شيئا بل هو يخدم النظرية ذاتها إن وجدت في الحقيقة.
ولا شك سيستخدمُ الجانبُ الأمني السياسي والديني هذه النظرية كعامل تخويف أمام مصالحه الذاتية والشخصية، وهي في الحقيقة قد تكون وهما، وقد يكون موجودا، إلا أنّ استعمالهم لها هو الذي يخدمها، بينما إذا حدث تحرك صحيح من خلال وجود دولة مدنية حقيقية بلا شك هذا أكبر ما يواجه به هذه النظرية – إن وجدت- بجانب الأطماع والمصالح الداخلية الشخصية.
6- النهب والسرقة والسيطرة التي تمارسها الدول العظمى على الدول الضعيفة، هل هي نتيجة طبيعية لحكم القوي على الضعيف، القانون الواقعي الذي يسود العالم. ما هو تعليقك حول هذه العبارة؟
قانون الغاب أو قانون القوة موجود ومشاهد، وهذا القانون يواجه بتقوية الذات، أي ذات المجتمعات والأمة العربية، وهذا ما يريده المصلحون في العالم العربي، فقانون التّدافع يواجه بالتّدافع لا بالصّراع والحروب، والتّدافع يعني الاستفادة من الأمم الأقوى فيما وصلوا إليه من قوة سياسية وعسكرية ومعرفية تعليمية واقتصادية ونحوها، لتستفيد من تجاربها، ولا تبدأ من الصفر، وبعد حين ستقوم الأمة بذاتها على أرجلها وسواعد أبنائها.
7- هل حقا أن الصحوة الإسلامية ساهمت في تخلف الدول العربية، التي صاحبت قيام الدول الديموقراطية الزائفة، ونعني هنا بالزائفة أنها اختزلت الفكر الديموقراطي في صندوق أجوف يجر الناس له جرا لتلقيمه أصواتهم، حيث ساهمت الصحوة الإسلامية في عودة الفكر الكهنوتي القروسطي من جديد الذي يدعي الحقيقة الدوغمائية المطلقة ومحاربة خيارات التعددية الدينية والمذهبية والمشروع الوطني ومحاولة استبداله بنظام قديم عليه أكثر مما له وهو دولة الخلافة الإسلامية أو دولة الرب بالمعنى الحرفي الدقيق؟
الصّحوة الإسلامية لها اتجاهات متضادة، ويصعب حصرها في اتجاه واحد، ولقد ساد اتجاهان بصورة أوسع، الاتجاه العقلي المنفتح على الثقافات الأخرى، والذي أخذ من مدرسة الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومن ثم شلتوت والغزالي وبيوض ومحمد حسين فضل الله وغيرهم، ومن هذه المدرسة العقلانية ظهرت مدرسة الإصلاح ومدرسة التجديد، وهذه انفتحت بصورة أكبر في الجانب السياسي.
هناك اتجاه أخباري سلفي والذي تقوى مع الدولة السعودية الداعمة للسلفية الأخبارية، وإيران الداعمة للاتجاه الأخباري الشيعي، وعليه سيتأثر الخطاب الآخر عند المذاهب الأخرى بهذه المدارس كالأباضية والزيدية.
وعليه ظهر الصّراع في الآونة الأخيرة بعد غلبة الدول الداعمة للأخبارية ليرجع الناس في صراع القرن الأول بعد حادثة السقيفة وما بعدها. فضعف في هذه الحالة الاتجاه العقلاني النقدي، وتم إقصاء العديد من رموزه، وظهر بقوة الاتجاه السلفي الأخباري عند كافة المدارس الإسلامية كبديل يرجع الأمة إلى صلاحها الأول ليصلح واقعها اليوم. فحدثت ردة على العقل وإعماله، فضلا عن النقد وقراءة التراث قراءة بحثية نقدية، فأصبحت الصحوة العقلانية ذما، والعيش في الماضي سنة ومدحا، وعليه ظهر جيل جديد نتيجة الخطاب السلفي الأخباري يمتاز بالتشدد والغلظة، ومنهم من كفّر حتى الأنظمة المعاصرة، ومن هذا الاتجاه خرجت الجماعات المتطرفة.
فالصحوة في نظري انحرفت عن مسارها التجديدي العقلاني النقدي إلى مسار آخر متطرف، وسببه احتضان السياسة لهذا الفكر الذي صوّر أنه هو الإسلام الصحيح، كان تحت مسمى الخلافة أو الدولة الإسلامية أو غيرها.
