أتاحت مواقع التواصل الاجتماعي الفرصة أمام الشباب الواعي، الراغب في تحسين الحالة العقلية العربية للتعبير عن آرائهم وأفكارهم المختلفة، حتى أكثرها تطرفا. ولأن الإسلام يشكل مرجعية فكرية بالنسبة للعالم العربي، وجه هؤلاء الشباب أقلامهم ناحية نقد بعض الظواهر في الدين الإسلامي. وركزوا عدسة الفحص عليه ليظهروا ما يكتنفه من أفكار ودعوات تناقض الأفكار والدعوات الإنسانية التي يدعون -هم- إليها، كل ذلك في محاولة لاستفزاز الوعي الجمعي هذا، وتحريك الراكد منه. يبدو أن هذه المحاولات تنجح أحيانا، لكنها تبوء بالفشل الذريع في أحايين كثيرة؛ وذلك لسبب بسيط متمثل في التطرف الذي يبدو عليه نقدهم هذا، واستخفافهم بمشاعر هؤلاء المؤمنين، مما يُنشئ رد فعل متطرفة بالنتيجة. كما أنهم -التنويريين إن جازت التسمية- لا يقدمون مشروعا بديلا من شأنه أن يحل محل الدين الذي يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلم، حتى قال الصحابي سلمان الفارسي ردا على من قال له: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، فقال له: “أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول” (صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الاستطابة).
ومن الظواهر الدينية التي ينقدها هؤلاء الشباب، ويرونها مناقضة لمبدأ حرية الاعتقاد الذي ينادي به الإسلام نفسه في قول الله: “لا إكراه في الدين” – ظاهرة كسر الأصنام والأوثان وطمس الصور، والنهي والنكير الشديد لمبدع أمثال هذه الأشياء. حتى اتصل النهي ليشمل التصوير الفوتوجرافي. ففي الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله قال الله : “ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة” لفظ مسلم. وفيهما أيضا عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله : “إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون”. ولهما عن ابن عمر، قال: قال رسول الله : “إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم”. وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة: “أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور”. (من فتوى للشيخ ابن باز في موقعه الرسمي).
ولعل الدافع الذي جعل هذه المسألة تظهر على السطح، هي أفعال ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)؛ حيث كسروا التماثيل الآشورية القديمة في الموصل بعد استيلائهم عليها في مارس الماضي. يشكل هذا الفعل استفزازا لمشاعر هؤلاء التنويريين الإنسانيين؛ إذ تمثل هذه التماثيل القديمة تأريخا لحقبة زمنية ضاربة في عمق التاريخ، كما أنها تهدد مكونا من مكونات الهوية العراقية، وبالتالي تؤثر في موقع العراق بين الأمم الحضارية القائمة. وهم –التنويريين- محقون في دعواتهم تلك لنقد الدين، من باب أن المرجعية الفكرية تتحمل جزءا من المسؤولية تجاه أفعال معتنقيها، مع العلم أنه لا ينبغي تغييب الفرد تماما، وتبرئته من فعله؛ لأنه مختار لأفعاله وأقواله اختيارا تاما، ولذلك فإنه يتحمل -من وجهة نظري- الجزء الأكبر من مسؤولية أفعاله تلك.
يغيب عن ناظري التنويريين أمر بالغ الأهمية، قد وعاه الإسلاميون في بعض المسائل دون غيرها (مثل الخمر والرِّقّ)، أعني مسألة القراءة النسقية لأي ظاهرة بما في ذلك تلك الدعوات الإسلامية لتكسير الأصنام. إن هذه القراءة تتيح لنا الوقوف على ذلك الرابط بين الدعوة، بما هي الشكل، والداعي لها، بما هو المعنى- وبالتالي نفهم تلك الدعوات ونتفهمها، ولا نظلمها باقتطاعها، ومحاكمتها بأدوات لا تقيسها فنكون كمن يقيس زاوية بمسطرة لا منقلة.
حدد جابر عصفور المستويات العلائقية بين القارئ والنص المقروء إلى أربع مستويات: علاقته (أي القارئ) مع تراثه المقروء، علاقته بالأنساق المعرفية في عصر القراءة، علاقة المقروء نفسه بنسقه في عصر إنتاجه، وعلاقة نسق المقروء بغيره من الأنساق المعاصرة أو السابقة. ويؤكد عصفور أن أي قراءة تتغافل الأنساق والحقول المعرفية هي قراءة ناقصة غير ناجعة، تؤدي إلى نظرة جزئية، وتحرم القراءة من زاوية كبرى تسع معها حدقتا العينين في الرؤية. (إكدير، القراءة النسقية للتراث النقدي والبلاغي، ص4-5).
سيكون هذا النموذج الذي اقترحه عصفور سائغ الاستخدام في الحالة التي نتحدث فيها عن تلك المرحلة التي أنتجت نصوصا تدعو إلى تدمير كل ما يتعلق بالتماثيل والتصاوير في عصر تشيع فيه عبادات متعلقة بها – إذا ما نظرنا إلى الخطاب الإسلامي بأنه حالة نقدية لتلك العبادات، تحولت فيما بعد إلى ثورة على المستوى العملي. وعليه، فإن أي قراءة تعزل تلك النصوص عن راهنيتها النسقية ستكون “قراءة ناقصة غير ناجعة، تؤدي إلى نظرة جزئية، بل تحرم القراءة من زاوية كبرى تسع معها حدقتا العينين في الرؤية”.
