بعد ما يقارب من عقدين مضت على مهرجان مسقط السياحي والتحولات والمراجعات التي حصلت على مستوى بيئة المهرجان والتغييرات التي أضيفت في مراحل مختلفة في فعاليات المهرجات والأجندة التي طرحت فيه ومستويات التجديد والابتكارية التي باتت واضحة في بعض جوانبه، يأتي طرحنا للموضوع من خلال معستوى الثقة التي استطاع المهرجان ترسيخها في المستهدفين من برامجه وفعالياته وأنشطته، وبمعنى آخر هل أوجد المهرجان على مدى السنوات السابقة قاعدة شعبية له على مستوى الفعاليات والبرامج؟ وهل استطاع فعلا مراعاة مختلف الأذواق أو الأفكار من خلال ما أوجده من حزم تطويرية جديدة في السنوات الأخيرة منه؟ وهل استطاعت الحُزم الجديدة ذاتها المتعلقة بمنظومة القيم والعادات والتقاليد والموروث الحضاري العماني، وما ارتبط ببرنامج “أصالة” وغيرها أن تُوجِد تحولا في القناعات حول الحاجة إلى هذا المهرجان؟ وهل قدّم المهرجان فعلا رؤية جديدة تعكس وتثري دوره كأحد برامج التنمية الوطنية التي تستهدف بناء إطار عمل موحد تتكاتف بشأنه مؤسسات الدولة والقطاع الخاص آخذة في الاعتبار التحولات الحاصلة في منظومة العمل الوطني ومراعية التأثيرات الاقتصادية الناتجه عن تدني أسعار النفط وقدرتها على استيعاب المعطيات المرتبطة بموقع المهرجان في قناعات المواطن وسلوكه وثقافته؟ وهل ساهم الحضور الشبابي في المهرجان عبر السنوات الماضية في تحقيق مكاسب أفضل كرصيد عزز من قيمته والحاجة إليه؟ ثم هل كانت المؤشرات الاقتصادية والسياحية والإنتاجية والتسويقية واضحة وأعطت قراءات دقيقة لدور المهرجان في تحقيق البعد التنموي؟ وما الجهد التنموي المرتبط بالعوائد التي حققها المهرجان على المشروعات التنموية في محافظة مسقط مثلا أو حسب المجالات التي أبرزتها فعاليات المهرجان كالتراث والمسرح والابتكار وغيرها؟
تساؤلات عديدة تتطلب بلا شك مراجعات متعددة مقنعة وإطار عمل واضحا تنطلق منه رؤية الجميع حول نوع المهرجان الذي نحتاجه كوطن ومواطن ومقيم، إن قدرتنا على الإجابة عنها قد تفتح لنا مداخل نوعية في التطوير وتبرز لنا تحولاً، ليس فقط في فعاليات المهرجان ومحتوياته والتي هي مجال واسع للتطوير والابتكارية؛ بل في قدرة المهرجان على إحداث تحول في سلوك المواطن وفي تفسيره للمفاهيم والمصطلحات التي يتلقاها حول محتويات المهرجان، وهي نقاشات وحوارات تؤكد لنا حقيقة مهمة وهي أن الموضوع بحاجة إلى مزيد من الوضوح والشفافية حول المنجز الوطني الحقيقي لمهرجان مسقط، ومدى ما يلمسه المواطن والمقيم من نجاحات المهرجان على مسيرة التنمية الوطنية، وما إذا كانت هناك من توجهات أخرى بالإضافة البعد الاستثماري والبيئة الاقتصادية والترويج لاتفاقيات لوجستية متكاملة تتزامن مع فعاليات المهرجان وتضمّها بيئته.