8- لماذا نسمع خطيبا في منبر صلاة جمعة، في دولة غربية احتضنته وأنفقت عليه ووفرت له الأمان وسمحت له في بناء منبره وممارسة شعائره بكل أريحية وأعطته مساحة من الحرية لا يحلم بربع ربعها في بلده الأصلي، يقول: “نحن في دار كفر“، رغم الحياة الديموقراطية والعلمانية التعددية في الدين والسياسة التي تحيط به وينعم من خيراتها؟
في الحقيقة لا يوجد شيء اسمه دار إسلام ودار الكفر، أو دولة إسلامية ودولة غير إسلامية، هذه مصطلحات بدعية نشأت لاحقا، فالرسول الأكرم -عليه الصلاة والسلام- عندما وصل إلى المدينة أصدر قانونه المدني بين الأطياف في المجتمع، وأقر الأمم الأخرى على ممالكها.
وعندما توفي ظهر الصّراع القبلي الذي تحول لاحقا إلى حكم وراثي، وأضيف إليه المرويات ليعطى صبغة دينية باسم الله، من هنا كان التطور السياسي في المجتمعات الشرقية تطورا بطيئا جدا كالحال في أوروبا قبل الثورات الإصلاحية والتنويرية.
وعليه الأصل في الحكم أنه جانب مدني يحفظ جميع الأطياف بما يحقق العدل والمساواة والشراكة بين الجميع، وبما يحفظ الدين والفكر والنفس والعرض والمال والنسل، ولا علاقة له بتصنيف.
نعم قد يكثر في هذا الأقليم المعتنقون للدين الإسلامي أو المسيحي أو الهندوسي ونحوه، ولكن الذي يجمع بينهم الحكم المدني الحافظ للجميع، ولا يمكن تصنيف هذا بأنه دار إسلام أو دار كفر، ومنهم من يصنف هذه الدار بأنها دار توحيد، وأخرى دار شرك، وهذه كما أسلفت تصنيفات بدعية ما أنزل الله بها من سلطان.
9- يرى البعض أن جل المشروعات الإسلامية التي تحاول الموائمة بين الواقع والإسلام يوتوبية وافتراضية وغير قابلة للتطبيق الفعلي وأكبر دليل هو استمرار الواقع المر الذي تعيشه الدول العربية الآن. ما هو رأيك في ذلك وما هي أقرب المشاريع التي تراها أكثر قربا للواقع سواء كانت على شكل منظم وجماعي أو فردي؟
المشروعات الإسلامية إن صح التعبير هي ردة فعل في الغالب نتيجة إقصاء لعقود يفتقد التجربة والخبرة، وقد يكون أيضا نتيجة غلبة الجانب السلفي الأخباري على غيره، ومع هذا في الأصل – كما أسلفت – لا يوجد شيء اسمه الحكم الإسلامي أو مشروع إسلامي، وإنما يوجد حكم مدني.
وعليه فالخطاب الديني بهذه الصورة يعرقل المسيرة الإصلاحية، والمستفيد هو الاستبداد، والخاسرون هم الإسلاميون أنفسهم.
ثم إنّ فشل هذه التجارب نتيجة طبيعة لما أسلفت بيانه، ونتيجة تراث متراكم أضفى انعكاسا سلبيا نجد ثمرته المرة في المجتمعات العربية خصوصا، والذي ولد جماعات متطرفة جدا لا تقبل بالرأي الآخر.
10- الصورة النمطية السابقة التي أصبحت معتادة ويمارسها بعض المسلمين في البلاد الغربية التي احتضنتهم ووفرت لهم حقوقهم الإنسانية وأمنت لهم ممارسة طقوسهم، توضح لنا مدى حاجتنا الملحة للنقد التاريخي والفيلولوجي الذي يطبق على القرآن قبل الحديث والسيرة النبويّة بحكم أنه المصدر الأول الذي يحمل طابع قطعي الثبوت عند جميع المسلمين والذي يمكن من خلاله أن تبدأ مرحلة الانطلاق والنهوض والتنور من الظلام كما أثبت لنا الواقع بعيدا عن تنظيرات الإسلامية اليوتوبية التي تحاول التوحد بالله عن الأديان الأخرى بفاشية استعلائية عن طريق فكرة خير أمة أخرجت للناس، وعن المذاهب الأخرى بشيزوفرينية مقيتة أخرى عن طريق حديث الفرقة الناجية. وأن الطريق إلى التعددية السياسية يبدأ ببوابة التعددية الدينية كنتيجة للتفكيك والنقد للمقدس. ما هو رأيك؟
النقد ميزة فطرها الله تعالى في الإنسان، وميزه عن غيره من الجنس الحيواني، فالإنسان ناقد بطبعه، ومفكر بفطرته، واجتماعي في جنسه، والقرآن أمر الإنسان بالسير في الأرض، واكتشاف سننها، وإدراك تأريخ من سلف: قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض، وهذا لا يكون إلا بوسائل المعرفة ومنها النقد والشك المعرفي.
