منذ صدور التشريعات واللوائح المؤسسة للدولة العمانية الحديثة، ولا تزال علاقة الإنسان العماني بهذه القوانين والرغبة المستمرة لتطويرها بما يخدم كافة ميادين الحياة أهم القضايا الجدلية في المجتمع العماني. وفي السنوات الأخيرة تعززت المطالب الرامية لتعديلات القوانين والأنظمة في كافة الجوانب الإدارية والحياتية والعلمية والإنسانية في المجتمع العماني وبات الحديث عن علاقة الفرد بهذه القوانين وتحقيقها للمصالح في منظومة الحياة ومستوى وعي الأفراد بالقوانين إحدى القضايا المثارة في مختلف وسائل الاتصال الحديثة. نبني هذا الحوار القانوني مع الكاتب والمحامي سامي السعدي للحديث عن ركائز القانون وآلية تعزيزه مجتمعيا والتحديات التي تواجه هذا البناء المهم في المجتمع.
– مع اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، تتلاشى القدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية
– الوعي ينبغي أن يكون مسبوقا بوعينا بحقوقنا الطبيعية وأن النص القانوني مهمته تأكيدها لا تقييدها
– الرقابة على أداء المؤسسات الحكومية يتأكد بالفصل الحقيقي بين السلطات الثلاث
– المؤسسات الحالية في عمان معنية بالمعرفة القانونية لكنها لا تحقق الوعي القانوني
– عملية خلق قانون التشريع من حيث الوقت، هو شأن يخضع للإرداة السياسية ولا ارتباط له بالبناء القانوني.
1- تشكلت عدد من القوانين المنظمة لمجالات الحياة على مدى مايزيد عن 45 عاما الماضية، وبنت تطورها على عدد من الاستحقاقات المختلفة، بين تلك الاستحقاقات التي تعنى بتطوير منظومة مؤسسات الدولة أو تلك التي تعنى بحماية حق الأفراد ومصالحهم وتمكين مؤسسات المجتمع من أداء أنشطتها، ومع هذا التطور تتزايد رغبتنا في الربط بين مستوى انسجام هذه المنظومة من القوانين وقدرتها على الإيفاء برغبة الأفراد بتحقيق معدلات جيدة في العدالة الاجتماعية، هل يمكن القول إن ذلك قد تحقق فعليا؟
أعتقد أن أصل الأشياء هو المسار الصائب، وأن نواميس الحياة الطبيعية كفيلة بجعل الحياة عادلة ومستقرة، وأن القوانين هي نتاج وليست مصدرا، وأن الظلم هو من يملك وجودا ذاتيا وليس العدل. وحيث إن مصطلح العدالة الاجتماعية هو مزيج من نظام اجتماعي واقتصادي محكوم بمنظومة قانونية تنشد تكريس العدالة والمساواة ومكافحة الظلم الذي تنتج عنه الفوارق الاقتصادية بين طبقات المجتمع الواحد، لنبقى على الأصل المتمثل في مشاركة الجميع في خيرات المجتمع. بهذا المعنى نستطيع القول إنه -وعلى مستوى العالم- هناك اجتماع تصادق عليه الأرقام، بأن العدالة الاجتماعية تم اغتيالها، وأن الفجوة بين أثرياء العالم وفقرائه تزداد اتساعا.
2- في السلطنة، يواجه القانون عددا من الإشكاليات بينها تراجع أدور المؤسسات الداعمة للقوانين ودورها في إرساء وعي قانوني، ما مبررات هذا التراجع وأسبابه الفعلية؟
هنا علينا أن نفرق ونفصل بين أمرين هما: المعرفة القانونية والوعي القانوني. ففيما يتعلق بنشر المعرفة القانونية فهناك تزايد في عدد المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لنشر المعرفة بالقانون، وبمختلف وسائل التواصل التقليدي منها والحديث. وهذا في حد ذاته جهد محمود، إعمالا لقاعدة ((ما لا يدرك كله، لايترك كله)).
أما الشق الثاني المتمثل في (الوعي) القانوني، وهو المصطلح الذي تم توظيفه في السؤال، فأنا اتفق معك في قلة من حمل على عاتقه هذا العبء. وآية ذلك، أن الوعي بالقانون غايته سبر القانون وتشريحه وتبيان هناته ومثالبه بالتوازي مع تبيان ميزاته وإيجابياته.
الوعي يقتضي إيضاح مدى اتفاق النص القانوني مع المصادر الطبيعية للقانون (المشروعة) والحقوق الطبيعية للإنسان والمواطن، ومدى توافقه مع الدستور الوثيقة الأعلى في البلاد. ذاك الوعي ينبغي أن يكون مسبوقا بوعينا بحقوقنا الطبيعية وأن النص القانوني مهمته تكيدها لا تقييدها. أن نعي معنى الحياة والحرية والمواطنة. إذا ما تحقق ذلك الوعي، عندها تسهل عملية وعينا بحقيقة القانون المخاطبين به، من حيث غايته ووجهته ومدى مشروعيته. لأن الوعي بالشيء يستوعب معرفته، والعكس ليس صحيحا.