إن ما سبقت الإشارة إليه يضعنا أمام قراءة للمنجز الوطني لهذه المهرجانات وعلاقته بغايات التنمية وبرامج التطوير الوطني، واستيعابها لمفهوم التحول وقدرتها على خلق مناخات أكبر للشراكة وتأصيل رؤية التطوير المعززة بروح الشباب والموجهة بمعايير الخُلُق والذوق، والقادرة على تغيير بعض الأفكار السائدة حول هذه المهرجانات وتأثيرها على منظومة القيم والأخلاق، وبالتالي أن تبرز تحولات العمل فيها مناخات جديدة مبتكرة تتجاوز حدود المعتاد في البرامج أو الأنشطة والفاعليات، لتبرز فيها جوانب الابتكار المتعددة الذي يتجاوز الكلمة إلى الآلية والطريقة والمنهجية، وأن يبرز التواجد الشبابي فيها لتعميق قيمة التراث المادي وغير المادي كقيمة حضارية للأمة يتجاوز حدود التطبيل والتصفيق والدندنة والرقص والإعجاب إلى تبني روح التراث في النفس والقناعة به كمدخل للتغيير، وانتهاجه في إطار سلوك وطني يقوم على إتقانه المخلصون والمبدعون من أبناء الوطن، فهو بذلك فرصة لتقييم التراث ومراجعته وإعادة تهذيبه وصقله في إطار تنوع الثقافات واتساع أفق المنجز الثقافي العالمي، وليتحول الاهتمام بأدب الطفل والتأكيد عليه كمدخل لإضافة ألوان جديدة مبتكرة لسلوك الطفولة في مراحل تعلمها وثقافتها وطبيعة الدور المأمول منها في مستقبل الأيام، إن القدرة على تغيير نمط الفكرة وأسلوب التعبير من كون المهرجان مجرد ترويح للنفس وترويج سياحي إلى كونه بناء ثقافة عالمية قادرة على إيضاح الصورة للطفولة والشباب بما يتميز به أدبهم وثقافتهم وجوانب التميز لديهم من جهة، ومفهوم العالمية في أدب الطفولة وثقافتها ومداخل التغيير والحاجة إلى تعرف ثقافات الآخر المشترك والتواصل معه في إنسانية الثقافة وعالمية الفكر؛ سوف يثمر عن تحولات نوعية في قدرة المهرجان على رصدها بشكل يخدم التنمية ويوفر لها مداخل أكبر للإنتاجية لتبقى في ذاكرة الأجيال في عمق التجربة والمساحة المتاحة للطفولة والشبيبة لممارسة هوايتها.
إن الحديث عن مهرجان مسقط ينبغي اليوم أن يقدم أنموذجا حضاريا للعمل من أجل التنمية ويبرز فيه دور المواطن كشخص منتج قادر على إحداث التحول، فالمهرجان لدى المواطن فرصة أعمق لبناء الذات والقدرة على فهم التغيرات في واقع متسارع، مدرك لقيمة المعرفة الجادة الأصيلة والثقافة الرصينة والفكر المعتدل والممارسة الهادفة، ويعي في مجتمع القيم معايير الذوق والحرص على أن تبقي كل البدائل والخيارات الإيجابية مفتوحة تعمل من أجل استقطاب فهم الإنسان وعقله وتتجاوز مجرد نطاق التفكير البسيط لديه، إنها تمنحه فرصا متجددة لحياة ملؤها شغف المعرفة والتطلع على عادات وقيم وأخلاقيات الشعوب وثقافتها الشعبية التي أتته حاضرة إلى مسقط بثقافتها البسيطه وعلى طبيعتها الأساسية لتتمازج في ظلها مخيلته وتسمو فيها ذاته، التي تنتقل للاختيار من بين واحات متعددة وأزهار متنوعة في أروقة المهرجان.
هذه القراءة ينبغي أن تشكل اليوم مدخلا مهما في فهم طبيعة مهرجان مسقط الذي يحتاجه المجتمع، يجد فيه من الطبيعة العفوية والبساطة ما يزيح عنه هم التكلف ويمسح عنه ضباب الكلمة وصعوبة فهم الموقف، لتتحاور مع البعد الثقافي والحضاري والتاريخي أبعاداً أخرى في جماليات الطبيعة الحيوية في بيئتها الطبيعية والاصطناعية نباتاتها وأشجارها وزهورها، إلى بيئات حيوانية تستدرك الطبيعة الحيوية والمناخية لعمان، ومستوى التمازج في البيئة البحرية والسهلية والجبلية وبين البيئات الأخرى العالمية، وبالتالي تبرز قيمة جمالية الطبيعة وحياتها البحرية كمعزز مهم للشغف المعرفي الذي يحتاجة الانسان العماني “الصغير والكبير، والرجل والمرأة”، لتعطي هذه الالتفاته منحى آخر يمكن خلاله تقييم بيئات الحياة والتفكير المستقبلي في إمكانية توطينها في بيئة عمان الجميلة، إن البحث في التحولات التي تفسر حاجتنا للمهرجان يستدعي قدرتنا على تحويل هذه المؤشرات الإيجابية النوعية إلى لغة رقمية في المنتج الذي يمكن أن يقدمه وجود هذا المهرجان على الناتج المحلي والقيمة المضافة له على موازنة الدولة، وما يمكن أن يحققه من أرباح وفرص تشغيل وتوظيف وأعمال لوجستية وتوريد وغيرها ونسبة مساهمة الكفاءة العمانية بها، إن وجود هذه اللغة الرقمية كإطار تقييمي تعكسها الإحصائيات وما يمكن أن تحققه على الرصيد الوطني في ظل الفرص التي أوجدتها؛ سوف يعزز بلا شك من التقدير الاجتماعي لها ويضيف المهرجان إلى قائمة طموحات التنمية.
