في بلد من بلدان كرمان القديمة وفي زمن بعيد سحيق، كانت هنالك أميرة جميلة تحمل مسؤولية عظيمة، وتلك الأميرة دائماً ما أوجه لها كلاماً مكررًا ومعادًا، ولكن ينبغي التذكير به والتنبيه إليه لخطورته ولإبراء الذمة، لعلها تسمع صوتا آخر غير أصوات المصفقين لها ليل نهار، أميرتي الفاضلة هل سمعت يوماً بفيلسوف ومفكر يطلق عليه مراد وهبة، إني أشك في ذلك، فلو كنتم قد سمعتم به لما حصدتم مراكز متأخرة جداً في قطاع التعليم عالمياً، وما زلتم وستظلون ما دامت العلة موجودة، فهذا الرجل يقول لكم “بأن مملكتكم قد قامت بتدمير الإبداع فمناهجكم التعليمية تعتمد على الحفظ والتلقين والاستمرار المتعمد للعيش وفقاً لحقبة الكتاتيب” ولا يوجد جريمة أفظع من هذه، فالمراقب للشأن التعليمي الخاص بمملكة كرمان يجد بأن مسؤولية تطوير التعليم تقع دائماً على عاتق الموظفين في سابقة هي الأولى من نوعها في الممالك المشابهة لكم، فلا يوجد جهاز تعليمي رشيد في العالم يضع ملف التطوير والتغيير في يد مجموعة من الموظفين والذين لا حول لهم ولا قوة إلا إذا قُصد بذلك عدم التحرك والبقاء في نقطة تم احتجازنا فيها منذ أكثر من عشرين عامًا، وبهذا يدخل كل فعل يخرج من تلك المؤسسة التعليمية ضمن خانة الفوضى والبروباجندا، والنتائج خير شاهد على ذلك.
فنحن ندور حول دائرة مفرغة، فالطفل المواطن يحاط منذ الحضانة بكل ما يقتل الإبداع واستثارة الفكر ثم يحاصر بالغش الجماعي والمقبول مجتمعياً ثم يتحول إلى حاسب آلي يحفظ كل شيء كي يدخل أي شيء، وبعد أن يتخرج من تلك الكلية أو الجامعة والتي لا يعرف أساساً لماذا هو فيها؟ وكيف دخل إليها؟ يبدأ بممارسة كل ما غُرس فيه حينما كان إنسانا آلياً، وتجده حريصا باستماتة على البقاء تحت مظلة العقل الجمعي بغض النظر عن الخطأ والصواب، فعقله ومجتمعه يوهمه بأن أي خروج عنهم سيعد جريمة وإثارة للقلاقل والفتن، ولهذا سرعان ما يرجع إليهم ويحتمي بظلهم الخيالي كلما أراد التفكير والتحليل، وبالتالي فقد تم وبنجاح خلق منظومة تتسم بالجهل والفوضى وباستمرارية زمنية وثبات مثير للاهتمام، ولهذا فإن تلك المنظومة نجدها تخلق لنا كل يوم خللا جديدا في نظامنا التعليمي ذي الأساس الهش والمهترئ أساساً، وهذا بدوره سيمزق شيئاً فشيئاً النسيج المجتمعي، وعواقب نظرية الفوضى هذه قد تهدد الإنسان الكرماني بصورة واضحة قريبا.
فأنتم يا أميرتي الفاضلة قد صنعتم صندوقا ووضعتم فيه شريحة المعلمين والإداريين وغيرهم، ثم أغلقتم عليهم لسنوات طويلة بالشمع الأسود، ولم تسمحوا لأي إضافة جديدة بأن تدخل الى ذلك الصندوق، إلا إضافاتكم ومعلوماتكم ورؤيتكم أنتم فقط، وبهذا أصبحتم المصدر الوحيد للمعرفة بالنسبة لهم، وأي شيء قد تقررونه ستسمعون التصفيق والتنفيذ له فورا بعد طرحه وبدون نقاش، وإذا ظهر فيهم مخلوق واع يشبه شارلوك هولمز بتحريه الدائم وحبه للمعرفة والعلم، تحاصرونه وتكبلونه بسياسات قتل الطموح والإبداع التي تطبق، وإذا لمع نجم أحد فيهم بداخل الصندوق أخرجتموه ووضعتموه في منصب ما، وقلتم له “تفضل، ابدأ بعملية التطوير”، وأنتم تعلمون جيدا بأنه لن يستطيع بل من المستحيل أن يفعل ذلك، فهو أولاً لم يؤهل لذلك وثانياً هو محاط بمجموعات من البشر مهمتها الوحيدة إبقاء كل شيء كما كان، فتغيير الأمور معناه تغييرهم من أماكنهم بلا شك، ولهذا فهم يستميتون دائماً وأبداً على البقاء في النقطة نفسها، ولهذا سيفشل ذلك المغضوب عليه لا محالة، فكأنكم تقولون لسكان الصندوق: حتى أبناء شريحتكم الصندوقية لن يتمكنوا من تغيير الواقع التعليمي، وبهذا تخلقون حالة من التشاؤم والانصياع لأي شيء تقررونه بعد ذلك، وينبغي أن أعترف لكم بأنها سياسة ذكية للغاية، فلو تستخدمون هذا الجهد وهذا التنظيم في رفعة مكانة “كرمان” لكان الأمر جميلا ومشرفا.