3- إحدى القضايا الجدلية في عمان الآن هو ذلك التداخل المريب والذي يدفع للشك في كثير من الأحيان بين اختصاصات المؤسسات حسبما تنص القوانين المختلفة المنظمة لها إضافة لتلك الثغرات التي تحملها جميع القوانين واللوائح العمانية والتي تقف عائقا أمام العمل على كثير من الجوانب الحياتية المتصلة بجهود المؤسسات وآلية نشاطاتها وبين حقوق الأفراد أيضا. برأيك، كيف يمكن القضاء على تداخل الاختصاصات بين المؤسسات وبالتالي القضاء على الثغرات القانونية التي يمكن أن تخلقها؟
أما عن تداخل الاختصاصات للسلطات الرئيسية الثلاث، فإن ذلك لا يتأتى إلا بفصل السلطات عن بعضها البعض فصلا حقيقيا لا صوريا، والفصل الحقيقي لا يتأتى إلا بتمكين كل سلطة من مراقبة السلطة الأخرى. وتبرير ذلك مفاده أن جمع السلطات في يد واحدة هو عين الاستبداد، بغض النظر عن النتائج التي يمكن أن تنبثق ونسبية صلاحها ونجاحها. ولذلك ذهبت المنظومة التشريعية في بلدنا عمان إلى تبني مبدأ الفصل بين السلطات، وأن الدستور هو الوثيقة الأعلى والأسمى التي يجب الخضوع لها حتى تتصف الأعمال بالشرعية.
4- ماهي السبل إلى بناء ثقافة قانونية في المجتمع المدني؟
الثقافة القانونية فإنها تبنى بوعي الإنسان بداية بحقوقه وواجباته، وأول تلك الحقوق هي الحقوق الطبيعية المنبثقة من آدميته وإنسانيته ومواطنته، كذلك أن يعي المواطن قيمة القانون وذلك بإعماله بشكل عام ومجرد، بعيدا عن الأهواء والمحسوبية.
5- تؤدي المؤسسة القضائية في عدد من دول العالم دورا فاعلا في ضمان استمرار الرقابة على المؤسسات الحكومية والخاصة المختلفة، ألا يبدو هذا المجال مهملا في السلطنة وما أساليب تعزيز أدواره؟
فيما يتعلق بالرقابة على أداء المؤسسات الحكومية فهذا يتأكد مرة أخرى بالفصل بين السلطات، وهو المبدأ الذي يتيح لكل سلطة مراقبة السلطة الأخرى وفق القانون. والمثال على ذلك أن السلطة التشريعية تراقب من خلال التزامها بنصوص وقواعد الدستور (وهنا نبدي أمنياتنا بوجود محكمة دستورية) ليتجلى جانب مراقبة الجهة التشريعية في أبهى صورها، لأن اكتمال المنظومة القانونية لا يتصور بدون محكمة دستورية تحمل على عاتقها مراقبة أي خرق دستوري، وقمع أي تشريع ينحرف عن هدي الوثيقة الأسمى.
ولا يمكننا التسليم بفرضية الصحة والدقة عن كل ما يتمخض من السلطة التشريعية فهذه جهود بشرية قابلة للنقص والخطأ في عدد كبير من الحالات لا سيما مع اتساع مفهوم الدولة وتعدد مؤسساتها.
أما عن السلطة التنفيذية فحركتها المتمثلة في القرارت واللوائح، يتمثل القانون كقيد رئيس عليها أن تنضوي تحت مظلته وتسير على هديه الذي رسمه لها. وحيث إن أعمالها قد تصطدم بشخص الإنسان فهنا يمكن التصدي لها بواسطة محكمة القضاء الإداري. وهناك رقابة أخرى تطال المؤسسات الحكومية يمارسها عليها الشعب عن طريق مجلس الشورى بما له من صلاحيات تشريعية ورقابية ومالية، رغم محدودية تلك الوسائل. وهو الأمر الذي يجعلنا ننشد مساحة رقابية أكثر اتساعا لهذا المجلس.
6- ارتبط استحداث قوانين جديدة في الدستور العماني بأحداث سياسية شهدتها السلطنة، ولعل القضية الجدلية منذ أحداث 2011 هو مدى قدرة خدمة الأنظمة والقوانين لمختلف الحريات المدنية وقدرة الأفراد على المشاركة السياسية، فما مدى خدمة القوانين لمثل هذه القضايا وقدرتها على الاستجابة المستمرة لمتطلبات الفرد؟
إنني أود أن أوضح أن الغاية أو الباعث من إصدار القانون هو شان سياسي، ولا سلطان على الجهة التشريعية في ذلك. غير أن القيد يتمثل في ضرورة أن يكون ذلك القانون متفقا مع قواعد الدستور، وإلا وقع في حوبة عدم الدستورية.
أشرت إلى أن عملية خلق قانون التشريع من حيث الوقت الذي يصدر فيه والموضوع الذي يتناوله، هو شأن سياسي وليس قانونيا. وعليه لا يمكننا التكهن بما يضمره المشرع للمستقبل. سواء كان المصدر متمثلا في الحكومة أم مجلس الشورى. غير أنني أمني النفس بتعديلات تطال قانون الإجراءات الجزائية، وكذلك قانون العقوبات في بعض موادها. إضافة إلى القوانين المتعلقة بحرية الصحافة وما يتعلق بالجمعيات وبعض القوانين العقابية التكميلية.
7- ماهو دور الإعلام الحكومي والخاص في إرساء الوعي الحقوقي في المجتمع المدني؟
ما يعنيني في الإعلام كرجل قانون هو الإعلام المتخصص، وأعني هنا الإعلام القانوني الذي يتعهد بنشر الوعي والثقافة القانونيين بحيدة ومهنية وتجرد. أعني المجلة القانونية والعمود القانوني والقناة والإذاعة القانونيتين. أعني الإعلام الذي يستقبل النص القانوني بتجرد مهني، يضع إصبعه على المثالب ويبرز الإيجابي فيه. يستجلي الغاية والمقصد، يقارب بين الآراء، ويطرح الأضداد. إعلام يصنع فكرا قانونيا حقيقيا لا صوريا، يكون لنا مآقي لا يلتبس عليها الحق والباطل.
حاورته: بسمة البادية