بل حتى في خلق الإنسان أمرنا القرآن بالسير في الأرض لمعرفة كيف بدأ الخلق، قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق، وهذا يجعل الباب مفتوحا أمام النظريات العلمية ونقدها.
والقرآن أمر في التراث بإعمال العقل والتدبر ونهى عن التسليم له “قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون”، وفي قراءة القرآن أمرنا بالتدبر فيه والنظر مع وضوحه وبيانه، فكيف بكلام غيره من البشر: “ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب”.
فالنقد مجال واسع مفتوح، ومحاربته يؤدي إلى جمود المعرفة، ثم التعصب حولها، وبلا شك المتضرر هو المجتمع الإنساني ذاته. أما قضية الخيرية في قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس”، فالمراد به الجنس البشري بتوحيده لله تعالى وتطبيقه القيم العليا التي أمرت بها الرسالات من عدل وقسط وشهادة لله تعالى، وليس مجرد أغنية يتغنى بها كما تغنى اليهود بقوله تعالى: “يَا بَنِي إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين”، فزعموا أنهم شعب الله المختار، وأنهم أفضل خلق الله، وما عداهم حيوانات وثنية خلقت لخدمتهم، فعاثوا في الأرض فسادا، وحرفوا شريعة الله ووصاياه، إلا من رحم الله منهم، فجعلوا من أحبارهم أربابا من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل باسم الله والنذور والمعبد، وسفكوا دم الأبرياء.
فلا ميزان عند الله لجنس أو لون، الإسرائيلي والعربي والهندي والفارسي عند الله سواء، العربي والعجمي سواء، الأبيض والأسود سواء، الغني والفقير سواء أيضا، إنه ميزان الله العدل، لا قيمة لجنس أو مال أو لون عند الله، تغنَّ بما شئت، وافتخر بمن شئت، ولكن اعلم أن كل هذا لا قيمة له عند الله إلا عملك فقط، “أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر”.
هذا الفهم الخاطئ عند بني إسرائيل ذاته تكرر عند هذه الأمة، ففهمت قوله تعالى: “كنتم خير أمة أخرجت للناس” فهما جنسيا قوميا، بل وتصورت نطقها للشهادتين يشفع لها إجرامها وغيها بدون توبة وأوبة ومراجعة، وانتسابها للإسلام غطاء تغطي به سوآتها، كما أنّها تعصبت للجنس العربي وأنه أفضل أجناس الأرض قاطبة.
في المقابل كم من الدماء التي تُسال باسم الإسلام والطائفة، والله تعالى يقول في وصاياه: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بِالْحَقِّ”، فأي دين يبيح أن يفجر الإنسان نفسه في محفل أو صومعة أو حافلة أو سوق وهو ينطق الشهادتين، وأي دين يبيح أن يكّفر المسلم أخاه، ويلعن هذا ذاك، ويبيح قتل هذا، ألا ترون المئات بالأمس ماتوا من البرد والتشريد، واليوم يموتون من الحر، لقد بلغ صراخ أطفالهم السماء، وأنين مرضاهم ونسائهم مبلغا لا يعلمه إلا الله، وكل ذلك باسم أننا خير أمة أخرجت للناس.
أغنياء يحتكرون السوق ويستغلون حاجة الناس ليطففوا في الميزان باسم الله أحيانا، وأحبار يبيحون لهم، والقانون يشفع لهم، ليتصدقوا بعد ذلك بفضالة مالهم بعد ما أكلوا واستغلوا حاجة غيرهم.
فضاعت هنا الخيرية والتفضيل الإلهي، ليحل محلها الفهم البشري المتحايل على وصايا الله تعالى وقيمه، ليحقق أكبر قدر من مصالحه الذاتية دينيا وسياسيا ومجتمعيا باسمها.