فإذا كنتم فعلا جادين في عملية الإصلاح التعليمي كما تقولون لدمجتم الوزارتين معا (وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي) كي توحدوا السياسات التعليمية وتفتحوا مجالا لخصخصة التعليم مستقبلا، ولتوجهتم إلى بناء الإنسان بدلاً من العمران.
وقبل أن تفكروا حتى بإحداث نقلة نوعية في التعليم وجب إحداث تغيير جذري في أداء الإدارات التعليمية نفسها، فأداء العاملين فيها يشبه قصص “المعذبون في الأرض” للأديب طه حسين، يقنعون أنفسهم بأنهم يمشون وفقا لنظام الجودة، وهم لا علم لهم حتى بالنظام الإداري، فحينما تراجعهم بشأن معاملة ما تصاب بالذهول! فأنت لا تعرف كيف وصلوا لهذه الكراسي؟ ولماذا هذه القطيعة بين بعضهم البعض؟ وكيف ما يزالون على قيد الوظيفة؟ وكلما راقبتهم ورصدت تصرفاتهم ازددت حيرة وتعجبا بين ما ينشر في وسائل الإعلام عنهم من جهة والواقع الميداني من جهة أخرى، إلا أن بداخل تلك الإدارات قيادات خام بالإمكان تدريبها وتثقيفها كي تحل محل القيادات الأولى المهترئة، وكي تزداد دافعيتهم للعمل وجب تطبيق الفلسفة العسكرية الخاصة بمسائل الثواب والعقاب وبكل صرامة وحسم وسرعة، فلم يعد يوجد وقت لكلمة “الأمور طيبة” بعد اليوم، وأحب أن أذكركم كذلك بمسألة دوران العمل الأفقي والرأسي فهو أمر أساسي في نظام الجودة الذي من المفترض أنكم تمشون وفقا لبنوده، وعلى هذا ينبغي تفعيل بنود هذا النظام وقد نخطو بعدها خطوة بسيطة إلى الإمام.
وما نحتاجه بعد تغيير أداء الإدارات التعليمية هو خطة ثلاثية عاجلة لتحويل مدارس التعليم إلى مجتمعات تعلم رقمي مع وضع آلية للتنفيذ والمحاسبة، وتطبيق استراتيجيات التربية المدرسية الذاتية والمجتمعية وفقا للمدخل الديمقراطي في التربية والتعليم، وبهذا سيتحول المعلمون من ملقنين ومصادر مطلقة للمعرفة إلى موجهين ومشرفين وسيتعرف الطلبة على كيفية الإدارة بصورة ذاتية ومن ثم أهمية العمل الجماعي بينهم، وبهذا سيتم تفعيل أصواتهم وسيشعرون بأن المدرسة منزلهم والأرض أرضهم، ومن هنا يُخلق الولاء والانتماء للأرض، وهذا ما نحتاجه في الوقت الراهن أميرتي الفاضلة خاصة بعد التطورات العالمية الأخيرة المتعلقة بالشأن السياسي. وكل هذا لن يحدث إلا بوجود شيء يطلق عليه هيئة ضمان جودة التعليم، وتعد هذه الهيئة إحدى الركائز الأساسية لإصلاح التعليم، فهي الجهة المنوط بها لنشر ثقافة الجودة في المؤسسات التعليمية، والتي يجب أن تتمتع بالاستقلالية التامة، ومهمتها ستكون نشر تقارير تقييمية للمؤسسات التعليمية أولاً بأول، وفقا لمعايير قومية تتسم بالشفافية والموضوعية وتتلاءم مع المعايير القياسية الدولية، وبهذا ستساعد هذه الهيئة على تحقيق الميزة التنافسية محلياً وإقليمياً ودولياً، ونظام الجودة سيكون آنذاك أمراً واقعياً وملموسًا وليس فقط ورقياً يتم التباهي به.
إن مملكتك في خطر أميرتي الجميلة فهي تُخرج كل عام مخرجات بشرية غاية في السوء وذات توجه قيمي مختلف ومشوه عن القيم الإنسانية، والتي تميز بها سكان مملكتك قديمًا، (وهي علشان مشيت حلواني خربت والمستوى انحط) وستؤدي في النهاية إلى تحويل مملكتك إلى مكان كئيب يشبه أعماق ساكنيها، فاهتمي بسكان الصندوق فبهم قد يحول المستحيل إلى ممكنا.