إن نظرة فاحصة لحالة العرب قبل الإسلام (وهو النسق المقصود) من تشتت لهذه القبائل، وتفرقها بين البوادي والسهول، واستقلالية كل قبيلة بمقوماتها الاقتصادية والسياسية – لتعطينا مؤشرا على سبب انتشار الآلهة الكثيرة، واختصاص كل قبيلة بإله خاص بها. يقول جواد علي في الفصل الثاني والستين من كاتبه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام): “كان لكل قبيلة إله خاص بتلك القبيلة يحميها من الأعداء ومن المكاره، ويدافع عنها في الحروب والملمات، ويعطيها النصر. كما كان للقرى والمدن آلهتها الخاصة بها. فإذا تحالفت القبائل أو القرى أو المدن تحالفت آلهتها معها، وكونت حلفا وصداقة متينة بينها. أما إذا تحاربت هذه القبائل أو القرى أو المدن، فيكون لهذه الحرب أثر كبير في مستقبل الآلهة وفي عددها”.
لقد كان النبي محمد على وعي بالآثار الاقتصادية والسياسية لتلك المعرفة، أعني بالمعرفة تلك التصورات المتعلقة بالآلهة، التي تسوغ الحروب بين القبائل (بتحالف الحاكم والكاهن)، وتبرر عبودية الإنسان لإنسان آخر. فأخذ يؤسس لثورة ابتدأت بزعزعة المعرفة تلك، والعمل على توحيدها؛ لأنها الضامن للتحسينات الاقتصادية والسياسية طالما تشدق العرب بأنهم محكومون من قبل آلهة تأمرهم بما تشاء. فكان خطابه موجها لتلك الآلهة كي لا يبقى أمام الطامع السياسي أو الاقتصادي من مبرر للظلم الذي يمارسه.
وكما هو طبيعي عندما يراد نشر فكر مغاير، فإنه يتم البدء بتفكيك البنى المعرفية للفكر السائد، ونقدها، استعدادا لهدمها وبناء الفكر الجديد على الفكر الجمعي. فعندما رحل أفلاطون بمثاليته، أتى تلميذه أرسطو بماديته، ناقدا أفكار أستاذه، وقالبا إياها رأسا على عقب، في جدلية معرفية خالصة. وبالمثل، فقد جادل النبي محمد البناء المعرفي المتعدد الآلهة، وفككه ليهيئ الأرض لمشروعه الإصلاحي-المعرفي.
إن معظم الأحكام الفقهية كانت قد صيغت في المدينة المنورة، وإذا ما نظرنا إلى آيات الأحكام فسنجد أن 83% منها مدنية التنزيل، مقابل 17% مكية. وذلك اعتمادا على عدد الآيات المفسرة في كتاب “الإحكام في تفسير آيات الأحكام”، وبالنظر إلى تصنيف السور حسب تنزيلها في مصحف المدينة النبوية المطبوع في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. وفي هذا دلالة على أن تلك الأحكام، وغيرها المبثوثة في كتب الأحاديث النبوية، إنما كلفت بها الأمة في “الدولة”. أقول “الدولة” لما في التكليف من التزام يقع على أفرادها، ولذلك، فإن بعض هذه الأحكام لا تسري على أهل البوادي فيما يعرف بـ”الفقه البدوي”. كما أن كلمة “الدولة” تعني السلطة، وهذا ما يبرر ذلك الخطاب المتعالي لتلك النصوص الناهية عن التصاوير والتماثيل.
في ذلك النسق المتخم بالجدل بين بناءين معرفيين، كان من الطبيعي أن يحمي النبي محمد حمى التوحيد الذي جاء به، من أجل أن يكون البناء محميا من الثورات الداخلية عليه، ولأنهم كانوا حديثي عهد بالإيمان التوحيدي. لعل سائلا يقول: فلم لم يتعامل الدين مع الأصنام المعاملة التي عامل بها الخمر، أعني التدريج في التحريم؟ والجواب عن ذلك أن التوحيد تنبني عليه مسائل اقتصادية واجتماعية حساسة، على خلاف موضوع الخمر فإنه أهون مقارنة بالتوحيد.
بهذا، نكون قد وضعنا تلك النصوص في نسقها التي أنتجت فيه؛ في محاولة لقراءتها وجوديا، واستشراف المعنى الذي غيب خلفها وقدمت لنا معرفة خاوية. وبالتالي، يبقى السؤال الآن: هل يعني وضع تلك النصوص في أنساقها أنها لم تعد ذات معنى؟ أو هل يعني ذلك أن التماثيل والتصاوير لم تعد محرمة -على اعتبار أن الحال الراهنة مختلفة-؟ حسنا: لماذا لم يحطم المسلمون الفاتحون للعراق طوال القرون الماضية تلك التماثيل والتصاوير؟ أو أن “دواعش” اليوم أكثر إيمانا من المتقدمين؟ أو أن تلك الآثار عميت عليهم فلم يروها؟ أما أنا فلا أظن أيا من ذلك؛ لأن الفاتحين لم يعودوا حديثي عهد بالإيمان، وقد تمكن من قلوبهم، وبالتالي لن تهدد عشرة تماثيل إيمانا راسخا في قلوبهم. لذلك، قبل أن يدعو الفقهاء إلى تكسير الأوثان وطمس التصاوير، عليهم العمل على إصلاح المجتمع من الظلم، كما فعل النبي محمد إن أرادوا اتباع سنته في الدعوة بحق.
أخيرا أقول: علينا ألا نحمل الدين ما لا يحتمل، سواء كنا فقهاء أو “تنويريين”؛ وأن نهدأ قبل أن نصدر أحكامنا.