وأما الفرقة الناجية فهو أيضا تحيل وتقليد للأم السابقة التي زعمت أنها هي الناجية، وهذه الرواية تتعارض مع كتاب الله تعالى، “وَقَالُوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
فالجنة والنار بيد الله وحده، لا يشاركه أحد في تقرير مصير العباد، فهو صاحب الملك، المتفرد سبحانه، وإليه الحكم وحده جلّ جلاله.
والحكم على الآخرين أنّهم من أهل النار، إنّما هذا تالٍّ على الله – تعالى -، وإيجاد أسس وقواعد نجعلها أداة لإدخال هذا في الجنة، وإدخال ذلك في النار، حيث إنّ هذه الأسس مستنبطة من تفاسير بشرية، أضفنا إليها صفة الربانية والإلوهية، وقويت بروايات بعيدة عن كتاب الله – تعالى -، هذا بدوره كان من أهم آثاره التطاول على الله في قضايا غيبية، ممّا أورثت التفرق والبغضاء والقمع الفكري، فضلا عن إسالة الدماء، وقتل الأبرياء في كثير من الأحيان.
11- ما رأيك في المنادات والتي تدعو رجال الدين للعودة للمسجد والبعد عن الحياة العامة، فهناك من يعتقد أنه من يريد المسجد يعرف طريقه، ومن يريد منهم المشاركة في الحياة العامة؛ فليشارك كمواطن فقط. حيث يستند هذا الرأي على نموذج أوروبا والتي لم تنهض إلا عندما حيدت رجال الدين عن الحياة العامة والعلم؟
المسألة فيها عموم وخصوص بسبب الخلط بين النّص المقدس والتفاسير البشرية، لأنّ النص المقدس لم يعطِ هذه الصورة الكلاسيكية للتدين، وإنما جاء بالقيم العليا لينزلها العباد واقعا وتطبيقا، وفق الزمان والمكان. إلا أنّ التدين انحرف ليصير وفق صورة معينة يختزل فيها الدين، ولو كانت ذاتها بعيدة عن الدين!!!
والقرآن في الحقيقة جاء لمحاربة رجال الدين، والذين كثيرا منهم عادوا الأنبياء، فالذين كانوا وراء قتل يحيى ومحاولة صلب المسيح هم رجال الدين.
ويقول الله تعالى عنهم: “يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم”، وهذا يعم جميع الملل والنحل.
وعليه الأصل في المنظور القرآني لا يوجد شيء اسمه رجل دين ليعطى ميزة عن غيره، كان باسم السماحة أو الآية أو الفضيلة أو القس، أو الحبر أو غيرها من الأسماء، فالناس سواسية، والقيم الكلية واحدة، والإضافات من صنع البشر لا تضاف إلى الدين والله، فيكون من قبيلة التأله والافتراء على الله تعالى. والمسجد في الأصل جزء من المجتمع المدني الذي يكون فاعلا اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وليس مجرد صومعة لا أثر له في الحياة!!!
12- بعيدا عن التنظير والنقاشات العامة، أين ترى الواقع العماني والسجالات الفكرية بين الفرق الفكرية العمانية إن صح التعبير في ما ذكر؟
في الحقيقة لا زالت السجالات المعرفية أو الفكرية في المجتمع العماني ضعيفة جدا، أو في أغلب المناطق ميتة تماما، ولهذا نجد البطء الشديد في التطور المعرفي، حتى على سبيل الجامعات والكليات المعرفية، فضلا عن الإعلام والصحف.
والسبب يعود إلى عدم اهتمام الجهات المختصة بذلك، أو لأنها تحب الهدوء والاتكاء على رموز معينة واتجاه واحد، وعليه حدث غلق بعض الصوالين، والتشديد في فتح المجال للصحف والشراك الإعلامي.
وزاد معدل النقاش بصورة محدودة مع انفتاح وسائل التواصل الاجتماعي مع العراقيل التي تدور حولها. وعليه يصعب الحديث عن السجال الفكري العماني لعدم وجود حقيقة واقعية له إلا لماما!!!
13- من وجهة نظرك ما أهم مؤاخذاتك على المدرسة الأصولية والعقلانية حيث أنهما الأبرز حاليا في عمان؟
في الحقيقة لا يوجد صراع بين المدرستين الأصولية والعقلانية في الجانب العلمي المنهجي المعرفي النقدي، والصراع الحاصل الآن أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع، وخلق مصطلح وهمي أقرب إلى الإقصاء الديني. وعليه يكون الصراع أقرب كما أسلفت في الأول إلى الصراع السلفي العقلاني منه الأصولي العقلاني، وذلك لتأثر المدرسة الإباضية بالخط السلفي كغيرها من المدارس الأخرى.