وعليه فإن الوصول بهذه التوجهات إلى مرحلة العمق في قراءة البعد التنموي والإنساني لمهرجان مسقط سوف يزيل بلا شك سوء الفهم الحاصل بشأن الهدف منه والغايات التي يحققها، والقراءة النوعية التي تبحث عنها مجتمعات التنمية اليوم لا تقتصر على الأعداد التي تزور المهرجانات فقط، بل مستوى تواجد التنمية الوطنية فيه والنتائج النوعية التي يحققها للإنسان العماني ومن خلاله بما يمثله من أنموذج حضاري راق في التعامل مع الآخر ونقل صورة عمان للعالم أجمع، ومقارنة الجهد المقدم في المهرجان بالعوائد المترتبة عليها ومدى قدرتها على تحقيق تحولات إيجابية في مسيرة التنمية الوطنية، وبالتالي أن تبرز قراءات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات أبعادا تحليلية أخرى تتجاوز عدد الزوار للمهرجان إلى قراءة القيمة المضافة التي حققها على المستوى الشخصي والوطني، وهنا تأتي قيمة المراجعة والتقييم والرصد كأحد مداخل التغيير التي نحتاجها لكسب الثقة وتعزيز روح الإيجابية في التعاطي مع نتائج المهرجان ومستوى الحاجة إليه، كما أن هذا التقييم ينبغي أن يتجاوز إيجابيات المهرجان إلى الإشارة إلى الصعوبات والتحديات المرتبطة به ومستوى تأثيره على الشخصية العمانية ذاتها وتفهمه لطبيعتها وقدرته على نقل صورتها الصحيحة في الواقع للآخر ممن يزورون المهرجان والدول المشاركة فيه، وبالتالي التحولات التي أكسبها للشخصية العمانية وفق مؤشرات تحقق سابقة ومؤشرات أداء ختامية تقيس نوعية المنجز المتحقق من مهرجان مسقط، هذا الأمر يؤكد على أهمية العمل في أكثر من مسار في عملية التقييم والرصد تقرأ مهرجان مسقط من زوايا عدة وتقيمه وفق نماذج تقييم دقيقة وأسس علمية صحيحة ومقارنة ذلك في ظل الأهداف والغايات الوطنية العليا بتوظيف التقنية المختلفة وشبكات التواصل الاجتماعي في رصد دوري لكل أبعاد المهرجان وما يمكن أن يضيفه للشخصية العمانية ولمنظومة التطوير والسياحة والفنون والمعرفة والثقافة والتنمية والاقتصاد والاستثمارات العمانية، مراعية في ذلك متطلبات المواطن واحتياجات الشباب، وماذا يريد المجتمع من وجود هذه المهرجانات، والأبعاد النفسية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة به ومستوى استيعاب بيئة عمله الحالية لكل هذه التغيرات والطموحات.
ومع القناعة بأن المهرجانات السياحية أصبحت تشكل اليوم أحد برامج التنمية التي تعتمدها الدول لتعزيز مناخات الشراكة الداخلية والخارجية فإن وجوها في الحالة العمانية واستدامتها يرتبط بقدرتها على خوض رهان كسب الثقة التي يمنحها لها المجتمع بمختلف فئاته وهو ما لا يتم إلا من خلال وضوح أطر العمل وتأصيل ثقافة مجتمعية قادرة على فهم طبيعتها ورصد نواتجها وتعزيز مستوى الوعي والمعرفة بها، من خلال تبني سياسة الوضوح والشفافية والحوار الاجتماعي لتعميق قيمة المهرجان في ثقافة المواطن وترقيته في ممارساته.