14- ماذا يعني لك هذا المصطلح “مشايخ السلطة” وما مدى حقيقة واقعية هذا المفهوم في الواقع العماني؟
مشايخ السّلطة موجودون منذ القدم، وهم الذين وقفوا حتى ضد الأنبياء والمصلحين، وليس المراد بهم وظيفيا أي من كانت لهم وظائف رسمية كالمفتي ونحوه، وإنما من يبيعون مبادئهم مقابل حفنة من المال أو الكرسي، وليس شريطة أن يكون لهم وظيفة دينية أيضا، فقد يكون شاعرا أو أديبا أو كاتبا أو صحفيا أو طبيبا.
ثم ليس الوقوف مع السلطة ذم، ولكن المذموم أن يكون مع الظلم والخطأ الذي تمارسه السلطة ضد الناس أو الضعفاء، فيبرر ذلك باسم الله أو النص المقدس أو أي نص بشري آخر.
الخلاصة مشايخ وكتاب السلطة هم الذي يبيعون مبادئهم، ويحرفون النصوص والقيم لمصالح دنيوية فانية، ولا علاقة له بالوظيفة، وليس محصورا في الأحبار فقط.
15- هل تؤيد أن يكون هناك دستور علماني قائم على مفهوم المواطنة فقط من حيث الحقوق والواجبات الذي يستدعي حذف عدة نصوص قانونية من الدستور العماني أهمها المادة 1 التي تنص أن الدولة إسلامية، والمادة 2 التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام والشريعة الإسلامية هي أساس التشريع، ولماذا؟ وأيهما يشكل ضمانة مستقبلية؟
أنا شخصيا مع الدولة المدنية التي تضمن العدالة للجميع، وتعطي الحرية للناس وفق قيمهم ومبادئهم وأديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم، وتفتح المجال للناس للعمل وفق مؤسسات العمل المدني، ولست مع التصنيف العلماني الذي يكون متطرفا في علمانيته، ولا مع المتدين الذي يكون متطرفا في تدينه، فكلاهما يجعل الأرض خرابا، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وإنما أنا مع المجتمع المدني الذي يتحقق فيه سنة التدافع في الأرض.
16- لو كان لك مشروع فكري مكتوب ماذا ستكون أهم معالمه؟ أعني أن كل إنسان شاء أم أبى يحمل في أعماقه مجموعة من القناعات أو الفلسفات تكونت عبر الزمن نتيجة تجارب عدة وقراءات مختلفة ومتنوعة ومتواصلة، صرح بها أم لم يصرح، لكنها تنعكس في ممارساته وأفعاله اليومية وطبيعة نظرته للحياة. ما هي أهم فلسفاتكم وقناعاتكم؟
لا أزعم أنني أحمل مشروعا، وإنما أستفيد من المشروعات الإصلاحية في العالم، وعلى رأسها الإصلاح الديني، للعودة إلى القيم الكبرى، وعلى رأسها قيمة الإنسان الذي له مطلق الحرية في الوجود، وله الحق أن يعيش متساويا مع غيره، لا يفرق بين الإنسان وأخيه حدود ولا دين ولا منهج، فالذي يعيش في أدغال أفريقيا نفسه الذي يعش في أمريكا، والذي يعيش في روما نفسه الذي يعيش في مكة، من حق هؤلاء جميعا الكرامة الإنسانية المطلقة، وهذا ما جاءت به رسالات السماء لولا تحريف الأحبار لها.
17- ماهي تطلعات وآحلام العبري لشكل عمان الجديدة على مستوى الأصعدة التي ذكرتها؟
أتطلع في عمان والعالم العربي والإنساني إلى مجتمع مدني حر، وفق قانون عادل مستقل، وفتح المجال للجيل الجديد في ممارسة شراكه المدني وفق القانون، وتقوية الجانب المعرفي، واستقلال الأمة اقتصاديا، والعدل في كل شيء ومنه العدل الاجتماعي، ووجود مؤسسات ناقدة لتوجيه المجتمع ليكون مواكبا للأمم المتقدمة تقدما واقعيا لا مقنعا، أو رومانسيا كما أسميته.